بحث هامّ … لينين أمام إشكاليات الثورة الاشتراكية في روسيا

 

 

د. ماهر الشريف ( الثلاثاء ) 14/3/2017 م …

بحث هامّ … لينين أمام إشكاليات الثورة الاشتراكية في روسيا

كيف يمكن للثورة الاشتراكية أن تنتصر في بلد لا يمتلك، بسبب ضعف تطور الرأسمالية فيه، قاعدة مادية متقدمة لبناء الاشتراكية، وهو الشرط الذي كان كارل ماركس قد وضعه لانتصار الاشتراكية في بلد من البلدان؟

من هذا السؤال انطلق لينين، مبرهناً على وجود الرأسمالية في روسيا، التي كان يشكك في وجودها “الشعبويون” الروس، ومظهراً أن السمات الخاصة التي تتسم بها هذه الرأسمالية، وبالأخص ضعفها، تجعل إمكانات انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا أكبر من إمكانات انتصارها في أي بلد آخر من البلدان الرأسمالية المتطورة، وتتيح للطبقة العاملة فيها فرصة التحوّل إلى محرّك لهذه الثورة.

كان لينين قد أطلق على الأحداث الثورية التي شهدتها روسيا سنة 1905 اسم “البروفه العظمى” للثورة. وكانت تلك الأحداث قد انطلقت عقب يوم “الأحد الدامي” في 9 كانون الثاني 1905، عندما قامت قوات الشرطة بارتكاب مجزرة ذهب ضحيتها عشرات العمال الذين كانوا يتوجهون في مسيرة سلمية إلى قصر القيصر نيقولاي الثاني في مدينة سان بطرسبورغ كي يقدموا له عريضة تتضمن عدداً من المطالب الاقتصادية والديمقراطية. فما بين شهرَي كانون الثاني وتشرين الأول من ذلك العام، شهدت روسيا إضرابات واضطرابات وتمردات عديدة، كان من ضمنها تمرد بحارة المدمرة “بوتمكين”، كما شهدت، وبخاصة بعد تأكد هزيمة روسيا في حربها ضد اليابان، تزايد التململ من الحكم القيصري داخل أوساط الليبراليين، الذين انتظموا في شهر أيار في إطار حزب “الدستوريين الديمقراطيين” (الكاديت). وما بين شهرَي تشرين الأول 1905 وكانون الأول 1905، تصاعدت حدة الإضرابات والاضطرابات، وانتشر على نطاق واسع شكل السوفييت، بصفته إطاراً تنظيمياً يؤطر العمال ويمثلهم.

لقد كان لينين، الذي وصل إلى سان بطرسبورغ في تشرين الثاني 1905، من أنصار تحويل تلك الأحداث الثورية إلى انتفاضة مسلحة تمهد الطريق أمام قلب حكم القيصر. بيد أن موازين القوى لم تكن تسمح بذلك في تلك الفترة، ونجحت القوات الموالية للقيصر، ما بين شهرَي كانون الأول 1905 وكانون الثاني 1906، في تصفية سوفييت سان بطرسبورغ وفي سحق الانتفاضة التي كانت قد بدأت في موسكو ومدن أخرى.

ومهما يكن، فإن ثورة 1905 في روسيا عززت قناعة لينين باحتمالات بروز سيرورة ثورية في روسيا، تبدأ بإسقاط الأتوقراطية الروسية وتنتهي بإقامة حكم البروليتاريا، وجعلته يطرح جدياً فكرة أن الثورة الديمقراطية، “البرجوازية بمحتواها الاقتصادي والاجتماعي”، التي تشارك فيها البروليتاريا وتسعى إلى توسيع نطاقها وتعميق طابعها الديمقراطي، يمكن أن تتطوّر إلى ثورة اشتراكية. كما أن الانتصار الحاسم على القيصرية في روسيا يمكن أن يجعل الحريق الثوري يمتد إلى أوروبا ويمهد طريق انتصار الثورة الاشتراكية في عدد من بلدانها (1).

