ما لا يعرفه الكثيرون عن هواري بومدين

 

السبت 18/3/2017 م …

الأردن العربي …

ما لا يعرفه الكثيرون عن هواري بومدين …

السوسنة – لو قدّر للرئيس الراحل هواري بومدين أن يعيش بيننا، إلى يومنا هذا، لبلغ من العمر 82 سنة، لأجل ذلك لم يكن الأمر هينا، ونحن نبحث في هذه السنوات الضاربة في ما قبل الثورة وأثناءها وبعدها بحثا عن ملامح الوجه الآخر لرجل عاش لغزا ومات لغزا، وعندما توفي لم يكن عمره قد زاد عن السادسة والأربعين، دون أن يترك ابنا واحدا، وترك بالمقابل الكثير من علامات الاستفهام.

والمدهش في رحلة البحث عن سيرة بومدين في قلب المنطقة التي ولد فيها ڤالمة، أو المدينة التي درس فيها قسنطينة، أن أكثر الناس زمالة له وحتى أقربهم إليه من أهله وأصدقائه، أقسموا بأنهم يجهلون الكثير من خصوصيات هذا الرجل، الذي رحل دون أن يترك وراءه مالا ولا أملاكا ولا حتى أولادا، بل ترك مواقف وأقوالا لا زالت تصنع الحدث في كل مناسبة تمر بها البلاد أو حتى بعض البلدان الأخرى، ولعلٌ ما أدهشنا خلال محاولتنا اقتحام القلعة الحصينة للبحث في خصوصيات الرئيس الراحل هواري بومدين، أن أهله وأفراد عائلته لازالوا يؤمنون بأن التطرق لخصوصيات الزعيم من الطابوهات التي لا يجب أن تكسر مدى الحياة، فالرجل لم يكن ككل الرجال، بل هو حالة خاصة لا تتكرر .. نعم هكذا يؤمنون.

تعود الذكرى 36، وتعود معها نفس الأسئلة من هو بومدين؟ كيف وصل للحكم وهو دون الثالثة والثلاثين، وكيف رحل وهو دون السادسة والأربعين؟ ولا جواب سوى عن كيف ولد، فمسقط رأسه هو دوار بني عدٌي بمشتة العرعرة ببلدية مجاز عمار حاليا، بتاريخ 23 أوت 1932، من والده الحاج ابراهيم بوخروبة ووالدته تونس بوهزيلة، ومسجل ضمن سجلات الحالة المدنية ببلدية عين احساينية التي أصبحت حاليا تحمل اسمه الثوري هواري بومدين، وهي البلدة التي لم يبق فيها أي فرد من عائلة بوخروبة.

بومدين كان أحمر الشعر أزرق العينين

كان صعبا على هواري بومدين، أن يقود القارة السمراء، فعندما رأس الاتحاد الإفريقي ثار رئيس الزائير في ذلك الوقت، وتساءل كيف لرجل أشقر، بعينين زرقاوين يقود القارة السمراء، التي يقطنها أصحاب البشرة السوداء، ولكن بومدين ردّ عليه بأن دمه أسمر، وصبر إلى أن أصبح رمزا إفريقيا وهو في ربيع العمر.

الحاج عمي علي بوهزيلة ابن خال الزعيم الراحل ورفيق طفولته، والذي وجدناه في حالة صحية صعبة، بعد تقدمه في العمر، لم يبخل علينا بشهادته رغم المرض، حاولنا إرجاعه بسنوات عمره الطويلة إلى طفولته، ليتذكر بعض المشاهد عن طفولته وطفولة ابن عمته محمد بوخروبة، فأسرد بالقول: بومدين كان متميزا بسلوكه وتصرفاته من بين كل أفراد العائلة، حيث كان انطوائيا، متشددا وجادا في معاملاته، حتى في اللعب، لا يحب السخرية والاستهزاء، كان منذ الصغر حالما، ناقما على الاستعمار الفرنسي، وأبناء الكولون، كان في شخصيته شيء لم نكن نفهمه في ذلك الوقت ـ حسبه ـ، قبل أن يضيف عمي علي بوهزيلة، بأنه ومع مرور السنين تبيّن أن محمد بوخروبة كان متميزا في كل شيء وأن قوة شخصيته صقلتها الظروف الاجتماعية الصعبة التي ترعرع فيها، كونه ينحدر من عائلة كثيرة العدد وبسيطة ماديا، يعتمد فيها والده الحاج ابراهيم على الفلاحة في معيشته، وتعبر بصدق عن مدى تعلقه بالجزائر.

