الروسوفوبيا.. والمستحيل في علاقاتها الأميركية

د. فايز رشيد ( الأردن ) الجمعة 24/2/2017 م …

الروسوفوبيا.. والمستحيل في علاقاتها الأميركية

تسترعي انتباهي مقالات كثيرة تشوه الدور الروسي عربيا وبشكل أخص في سوريا,لذا, أراني منشدًّا إلى كتابة مقالتي هذه عن روسيا, انطلاقا من قضيتين, الأولى, أنني عشتُ فترة امتدت لاثني عشر عاما في الاتحاد السوفياتي, وعلى مرحلتين, أوج الاشتراكية, وما قبيل انهيار نظامها, ولأنني كاتب, كنتُ وما زلتُ مهتما بما حولي, أدعي أنني على بعض معرفة بالسياسية الروسية. القضية الثانية, أنني منذ عام ونصف تقريبا, ومن أجل الإعداد لكتاب عن روسيا الحالية, كنت في زيارة لبيلاروسيا وأوكرانيا وروسيا, امتدت أربعين يوما, حرصت خلالها على مقابلة مؤيدين ومعارضين لرؤساء الجمهوريات الثلاث, وفعلا نشرتها على صفحات العزيزة “الوطن”. ذلك, قبيل صدور كتابي بعنوان “أفولْ”, بالفعلْ, لقد عرضَ علي مستشار بوتين, ألكسندر فيودروفيتش بيريدنيكوف (عندما لاحظ اهتمامي بالسياسة الروسية) مقابلة رئيسه, لكن, كان يتوجب علي الانتظار عشرة أيام إضافية, وهو ما كان صعبا بالنسبة لي من زوايا مختلفة. اليوم, أعض أصابعي ندما, على تفويت تلك الفرصة.

جاء الرئيس بوتين بعد عهد الرئيس يلتسين, الذي أوصل أوضاع الاتحاد الفيدرالي الروسي إلى الحضيض. كان العالم يقرأ حينها, عن أبطال الحرب العالمية الثانية من الروس, الذين عرضوا نياشينهم وأوسمتهم للبيع في محطات المترو, الممتلئة بالمشردين, والشحاذين. وصلت روسيا في تلك المرحلة إلى القاع, حتى في تقييمها كدولة عالمثالثية! (حقيقة, لم أزرْ روسيا آنذاك, ولمرحلة ربع قرن زمني, حفاظاَ على ذكريات جميلة لي فيها, من قبل). حينها, تسولت روسيا حتى القمح من الولايات المتحدة والدول الغربية. هذا يتعاكس مع طبيعة الشعب الروسي متعدد القوميات, والمعتز بهويته وقوميته الروسية. ثم جرى انتخاب بوتين, وابتدأ خطوتين جذريتين: القضاء على المافيات الروسية الكثيرة والقوية, وإعادة كل مؤسسات القطاع العام إليه من جديد, بتخليصها من أبدي المليارديرات الروس, أو ما اصطلح على تسميتهم بـــ “الطغمة الأوليغاركية” في روسيا, وأعاد بوتين للدولة هيبتها, وتمكن من استخلاص الأموال من كل الذين سيطروا فعليًّا على الاقتصاد الروسي, أعاد إليهم أثمان ما دفعوه, وصادر الباقي, وكانوا قد اشتروها بأبخس الأثمان. خلال سنتين إلى ثلاثة, استطاع بوتين إيقاف الاقتصاد الروسي على قدميه, وجرت تصفية كل المافيات, وقسم كبير من المليارديرات الروس, فروا إلى الخارج, وبقي منهم عدد في روسيا. للعلم, مدفيديف لم يكن خيار بوتين لرئاسة الوزراء, بل كان شخصا آخر! لكن من فرضه, هم الأوليغاركيون, الذين انتعشت امبراطورياتهم المالية في السوق الاقتصادية المفتوحة والآمنة (وهذا هو الأهم), إضافة إلى زعماء الحركة الصهيونية المتغلغلة كثيرا في روسيا. ولذلك, فإن التفاهم الروسي – الأميركي في ظل رئاسة ميدفيديف, كان في أوجه, لهذا, لأول مرة يجري تطابق الموقف بين الطرفين في مجلس الأمن,على أن يقوم الناتو بضرب ليبيا. هذا القرار (صدقوني) ما زال يحز في نفوس العديدين من الأوساط الحاكمة الروسية.