والواقع، أن الرأي القائل بأن إمكانات اندلاع ثورة ديمقراطية في روسيا هي إمكانات كبيرة، كان شائعاً في مطلع القرن العشرين في أوساط عدد من قادة الحركة الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية البارزين، ومنهم الألماني كارل كاوتسكي الذي كان، منذ سنة 1904، على قناعة بأن هناك مجموعة من البلدان الأوروبية، في مقدمها روسيا، كانت أكثر استعداداً للثورة من ألمانيا، على الرغم من تسارع وتيرة التطور الاقتصادي في ألمانيا وتعاظم الدور السياسي الذي تلعبه الاشتراكية الديمقراطية فيها. وفي الكتابات التي خصصها لروسيا ما بين عامَي 1905 و1907، اتفق كاوتسكي مع لينين حول عدد من الأمور المتعلقة بطبيعة الثورة الديمقراطية في روسيا، ومنها أن البروليتاريا، وليس البرجوازية، هي التي ستلعب الدور القيادي فيها، وأن التحالف بين العمال والفلاحين سيطبع الحركة الثورية فيها بطابع “ديمقراطي ثوري”.

بيد أن كاوتسكي اختلف مع لينين في تقديره لآفاق تطور هذه الثورة الديمقراطية في روسيا، إذ اعتبر أن مستقبل روسيا الاشتراكي سيبقى مرهوناً بانتصار الثورة الاشتراكية في بلدان أوروبية مثل ألمانيا، وأن هذه الأخيرة، بعد استيلاء البروليتاريا على السلطة فيها، هي التي سيكون في إمكانها أن تقدم إسهاماً حاسماً لتحويل الثورة الديمقراطية في روسيا إلى ثورة اشتراكية (2).

**

كانت الحرب العالمية الأولى التي اندلعت في آب 1914 وسببت لروسيا خسائر بشرية واقتصادية كبيرة وجعلت شعوبها تقف على حافة المجاعة، هي نقطة الانطلاق الحقيقية للبلشفية، بصفتها تياراً سياسياً متميّزاً داخل الحركة الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية. من الصحيح أن الانشقاق بين البلاشفة (الأغلبية) والمناشفة (الأقلية) داخل حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي في روسيا يعود إلى مؤتمره الثاني الذي انعقد في مدينتَي بروكسل ولندن سنة 1903، وسبّبه الخلاف على المسألة التنظيمية في المقام الأول، إلا أن التمايز السياسي بين هذين التيارين لم يبرز بصورة واضحة سوى بعد اندلاع تلك الحرب، التي كشفت، في نظر البلاشفة، “إفلاس” أغلبية زعماء الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية، وفي عدادهم المناشفة الروس، الذين وقفوا إلى جانب حكومات بلدانهم ودعموا سياساتها الحربية.

وبعد اندلاع الحرب العالمية، قام لينين بإغناء أفكاره عن الثورة الديمقراطية في روسيا وآفاق تطورها.

من الصحيح أنه لم يتخلَّ، في تلك الفترة، عن قناعته بأن الثورة الروسية ستتسم بطابع “ديمقراطي برجوازي” في بدايتها، إلا أنه صار ينظر إلى طبيعة هذه الثورة وإلى دور البلاشفة فيها نظرة جديدة.

فعلى أساس تحليله ظاهرة الإمبريالية، واكتشافه قانون التطور المتفاوت للرأسمالية، شدّد لينين على إمكانية انتصار الاشتراكية، في بادئ الأمر، في عدد قليل من البلدان الرأسمالية أو حتى في بلد رأسمالي بمفرده، معتبراً أن الدعاية الشاملة لإمكانية انتصار الثورة الاشتراكية يجب أن تمثّل مهمة رئيسية من مهمات الاشتراكية الديمقراطية “في الوقت الحاضر”. وبينما كان يرى، في السابق، ضرورة أن تتعلم البروليتاريا استخدام كل أشكال النضال في الثورة القادمة، صار يركّز، بعد اندلاع الحرب العالمية، على شكل النضال العنيف ويدعو إلى تحويل “الحرب الإمبريالية” إلى “حرب أهلية”. وفي حين كان مقتنعاً بضرورة تعاون الحزب العمالي مع الأحزاب الأخرى المناهضة للحكم القيصري، بما في ذلك مشاركة ممثليه مع ممثليها في الحكومة الثورية التي ستتشكّل بعد انتصار الثورة الديمقراطية، صارت تتعمق عنده، بعد اندلاع الحرب، النزعة الانعزالية، وتتزايد قناعته بالحاجة إلى تكريس القطيعة التامة مع “الانتهازيين والشوفينيين” داخل صفوف الاشتراكية الديمقراطية الروسية. وإذا كان قد وجد، منذ وقت مبكر، في الفلاحين حليفاً للبروليتاريا في الثورة الديمقراطية، معتبراً أن هذه الثورة ستتخذ، بعد انتصارها، شكل “ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية الثورية”، فإنه راح يركّز، بعد اندلاع الحرب، على دور الأمم والشعوب التي يضطهدها الحكم القيصري، بصفتها حليفاً ثورياً آخر للبروليتاريا في النضال من أجل إسقاط القيصرية (3).