أما الحاج مصطفى سريدي الذي رحل عنٌا منذ فترة قصيرة، فقد خصّ الشروق اليومي في رحلة البحث للغوص في بعض خصوصيات الراحل هواري بومدين، رفيق دربه في الدراسة، وذكر لنا أنه تعرف على محمد بوخروبة في مدرسة ألومبير والتي أصبحت حاليا تسمى بإكمالية محمد عبده بقلب مدينة ڤالمة، وذكر المرحوم مصطفى سريدي، أن الطفل محمد بوخروبة، عندما بلغ سن السادسة من عمره، سنة 1938 حلٌ بمدرسة آلمبير بمدينة ڤالمة، قادما إليها من مشتة العرعرة حيث كان قد حفظ جزءا من القرآن، ليكمل دراسته النظامية في ذلك الوقت، وكانت مدرسة آلمبير مقسمٌة إلى قسمين، قسم خاص بأبناء المعمرين والكولون وأبناء الأغنياء والأعيان، وقسم آخر مخصص للآهالي من عامة الناس، ومن الطبيعي أن يكون محمد في القسم الثاني.

وعلى الرغم من ذلك كان يدرسٌه المعلم الفرنسي المسمى سيغالا، الذي تم استدعاؤه في منتصف العام الدراسي لأداء واجب الخدمة الوطنية، فاستخلفه وقتها معلم فرنسي آخر يدعى لوروا، وهو المعلم الذي لاحظ أن محمد بوخروبة، كان سابقا لجيله، إذ كان سريع الحفظ والفهم، وأنه يجتاز كل الامتحانات بسهولة مطلقة، كما أنه كان يبدو أنيقا، رغم حضوره إلى المدرسة حافي القدمين أو مرتديا نعلا باليا مع قشابية الصوف، التي نسجتها له والدته تونس بوهزيلة في الدشرة بمشتة العرعرة، ولم تغادره خلال مرحلته الدراسية، ولأن محمد بوخروبة كان أطول أترابه في الصف الابتدائي، فقد زادت قشابية الصوف من أناقته، وكانت جد لائقة على هندامه، وزاد لونها البني في جمال الطفل الأشقر صاحب العينين الزرقاوين، والتي كان ينظر بهما رغم صغر سنٌه في ذلك الوقت بنظرات جد حادة، كنا نظن في البداية أنها جدّية مبالغ فيها.

كان يصرّ على حضور ملتقيات الفكر الإسلامي

مهما قيل عن ميولات بومدين نحو المعسكر الشرقي بما في ذلك من تناقضات فكرية وحتى عقائدية، فإن التاريخ سيشهد على أن الراحل وفّر جوا فكريا إسلاميا راقيا لم تعرفه الجزائر أبدا، وهو ملتقيات الفكر الإسلامي التي سلّم مشعلها لمفكرين كبار في الجزائر مثل أحمد طالب الابراهيمي ومالك بن نبي ونايت بلقاسم وأحمد حماني، وكان بومدين يصرّ على أن يحضر افتتاح كل ملتقى أو يكتب بيده رسالة للمحاضرين، ودعا إلى الملتقى كبار العلماء مثل الشيخ المرحوم سعيد البوطي والمرحوم محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي وحتى موسى الصدر الشيعي الذي اختفى في رحلة لغز من ليبيا إلى إيطاليا، وخلال أيام الملتقى كان يقيم ملتقيات موازية وخاصة، يلتقي فيها مع كل عالم ويبقى رفقته لعدة ساعات، ناهيك على أنه صاحب فكرة إنشاء الجامعة الإسلامية الأمير عبد القادر بقسنطينة.

