السلطة الفلسطينية ومثَلْ “مصيفة الغور”
د. فايز رشيد ( الخميس ) 16/3/2017 م …
السلطة الفلسطينية ومثَلْ “مصيفة الغور” …
أما هذا المَثل القائل: “مثل مصيفة الغور, لا صيف صيّفتْ, ولا سِترها ظل عليها!” فحكايته ما يلي: كانت بنات قرى جبل نابلس تنزل كل سنة تُصيّف في غور الأردن حيث سهول القمح الواسعة, و”التصييف”معناه, ذهاب العاملات إلى حقول القمح واللحاق بالحصادين والسنبلة وراءهم (التقاط السنابل التي تسقط منهم ووربطها في ضمم) وجمعها وتذريتها في الهواء, فيسقط القمح على قطعة قماش مفروشة على الأرض, يطير التبن في الهواء, ثم القيام بجمع القمح في أكياس(شوالات), يحملنها على رؤوسهن ويرجعن إلى البيوت. ويقولون: فلانة صيّفت خمس صاعات قمح(الصاع مكيال القمح) وعلانة صيّفت ست صاعات, وهكذا دواليك. في إحدى المرات, ذهبت مجموعة من البنات للتصييف, وكانت واحدة منهن في غاية الجمال, فلما رآها صاحب حقل القمح بالغور, أعجبته وطمع فيها وناداها قائلا: اجلسي عندي في القصر لا تشتغلي ولا تتعبي, وعندما ترجع صاحباتك للقرية, أعطيك صيفية (كيس قمح) بمقدار أكثر من أي واحدة منهن، فوافقت وجلست معه طول المدة. عندما انتهت صاحباتها من التصييف, طلبت الفتاة منه إعطاءها الصيفية (كيس القمح) التي وعدها به, فنكث بوعده ورفض إعطاؤها شيئًا. رجعت إلى قريتها تجرجر أذيال الخيبة بدون صيفية, سأل أهل القرية عن قصتها, فأخبرتهم الفتيات فنطق أحدهم بالجملة “لا صيف صيّفت ولا سِترها ظلّ عليها”, فذهبت الجملة مثلا.
تعرفون أعزائي قرّاء “الوطن” أنه في الاجتماع الأخير بين رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وبين الرئس الأميركي ترامب, تم دفن حلّ الدولتين, كما صرّح ناطق رسمي أميركي بما يلي: “إن السلام لا يتطلب بالضرورة إقامة دولة فلسطينية, وأن ترامب لن يحاول إملاء حل”! تعرفون أيها القراء أيضًا, أن نقل السفارة الأميركية إلى القدس, ما زال على جدول أعمال الرئيس الأميركي, وأن وفدا أميركيا زار المدينة المقدسة لدراسة المواقع الملائمة فيها لإقامة مبنى السفارة. تعرفون أيها الأحباء أنه منذ أواخر القرن الزمني الماضي والرؤساء الأميركيون يعدون بقيام الدولة الفلسطينية العتيدة (الرؤساء بيل كلينتون والرئيس بوش الابن والرئيس باراك أوباما), حتى أنه تم تحديد موعد إقامتها في العام 2005, وها نحن في العام 2017 ولم تقم, ولن تقوم الدولة بالمفاوضات مطلقا.
كثيرون من المراقبين والمحللين السياسيين يرون في دعوة ترامب للرئيس محمود عباس إلى واشنطن, محاولة أميركية لإعادة المفاوضات بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني, ليقال إن الرئيس الأميركي استطاع إعادة مفاوضات “السلام” إلى سكّتها, هذا من دون التزام إسرائيلي مسبق بأي حلّ! معروف أن نتنياهو مع هذا الشكل من المفاوضات, كونه يستطيع مدّها عشرين عامًا, فالمواعيد لدى الكيان الصهيوني وفقما قال رابين “ليست مقدسة”, وليست محددة بزمن وفقما قال شامير على هامش مؤتمر مدريد, ومعروف أن شارون (ورغما عن اتفاقيات أوسلو الكارثية) أعاد اجتياح الضفة الغربية في عام 2002, وأنه تم سجن الرئيس الراجل عرفات في المقاطعة ثلاث سنوات حتى وفاته! هذا وقد كشفت وثائق جيش الاحتلال ما وصف بأنه “أسرار كتيبة جولاني” ـ وحدة جوز الهند التي اجتاحت المقاطعة برام الله قبل 15 عاما, حتى بلغ الأمر أن جدارا واحدا ظلّ يفصل بين الرئيس عرفات وبين جيش الاحتلال الصهيوني, خلال عملية أطلق عليها جيش الاحتلال اسم “الجدة” أو “الختيارة”. وقالت الوثائق إن البرد كان شديدا والأمطار غزيرة بعد يوم من انفجار فندق بارك, حين أصدر شارون أوامره بإعادة احتلال الضفة الغربية, وكان جنود كتيبة جولاني ينتظرون بدباباتهم وجرافاتهم في ساحة منزل حنان عشراوي لحين صدور الأوامر باقتحام المقاطعة ومكتب عرفات, بشرط عدم قتله. هكذا كانت الأوامر.
في استراليا أثناء زيارته الرسمية لها, أعلن بنيامين نتنياهو رفضه لقيام دولة فلسطينية, واقترح حكما ذاتيا مكانها, وكرر تلويحه بالشروط التعجيزية لتسوية الصراع. متنكرا لمواقفه المعلنة السابقة منذ خطاب بار إيلان في عام 2009. واعتبر خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الأسترالي, ملكوم تورنبول, أنه يفضل عدم التعامل مع الشعارات بل مع المضمون, مستخدما مجددا الترهيب الديماغوجي من دولة فلسطينية إسلامية متطرفة على حدود إسرائيل, متجاهلا الحصار على غزة والحروب العدوانية التي شنتها دولته, ضدها والدمار الرهيب الذي خلفته فيها. كما وكرر شروطه لحل الصراع, بدعوة الفلسطينيين من جديد للاعتراف بالكيان كدولة يهودية. واستثمر حالة الفوضى القائمة في بعض الدول العربية لتبرير تعنته بالقول “نعرف ما هو الواقع في الشرق الأوسط. وإن لم تكن هناك إسرائيل لتضمن الأمن, فالدولة الفلسطينية سرعان ما تتحول إلى قلعة أخرى للإسلام المتطرف. علينا أن نضمن أن الفلسطينيين سيعترفون بالدولة اليهودية، كما يجب علينا أن نضمن أن تمتلك إسرائيل السيطرة الأمنية على جميع الأراضي”, قاصدا كل فلسطين.
من زاوية ثانية, فإن المراهنة على موقف أميركي محايد في الصراع الفلسطيني العربي ـ الصهيوني, هو مراهنة على السراب, فلولا الدعم الأميركي للكيان منذ إقامته وحتى اللحظة, لما استمرت دولته حتى هذا العام 2017. لا مانع من زيارة الرئيس الفلسطيني إلى واشنطن, غير أنه من جانبٍ ثانٍ, فإن رهن المواقف الفلسطينية بالمفاوضات والاعتماد على ضغط دولي يمارَس أميركيا وعالميا على “إسرائيل” للاعتراف بالحقوق الفلسطينية, هو تماما كالمراهنة على تاجر القمح المذكور في بداية المقالة, وسيخرج صاحبه بالتأكيد مثل “مصيفة الغور, لا صيف صيفت, ولا سترها ظل عليها”! أو بمثل آخر “سيخرج من المولد بلا حمص”, ولهذا المثل قصة أخرى.
التعليقات مغلقة.