بوتين, رجل روسيا القوي. هو مزيج من القيصر الروسي التقليدي, فهو الآتي من عاصمة روسيا القيصرية بطرسبرغ, وهو الذي يميل إلى الحكم المطلق, ومن الزعيم التقليدي في العهد السوفييتي رغم عدم انضمامه للحزب, وعندما خدم في الكي.جي.بي. كان تلميذًا لاندروبوف (الذي تولى الأمانة العامة للحزب فترة قصيرة – بضعة أشهر- ثم داهمه المرض, ويقال إنه توفي مسمومًا, من قبل المرتبطين مع الغرب في قيادة الحزب).اندروبوف هو الذي تصدى للغرب في فترة تسلمه للزعامة, وهو الذي حارب التسيب والبيروقراطية, والفساد المستشري في أوساط الحزب والدولة, ومن معطفه خرج بوتين, الذي هو بالفعل جعل من روسيا وريثًا للاتحاد السوفياتي. لذا, فإن سياسات بوتين, لها خلفيتها التربوية, المعبر عنها في سياساته الحالية. يظل بوتين منشدا إلى الحقبة السوفياتية, وعلى ذمة مستشاريه, بكى يوم انهيار الاتحاد السوفياتي, وانتهاء الحرب الباردة, ذلك الانهيار الذي وصفه بوتين في منتدى ميونيخ للأمن عام 2007 بأنه “اكبر كارثة جيواستراتيجية في القرن العشرين”. تلك القراءة, هي التي حكمت سياسات الرئيس الروسي, منذ ذلك الحين حتى الآن. من الطبيعي والحالة هذه, أن تشعر الولايات المتحدة بالقلق من بوتين, ومن الدور السياسي الروسي, المتصاعد عالميا بوتائر متسارعة.

لقد عاشت الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي, ودول المنظومة الاشتراكية, وانتهاء الحرب الباردة, مرحلة ذهبية, في عالم تميز بالقطب الواحد, وبقيادة أميركا للساحة الدولية, ومن ثم وبعد مضي عقدين من الزمن, ظهرت روسيا والصين كدولتين كبيرتين ومؤثرتين, إلى الحد الذي يمكن القول فيه: إن قطبًا عالميًّا آخر بدأ في التشكل في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها. هذا الواقع الجديد, يفرض حقائقه واقعاً على الأرض. إحدى هذه الحقائق: أن الولايات المتحدة لم تعد اللاعب الوحيد على الساحة الدولية, فروسيا والصين (وبخاصة الأولى) لهما وجهات نظر مغايرة لما تراه واشنطن وتحدده من مواقف سياسية, وعلى سبيل المثال لا الحصر: القضية السورية, والمشروع النووي الإيراني, وكذلك حقيقة أن كوريا الشمالية أصبحت لاعبًا نوويًّا, بحيث بات من الصعب توجيه ضربة عسكرية لها, من قبل الولايات المتحدة ودول المعسكر الغربي.

بالنسبة للتدخل في سوريا, أذكر أن لقاءي بمستشار بوتين كان في يوليو 2015, وعندما سألته عن الموقف الروسي مما يجري في سوريا؟ عبر عن امتعاض روسيا من التدخل الأميركي الغربي فيها, بعيدًا عن التفويض الدولي. تلخص رأيه يومها في التالي: أن ما يجري في سوريا يؤثر بشكل مباشر على روسيا. (للعلم, الفيدرالية الروسية تعتبر كل جمهوريات آسيا الوسطى: كازاخستان, أوزبكستان وقرغيزستان), خط الدفاع الأول عنها. أخبرني يومها بالحرف, ستسمعون قريبا في الشرق الأوسط, أخبارا عن خطوات مهمة ستتخذها روسيا. حاولتُ بشتى الوسائل والطرق, الاستفسار منه عن ماهية هذه الخطوات, رفض الإفصاح, وبالفعل في 30 سبتمبر كان التدخل الروسي. ووفقا لمستشار بوتين الثاني أوليغ إيفانوفيتش فومين, فإن هناك معهدين في موسكو ملحقين بوزارة الخارجية, الأول, برئاسة المحافظين التقليديين. الثاني من الليبراليين, الداعين لعلاقات متنامية مع أميركا والغرب, يكون بوتين مساء كل يوم أمام تقريرين مختلفين حكما في الرأي, لأحداث اليوم نفسها من المعهدين, وفي النهاية, يتخذ قراره منفردًا. ولهذا تسري مقولة في روسيا, فحواها, “لا يعرف ما في رأس بوتين, إلا بوتين نفسه”.

نقول ذلك, لأن كثيرين من الاستراتيجيين يرون, أنه في زمن ترامب ,سنشهد تقاربا أميركيا روسيا. باختصار, هذا مستحيل, لأن المجمع الصناعي العسكري المالي الأميركي (الحاكم الفعلي للولايات المتحدة,لن يسمح بأي تقارب أو تفاهمات روسية – أميركية.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.