محمد بوخروبة لم تمنعه الدراسة في مدرسة آلمبير الفرنسية، من الاستمرار في حفظ القرآن، حتى ختمه، وكان في العطلة المدرسية، يرجع إلى دوار بني عدٌي ليعلم أطفال الدشرة حفظ القرآن، كما حفظه هو بتحايله على معلمٌه الفرنسي، حيث كان بحسب المرحوم مصطفى سريدي يضع دفترا كان قد دوٌن عليه آيات قرآنية وسط كراس اللغة الفرنسية، وعندما ينشغل المعلم في تحضير الدروس أو تصحيح الكراريس، يقوم محمد بقراءة تلك الآيات سرا، دون أن ينكشف أمره من أحد سوى زميله سليمان بن عبدة الذي كان يجالسه في نفس الطاولة. هذا التصرف أكد بعد السنوات الطويلة بأن محمد بوخروبة الفتى، اعتاد على عدم تضييع شيء من وقته، لأنه كان يعلم قيمة ذلك الوقت، ومعاناته بعيدا عن عائلته التي بقيت مقيمة في دوار بني عدٌي بينما استقر هو عند إحدى العائلات بمنطقة باب السوق بمدينة ڤالمة، مقابل أن يدفع لها والده الحاج ابراهيم شيئا من المؤونة والقمح.

وقد استقر محمد بوخروبة حسب ابن خاله علي بوهزيلة في بادئ الأمر بمنطقة باب السوق ثم عند عائلة أخرى بمنطقة باب سكيكدة وقضى آخر سنة من دراسته في مدرسة آلمبير عند عائلة بحي بومرشي عرب، ويتذكر كبار السنٌ بهذا الحي العريق بوسط مدينة ڤالمة، كيف كان محمد يحفظ دروسه بمدخل الحي، أمام المارة، ولم تلهه أبدا ألعاب الطفولة حسب عمي علي بوهزيلة عن دراسته، التي تفوّق فيها، كتفوقه في حفظ القرآن الذي ختمه عند الثالثة عشر من عمره وتحديدا سنة 1947 .

المرحوم الشيخ مصطفى سريدي ذكر لنا في شهادته، أن الفتى محمد بوخروبة، كان سابقا لجيله، يتميز بين أقرانه بقوة الشخصية، مواظبا على دروسه وأداء كل واجباته، حتى لا يمنح أي فرصة للمعلمين الفرنسيين لإهانته بأي كلمة قد تجرح مشاعره وتمس بكرامته، أو الاعتداء عليه بالضرب، ويتذكر أترابه وزملاؤه في القسم التأهيلي الثالث عندما لم يتمكن محمد من مراجعة أحد الدروس، وعندما شرع المعلم الفرنسي في توجيه الأسئلة للتلاميذ، حفظ منهم الطفل الفطن، وبذكاء خارق شرع في رفع أصبع يده للمشاركة في الإجابة الصحيحة، وهو ما جلب انتباه معلميه الفرنسيين، خاصة وأنه كان حسب الشيخ مصطفى يتحصل دائما على النقاط الجيدة في امتحانات آخر السنة، وأنه لم يسقط ولا مرٌة في مرحلته الدراسية.

محمد بوخروبة الذي أصبح فيما بعدا مجاهدا ثوريا ورئيسا للجمهورية الجزائرية، كان في صغره يتميز بالأنفة والكرامة، ولم يضع يوما قدميه في المطعم المدرسي، المخصص للتلاميذ المعوزين، وأولئك الذين يقطنون خارج مدينة ڤالمة كحال محمد الذي كانت تتوفر فيه كل الشروط للاستفادة من مختلف المزايا التي يوفرها الفرنسيون للتلاميذ، إلاٌ أنه كان يرفض ذلك رفضا قاطعا، وحدث مرٌة بأن قام مدير مدرسة آلمبير المدعو فاني بتسجيل خمسة تلاميذ لتمكينهم من أحذية أو نعال، ومن بين المسجلين كان محمد بوخروبة، وبعد أسبوع جلب المدير مجموعة من النعال لتوزيعها على التلاميذ المسجلين، لكن محمد بوخروبة رفض استلامها، وهو ما أثار تساؤل مدير المدرسة آنذاك وعبر عنها بالقول إنه جلب تلك الحصة من النعال حتى لا يمشي التلاميذ النجباء على الأقل حفاة، كما كان الشأن لمحمد.