هكذا كانت، بصورة ترسيمية، تصوّرات لينين وأفكاره عند اندلاع ثورة شباط 1917، تلك الثورة التي كانت، من حيث طبيعتها، ثورة “ديمقراطية”، شاركت فيها قوى سياسية عديدة جمعها قاسم مشترك هو إسقاط الحكم القيصري. وكانت أحداث تلك الثورة قد بدأت بتحرك بادر إليه حزب البلاشفة الذي دعا لجانه الحزبية في مدينتَي بتروغراد (سان بطرسبورغ قبل سنة 1914) وموسكو إلى تنظيم إضراب عام في ذكرى التظاهرة السلمية التي جرت في 9 كانون الثاني 1905 في سان بطرسبورغ وسقط خلالها عشرات القتلى من العمال على أيدي قوات الشرطة. ثم اندلعت في الأيام اللاحقة إضرابات وتظاهرات دعا إليها حزبا البلاشفة والمناشفة، وانضم، في10آذار، جنود عدد من الوحدات العسكرية في مدينة بتروغراد إلى العمال المضربين، وتشكّل مجلس سوفييت في المدينة، ضمت لجنته التنفيذية ثلاثة نواب من الدوما، وهي هيئة شبيهة بالبرلمان، وممثلين اثنين عن المناشفة، وممثلين اثنين عن البلاشفة، وثلاثة ممثلين عن حزب الاشتراكيين الثوريين، الذي كان يحظى بنفوذ واسع في الأرياف. وبعد أن أخذت الثورة تمتد إلى المدن الأخرى، وفي مقدمها موسكو، التي راحت تظهر فيها مجالس للسوفيتيات، اضطر القيصر نيقولاي الثاني، في منتصف آذار، إلى التنازل عن العرش، وبادر حزب الديمقراطيين الدستوريين (الكاديت) إلى تشكيل حكومة مؤقتة، برئاسة الأمير لفوف، لم تعمر طويلاً، لعجزها عن الانسحاب من الحرب “الإمبريالية” وتحقيق الإصلاح الزراعي في الأرياف وتحسين ظروف عمل العمال ومستوى معيشتهم. وتحت تأثير الضغط الشعبي، تشكّلت حكومة إئتلافية جديدة ضمت ممثلين عن الأحزاب البرجوازية، وبخاصة حزب “الكاديت”، وممثلين عن المناشفة وعن حزب الاشتراكيين الثوريين.

**

كان لينين قد أرسل خلال شهر آذار1917، من منفاه في مدينة زيوريخ، خمس رسائل، “رسائل من بعيد”، إلى جريدة البرافدا، يحث فيها رفاقه على رفص المشاركة في الحكومة الائتلافية، والشروع في تحضير المرحلة الثانية للثورة. وفي 28 آذار، غادر لينين زيوريخ سراً، وانتقل عبر ألمانيا والسويد إلى روسيا، ليصل إلى بتروغراد في الثالث من نيسان. وبعد أيام من وصوله، قدم أمام اجتماع مندوبي البلاشفة في السوفييتات “موضوعات نيسان” الشهيرة (4)، التي حدد فيها “مهمات البروليتاريا في الثورة الحالية”. فبدأ تلك “الموضوعات” بوصف الحرب العالمية الدائرة بأنها، من جانب روسيا، “حرب إمبريالية لصوصية”، حتى في عهد الحكومة الإئتلافية الجديدة، رافضاً مفهوم “الدفاع الثوري” الذي تبنته تلك الحكومة، ومعتبراً أن إنهاء الحرب والتوصل إلى “صلح ديمقراطي”لا يمكن أن يتحققا” من دون قلب حكم الرأسمال”، وهو ما يجب الدعاية له على أوسع نطاق داخل الجيش المحارب. ثم أكد لينين أن المهمة الرئيسية للبروليتاريا في روسيا، “في الوضع الراهن”، هي”الانتقال من المرحلة الأولى للثورة، التي أعطت الحكم للبرجوازية نتيجة عدم كفاية الوعي والتنظيم لدى البروليتاريا، إلى المرحلة الثانية للثورة التي يجب أن تعطي الحكم للبروليتاريا، وللفئات الفقيرة من الفلاحين”. وعلى الرغم من اعترافه بأن حزب البلاشفة يمثّل “أقلية، وأقلية ضعيفة في الوقت الحاضر، في معظم سوفييتيات مندوبي العمال”، فإنه دعا حزبه إلى أن يشرح للعمال أن “سوفييتيات مندوبي العمال هي الشكل الوحيد الممكن للحكومة الثورية”، وأن يؤكد لهم ضرورة انتقال كل سلطة الدولة إليها، على اعتبار أن الرجوع إلى الجمهورية “البرلمانية”، بعد قيام سوفييتيات مندوبي العمال، سوف يكون “خطوة إلى الوراء”.

