يكذْب الإعلام السعودي عندما يوجّه بعض كتّابه لإدانة الداعية بندر الخيبري الذي قال منذ أيامٍ إن “الأرض ثابتة ولا تدور حول نفسها” باعتباره طارئاً على مؤسسات بلاده وثقافتها، بينما هو في الواقع أحد موظفي فرع وزارة الشؤون الإسلامية في المدينة المنورة، وأرشيف الجرائد يثبت أنه قد ألقى محاضرةً الشهر الماضي في مدينة سكاكا ضمن جولاته الاعتيادية بين المحافظات السعودية، ناهيك عن زياراته إلى الخارج بغرض تعميم أفكاره.
على العالم كلّه أن يجعل سخريته من هؤلاء الدعاة عابرةً وموجهةً إليهم بوصفهم أفراداً لا يمثلون بلداً أو فكراً بعينه، بينما الحقيقة الغائبة أن هناك نصوص وتفسيرات دينية مركزية صُنعت بمزيجٍ من التخلف والكراهية، ولا يسمح لأحد الاقتراب منها، أو الاختلاف حولها في السعودية، ولا في مناطق نفوذها العابر للقارات.
وتنصاع مؤسسات دينية رسمية وكليات شريعة في دول إسلامية للمشاركة في مؤتمر “الإسلام ومحاربة الإرهاب”، الذي انطلق يوم أمس في مكة المكرمة، وتنظمه رابطة العالم الإسلامي بحضور الخيبري وأمثاله، من أجل غاية واحدة وهي تبرئة الفكر الوهابي ودولته الحاضنة من تهمة الإرهاب باستخدام آلية معروفة الأدوات والثمن، وتتلخص بإثبات أن مرجعيات هذا الفكر ونصوصه قد أسيئ تأويلها من قبل داعش أو أية تنظيم وحركة سيدمغها المجتمع الدولي بـ”الإرهاب” مستقبلاً.
تصرّ السعودية على مكافحة الإرهاب، في مؤتمرها، بتخصيص ورشة حول تطبيق الشريعة والحكم الإسلامي الرشيد، مستلهمة هذه المفاهيم من صلب تجربتها الممتدة أكثر من مائة عام صادرت خلالها الحريات وجميع الآراء المخالفة لها.
“رشد” قد يفاجئ البعض حين يعلمون أن المؤسسة الدينية السعودية أقصت حتى أتباع المذاهب الحنفية والشافعية والمالكية من كوادرها، ودعمت في الخارج كل تنظيمات السلفية الجهادية عبر العالم؛ بالنصوص الفقهية والمال والإعلام، في مناطق صراع من أجل تقوية ومساندة نفوذ حليفها الأمريكي، بدءاً من أفغانستان، ولم تكن توقف الدعم عن تنظيم معيّن إلاّ حين كان يطلب الأمريكان منها ذلك.
يتصدر المؤتمر الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي، أستاذ أصول الفقه بجامعة أم القرى، الذي سيدخل عما قريب موسوعة جينيس للأرقام القياسية عن عدد تغريداته على التويتر، ويدافع في معظمها عن السعودية، كونها “الدولة الوحيدة في تاريخ الإسلام التي قامت على عصبية التوحيد“، فالخلافات السابقة؛ عثمانية وأيوبية وأموية وعباسية وغيرها، قامت على عصبيات قبلية، من وجهة نظره!
السعيدي يوصف بأنه أحد المشايخ “المعتدلين”، لكن اعتداله لا يمنع من تكفير المسيحيين واليهود على موقعه الإلكتروني، كما أن جدله ينحصر في ضرورة أن تعترف كل الفرق والمذاهب الإسلامية بأنها افترت على الوهابية حتى يُغفر لها وتخرج من دائرة التكفير.
يرفض السعيدي كما أمثاله من الوهابيين أي مراجعة ونقاش لكتاب “الدرر السنيّة”- ستة عشر مجلداً تضم رسائل وفتاوى وأدبيات محمد بن عبد الوهاب وفقهاء نجد-، حيث يكفّر كلّ من يطعن بهذه المجلدات وكل من يدّعي، مثل داعش، أنه يطبق ما جاءت به، وبذلك نكون قد وصلنا إلى جوهر العقيدة الوهابية التي لا تقبل سوى تأويلها للنص فقط بما يخدم مصالحها، وهي بالطبع تفرض نصوصها التي على الآخرين الاقتناع بها وحدها من دون الاجتهادات الفقهية الأخرى.
إزاء هذه الوصفة الوحيدة لتأويل النص؛ لا يكون حضور باحثين يوسمون بـ”التنوير” إلى المؤتمر، وعلى رأسهم رضوان السيد، إلاّ حضوراً شكلياً يشابه انخراط وزارات أوقاف ومراكز بحثية ومؤسسات مجتمع مدني قدمت من دول إسلامية وغربية لتبيض وجه المملكة ووهابيتها.
للنزاهة والموضوعية، لن يشكّل هذا المؤتمر سابقةً خطيرةً بأن يهرع شيوخ وأدعياء فكْر لتأييد الحركة الأشد تطرفاً في الوجود؛ إذ تروي المراجع أن علماء الأزهر انقسموا بينهم حين طلب إبراهيم باشا دعمهم في حملته للقضاء على مملكة آل سعود الأولى قبل نحو مائتي عام، وساند رجال دين عرب وأزهريون الدعوة الوهابيةً التي كفّرت من تريد من القبائل العربية لتؤسس المملكة السعودية للمرة الثالثة عبر التاريخ.
التعليقات مغلقة.