أصيب في رجله خلال مظاهرات الثامن ماي

عندما سألنا ابن خال الرئيس الراحل محمد بوخروبة، عمي علي بوهزيلة، عن حقيقة الرواية التي تتحدث عن إصابة ابن عمته برصاصة طائشة في أحداث الثامن ماي 45، لم يقدم لنا إجابة واضحة، وقال إنه لم يتذكر تلك الحادثة، التي تداولها عدد من الكتاب والمؤرخين الذين خطٌوا لتوثيق حياة هواري بومدين، وذكر عمي علي أنه يتذكر عديد المواقف الشجاعة لابن عمته الذي قال إنه كان يكره الفرنسيين وكل ما هو فرنسي، بدليل أنه عندما سافر إلى القاهرة رفقة محمد الصالح شيروف للالتحاق بالأزهر، عاد بعد سنوات مناضلا وثوريا في وجه فرنسا، وتحدثت عديد الروايات أن محمد بوخروبة وخلال تواجده في مدرسة آلمبير بڤالمة سنة 1945، وقعت أحداث الثامن ماي وكان قد أنشد مثل باقي أترابه وسط جموع المواطنين الذين خرجوا في مسيرة ذلك اليوم المشؤوم مرددا يحيا مصالي، وغيرها من العبارات التي جعلت عساكر فرنسا يطلقون النار في كل الاتجاهات، ليفرٌ بعدها الصبي محمد بوخروبة وسط أترابه باتجاه أحد الأحياء القريبة ليقفز من أعلى سور المدرسة معتمدا على الأعمدة الكهربائية الملاصقة للجدار، فسقط على علب السردين الصدئة والتي كانت وقتها تغطيها أوراق الشجر الشائكة، ما تسبب في إصابته بجروح بليغة على مستوى الساق، وأجبره على العودة بعد أيام قليلة من تلك الأحداث مرتديا قشابيته الصوفية بنية اللون لإخفاء تلك الجروح، على الرغم من ارتفاع درجات الحرارة في شهر ماي.

هذا ما روته شهادات بعض زملائه في الدراسة، لكن بعض الشهادات الأخرى ذهبت على حد التأكيد أن محمد بوخروبة الذي شارك في مسيرة الثامن تعرض لإصابة على مستوى الساق من رصاصة طائشة، وتلقى على إثرها العلاج في المستشفى، وهي الرواية التي لم نجد لها أي تأكيد حتى لدى المقربين منه.

محمد بوخروبة كان رجوليا في تعاملاته منذ نعومة أظافره، كان يتميز بروح القيادة، أصبح معلما للقرآن الذي علمٌه لأبناء دشرته ولم يتجاوز من العمر الرابعة عشر، كان صبورا ولم يسمعه أحد من زملائه في الدراسة يشتكي بردا أو حرا أو جوعا، والأهم من كل هذا ابتعاده عن والديه للدراسة في مدينة ڤالمة في سن مبكرة لينتقل بعدها إلى قسنطينة التي له فيها حكايات أخرى مع أصدقائه والتي انطلق منها في رحلته الطويلة والشاقة إلى القاهرة التي سافر إليها مشيا على الأقدام برفقة محمد الصالح شيروف.

وأكد رفيقا الدرب علي بوهزيلة ومصطفى سيريدي أن أخلاق هواري بومدين كانت تدفعه دوما للاعتراف بفضل الغير عليه، وهو ما جسده في سياسته وعلاقاته مع الدول، كما جسّد ذلك في زيارته إلى قسنطينة حيث طلب الالتقاء بمعلمه الشيخ الطيب، الذي احتضن بومدين خلال تواجده بمدينة الجسر العتيق وقبل السفر إلى القاهرة، بل أنه طالب حتى بتكريمه، وعندما زار الشيخ الطيب الجزائر العاصمة سنة 1976 وهواري بومدين رئيسا للجمهورية، وضع هذا الأخير تحت تصرفه سيارة خاصة من باب كرم التلميذ لأستاذه.

وللأسف فإن ثقل السنين على عديد الشخصيات الذين لم تسمح لنا ظروفهم الصحية بجمع شهاداتهم وجعلتنا نكتفي بهذا القدر مما سجلناه عن طفولة هذا الطفل الذي كان يدرس حافي القدمين وينظر إلى ماسحي الأحذية بعين مشفقة، قبل أن يثور على واقعه المر ويصبح رئيسا للجزائر وهو في عز الشباب ثائرا على الفقر والتخلف ومهنة مسح الأحذية التي رسخت في ذاكرة طفل لم يكن يمتلك حذاء يذهب به لطلب العلم. – (الشروق الجزائرية)

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.