لقد كان لينين، في “موضوعات نيسان”، مقتنعاً أن “فرض” الاشتراكية ليس مطروحاً على جدول أعمال حزب البلاشفة، الذي يبنغي عليه الاكتفاء بالانتقال “إلى مراقبة الإنتاج الاجتماعي وتوزيع المنتجات من قبل سوفييتيات مندوبي العمال”، والعمل على “مصادرة جميع أراضي الملاكين العقاريين، وتأميم جميع الأراضي في البلاد، ووضع الأراضي تحت تصرف السوفييتيات المحلية لنواب الأجراء الزراعيين والفلاحين”. وبغية إقرار هذه التوجهات الجديدة، أنهى لينين “موضوعاته” بالدعوة إلى عقد مؤتمر للحزب “بلا إبطاء”، يعمل على تعديل برنامجه وتغيير اسمه من “اشتراكي ديمقراطي” إلى”شيوعي”، كي يتمايز عن أحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية الأخرى التي تبنت مواقف “شوفينية”، ويساهم في تأسيس أممية جديدة ثورية.

لقد شكّلت “موضوعات نيسان” تحولاً نوعياً في سياسات حزب البلاشفة، صدم معظم قادة هذا الحزب ودفعهم إلى التعبير عن رفضهم لها، ورفض نشرها في جريدة البرافدا سوى على شكل مقال شخصي للينين. بيد أن مصادقة غالبية مندوبي الكوانفرانس الحزبي، الذي انعقد في 7 أيار 1917، عليها حوّل تلك “الموضوعات” إلى سياسة رسمية لحزب البلاشفة، الذي جابه، في حينه، معضلة كبيرة، أشار إليها لينين وتمثّلت في كون ممثليه يشكّلون أقلية داخل سوفييتات العمال. ففي المؤتمر الأول لسوفييتات عموم روسيا، الذي انعقد في مدينة بتروغراد في 16 حزيران 1917، كان عدد مندوبي البلاشفة 105 فقط، في مقابل 533 مندوباً عن المناشفة والاشتراكيين الثوريين، من مجموع 822 مندوباً كانوا يتمتعون بحق التصويت.

وبغية حل هذه المعضلة، وجّه البلاشفة طاقاتهم، منذ مطلع صيف العام 1917، من أجل تعزيز مواقعهم داخل سوفييتات العمال، كما شرعوا، مستفيدين من نفوذهم الكبير بين جنود حامية بتروغراد، في تشكيل وحدات عسكرية مستقلة باسم “الحرس الأحمر”. وكان لينين قد بدأ يراهن على جنود الجيش ودورهم منذ أحداث ثورة 1905، التي شهدت قيام الجنود وبحارة الأسطول بتحركات ثورية عديدة، من أبرزها تحرك بحارة المدمرة بوتمكين. ومنذ ذلك الحين، لاحظ لينين أن روح الحرية أخذت تتسرب إلى الثكنات وأن الجنود والبحارة يمكن أن يشاركوا في الثورة على الحكم الأوتوقراطي القيصري، وعارض شعار إبعاد الجيش عن السياسة، معتبراً أن هذا الشعار يخدم القيصرية والبرجوازية (5).

في نهاية صيف 1917، كانت عملية “بلشفة” السوفييتات تسير بصورة متسارعة، وذلك على الرغم من الحملة القمعية التي نظمتها الحكومة الإئتلافية ضد البلاشفة. وما أن حلّ شهر أيلول من ذلك العام حتى كان البلاشفة قد حققوا هدفهم بالحصول على الأغلبية في سوفييتات العمال والجنود، إذ تبنّى سوفييت مندوبي العمال والجنود في مدينة بتروغراد مقترحهم الداعي إلى تسليم كل السلطة للسوفييتات وانتخب لجنة تنفيذية جديدة اختير ليون تروتسكي رئيساً لها، وحذا حذوه سوفييت مندوبي العمال والجنود في موسكو وانتخب لجنة تنفيذية جديدة كان من بين أعضائها نيقولاي بوخارين، ثم سارت على خطاهما عشرات السوفييتات في المدن الروسية الأخرى.

وبضمان البلاشفة الحصول على الأغلبية بين مندوبي سوفييتات العمال والجنود، صار شعارهم “كل السلطة للسوفييتات” يعني عملياً “كل السلطة للبلاشفة”، وهو ما شدّد عليه لينين في رسالته إلى حزبه بتاريخ 14 أيلول 1917 بقوله: “إن البلاشفة وقد نالوا الأغلبية في سوفييتَي مندوبي العمال والجنود في العاصمتين باتوا يستطيعون، بل يجب عليهم أن يأخذوا سلطة الدولة في أيديهم”. وفي رسالته الشهيرة تلك، اعتبر لينين أن “المداولة الديمقراطية” لا تمثل “أغلبية الشعب الثوري”، وإنما تمثّل فقط “الطوابق العلوية البرجوازية التوفيقية”، وأن القضية “ليست في الانتخابات”، التي لا يجب على البلاشفة أن ينخدعوا بها (6).

كان لينين قد تبنّى خيار اللجوء إلى الانتفاضة المسلحة لاستلام السلطة عقب الأحداث التي جرت في مطلع تموز 1917، وشهدت قيام وحدات من الجيش، مشكّلة من الطلبة الضباط ومن القوقاز، بإطلاق النار على تظاهرة سلمية حاشدة للعمال، دعا إليها البلاشفة في مدينة بتروغراد للاحتجاج على استمرار مشاركة الحكومة الإئتلافية الروسية بالحرب، ما أدى إلى مقتل العشرات وجرح المئات منهم، وقيام الحكومة برئاسة أكسندر كيرنسكي، القيادي في حزب الاشتراكيين الثوريين، باعتقال عدد من قادة حزب البلاشفة، من بينهم تروتسكي، وإصدار أمر باعتقال لينين نفسه. وفي المؤتمر السادس لحزب البلاشفة، الذي انعقد في شهر آب1917، اقترح لينين الاستعداد لإعلان الثورة وتنظيم الانتفاضة المسلحة، إلا انه جوبه آنذاك بمعارضة شديدة من جانب معظم رفاقه في قيادة الحزب، الذين أعرب بعضهم عن شكه في إمكان نجاح البلاشفة في كسب الفلاحين إلى جانبهم، بينما عبّر بعضهم الآخر عن قناعته بضروة انتظار انتصار الثورة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية المتقدمة في أوروبا قبل التفكير باستلام السلطة في روسيا. وظلت المعارضة الشديدة قائمة، داخل حزب البلاشفة، لموقف لينين، الداعي إلى تنظيم الانتفاضة المسلحة بهدف استلام السلطة، حتى بعد نجاح البلاشفة في التحوّل إلى أغلبية بين مندوبي سوفييتات العمال والجنود.

**

في مطلع أيلول 1917، قام أحد جنرالات الجيش، ويدعى كورنيلوف، بمحاولة انقلاب، مدفوعاً بشعوره بأن الحكومة المدينة ضعيفة وعاجزة عن فرض الاستقرار في البلاد. وقد سارع البلاشفة إلى إدانة ذلك الانقلاب العسكري، وشكلّوا شبكة من اللجان الثورية ونزلوا إلى الشوارع لمواجهة الانقلابيين. واضطرت حكومة كيرنسكي، في تلك الظروف، إلى إطلاق سراح زعماء البلاشفة المعتقلين، ثم نجحت القوات التي ظلت وفية لها في فرض التراجع على القوات الموالية للجنرال كورنيلوف وفي اعتقاله.

والواقع، أن تلك المحاولة الانقلابية العسكرية فتحت الطريق أمام البلاشفة كي يحسموا أمر الشروع في تنظيم الانتفاضة، وهو ما عبّر عنه كيرنسكي فيما بعد بقوله: “لولا انقلاب كورنيلوف لما كان هناك لينين”.

فبعد عودته متخفياً من فنلندا، سارع لينين إلى دعوة اللجنة المركزية لحزب البلاشفة إلى عقد اجتماع، في 16 تشرين الأول1917 في صالون منزل السيدة سوخانوفا في بتروغراد، تمخض عن موافقة غالبية المشاركين فيه على توصية تدعو جميع منظمات الحزب إلى حسم القضايا المتعلقة بالانتفاضة المسلحة كافة، وذلك بعد أن نضجت بالكامل ظروف ضمان نجاحها (7). وفي ذلك الاجتماع، تشكّلت لجنة حزبية عسكرية برئاسة تروتسكي، الذي ترأس في الوقت نفسه لجنة عسكرية أخرى شكّلها سوفييت مندوبي العمال والجنود في بتروغراد.

وفي 4 تشرين الثاني 1917 (الموافق فيه 22 تشرين الأول بحسب التقويم الروسي الساري آنذاك)، بدأ التحرك الثوري في بتروغراد بانضمام حاميتها إلى اللجنة العسكرية التي شكّلها سوفييت المدينة. وفي 6 تشرين الثاني (24 تشرين الأول)، بدأت موسكو تستعد لإعلان الانتفاضة، وانتقل لينين إلى سمولني لمراقبة سير الانتفاضة، واحتلت الوحدات الموالية للبلاشفة، ليلة 6-7 تشرين الثاني (24-25 تشرين الأول)، المباني الرسمية في بتروغراد، وقصفت البارجة أورورا قصر الشتاء، الذي سقط في أيدي الثوار في 8 تشرين الثاني (26 تشرين الأول)، وسارع مؤتمر سوفييتات مندوبي العمال والجنود المنعقد إلى إعلان قيام السلطة الثورية الجديدة. وفي اليوم نفسه، شكّل لينين مجلس مفوضي الشعب، الذي بدأ عمله بإصدار مرسومين، أقرهما بالإجماع مؤتمر السوفييتات، هما: “مرسوم السلام” و”مرسوم الأرض”، صاغهما لينين بنفسه، واستهدف بهما في الأساس كسب تأييد الفلاحين، الذين كانوا يشكّلون الغالبية العظمى من السكان و90 في المئة من عديد الجيش. فدعا المرسوم الأول إلى التوصل إلى “سلام عادل وديمقراطي من دون إلحاقات ولا تعويضات”، وقرر إلغاء الدبلوماسية السرية ونشر نصوص جميع المعاهدات السرية التي عقدتها الحكومات السابقة وإلغائها؛ بينما قرر المرسوم الثاني مصادرة أملاك القصر والكنيسة وكبار الملاكين العقاريين وأغنياء الفلاحين ووضعها تحت تصرف اللجان الزراعية وسوفييتات مندوبي الفلاحين.

وهكذا، فتحت الثورة، التي لم تدم سوى أيام ولم يسقط خلالها أكثر من 200 قتيل، فصلاً جديداً في تاريخ روسيا وفي تاريخ العالم. (يتبع

//الهوامش:

1. عبّر لينين عن قناعته هذه في عدد من كتاباته، منها: “خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية”(1905)، المختارات في 10مجلدات، المجلد 2، موسكو، دار التقدم، 1977، ص 401-554؛ “مساهمة في تقييم الثورة الروسية” (1908)، المصدر السابق، المجلد 3، ص 429-442.

2. سلفادوري، ماسيمو. ل،”مفهوم العملية الثورية عند كارل كاوتسكي”؛ في: تاريخ الماركسية المعاصرة، الجزء الأول، باريس، الاتحاد العام للمنشورات، 1976، ص 81-205 .

3. لينين، “مهمات الاشتراكية الديمقراطية الثورية في الحرب الأوروبية” (1914)، المختارات في 10 مجلدات، مصدر سبق ذكره، المجلد 5، ص 268-273؛ “إفلاس الأممية الثانية” (1915)، المصدر نفسه، المجلد 5، ص 289-358؛ “الاشتراكية والحرب” (1915)، المصدر نفسه، المجلد 5، ص 367-419.

4. لينين، “مهمات البروليتاريا في الثورة الحالية”؛ في: المختارات في ثلاثة مجلدات، المجلد 2، الجزء 1، موسكو، [من دون تاريخ]، ص 44-50 .

5. لينين، “الجيش والثورة” (1905)، المختارات في 10 مجلدات، مصدر سبق ذكره، المجلد 3، ص 30-33.

6. لينين، “يجب على البلاشفة أن يأخذوا السلطة”، المصدر نفسه، المجلد 7، ص 247-249.

7. إيلينشتاين، جان، تاريخ الاتحاد السوفييتي، في أربعة أجزاء، الجزء الأول، باريس، المنشورات الاجتماعية، 1975، ص 153-156.

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.