من حكاوى الرحيل ( الحادية والعشرين ) … إمرأةٌ من زمانٍ مضى

 

د. سمير محمد أيوب ( الأربعاء ) 22/3/2017 م …

من حكاوى الرحيل ( الحادية والعشرين ) إمرأةٌ من زمانٍ مضى …

عَمَّتي يرحمها الله ، كيف لا تكون جميلة ؟ وهي في كل شئِ انيقة . في فقرها ، في وجعها وفي حزنها . إبتلتها الحياة بمئة سببٍ لتبكي . فأنْبَتَت الفَ سببٍ لتبتسم بقوة . ما اكثر ما رحل الفرح من حولها . وأبقى في قلبها ، شيئا من حزنٍ نَزَّازٍ، لم يكن يعلمه الا الله سبحانه ، وسهوبا لا تضيق ، ثرية بالرضا وصبر الشاكرين .

كيف لا تكون جميلة ؟ وكانت متحررةً من سطوةِ اذنيها . لم تعامل الناس إلا بما كانت تراه منهم . ولا تراهم الا بعيونِ عقلها . تحضننا عندما تغضب . تبتسم عيناها عندما تصمت . عندما تتجاهل تشيح عنك بوجهها . كان صمتها عِتابها الصابر ، لكل من خاب الظن بهم .

كيف لا تكون جميلة ؟ وهي إمرأةٌ من زمانٍ مضى . تُشبه كل أمٍّ ، وكل عَمَّةٍ وكل خالة . قلبها لم يكن مهجورا . ممتلئة كبرياء بلا عبث ، عنفوانا ايجابيا وانفة وإباء ، وصدقا محايدا . وحقا عادلا وحكيما .

لم تكن نطفة في رحم المحال . بل عَبَرتِ الدنيا مطرا حلالا . كانت يوسفيةَ الجمالِ ، ايوبيةَ الصبر ، مؤمنةً كخليل الرحمن ابراهيم ، واثقةً كعيسى بن مريم ، راجيةً كزكريا ، مُدَبِّرَة كنوحٍ ، طاهرةً كالعذراء البتول ، صادقةً كالأمين محمد ( صلوات الله عليهم جميعا ورضوانه ).

خلقها لم يكن مُستعاراً في شئ . بل دَثارا ووقارا ومهابة . كانت تُتقن مهاراتِ الترفع . فتبتعد عن صغائر الصغار . وهي تَعْلَمُ مَثالبَ التكبر . كبياض وجلال وطُهرِ حليبِ الأمهات قلبها . وكرذاذِ ندى الصيف حضورها .

ما اقربها . في مضارِبهِا كل الأوقات مُتاحة . كنا نُقرِّرُ مواقيت الإياب الى حضنها ، ومتى نَفْرَنْقِعْ . في كل مدارج حياتنا ، كان لرعايتها وسقايتها ورفادتها حضورٌمُبَلسِم . في حضرتها لم تكن تتعب توقعاتنا . طلباتنا لم تكن تستدعي تحَجُّجا او تبريرا او تكرارا . لم يكن انتظارنا يطول ، حتى تحيط بنا قبائل غيثها . وجودنا في حياتها لم يكن ومضا عابرا . كانت مكتظة بنا . تُلَمْلِمُنا من رمادِنا وتُرَممنا . أنضَجَتنْا . أمام بصرها ، فأورَقْنا ، أزهرنا وأثمرنا .

عانَدَتْ وقائع في واقعٍ كان لا يُحتَمَلْ . شَقَّتْ طُرُقاً . وفي عَتْمِ بعضها ، أسرجَتْ من وجعها قناديل ، لتوسع لنا حواف الطرق . بكت بلا دموعٍ . وصرخت بلا فمٍ .

كانت مطمئنة للمستقبل ، إطمئنانا لا يتعثر . لم يتأتئ وهي تحاول استكمال أحلامها بنا . علمتنا ان لا نتوه تحت اي ظرف . وأن لا نبدد شيئا من حزننا الجليل بالبكاء . زودتنا بالجذور العميقة ، وبالأجنحة الطليقة . علمتنا الأخذ بالأسباب ، مع دعاء صامت ، لا يسمعه عند كل تصحرٍ ، إلا رب العباد . من ينابيع معاناتهن ، توالدت إنجازاتنا وتشاطأت . ما أحببنا النجاح في شئ ، إلا ليفرحن .

منذ ان إمتلكت وعيا نقديا مُتبصرا ، أدركت أنني قد حظيت بوالدة عظيمة . حملتني تِسعاً . وبعد الولادة ، حظيتُ بإثنتين من الأيوبيات ، باذخاتِ الأمومة . الأم – الوالدة ، والأم – العمة . إتسع لي صبرهما الحنون . فحملنني بلا تمنينٍ ، وهْناً على وهنٍ ، كلَّ سِني العمر .

لا يصح الحديثُ عن الأم – الوالدة ، لا يكتمل ولا يجوز إلا بالحديث عن توأمها ، الأم – العمة . كان لنبعِ الحنان والطيبة والطهر والصبر والرضا ، أسماءٌ حسنى كثيرة : فاطمة الحَرْب ، الحجة فاطمة ايوب ، أم عدنان ، مَرْت خالي الحج عطية موسى ايوب . عمتي ، مُرَبِّيَتي ، مَلاذي الآمن . لا تعجبوا ، فأنا ممن رزقهم ربهم وأكرمهم بالكثير ، وإبتلاني بالكثير ، مما يستلزم الحمد والشكر المستدام .

قيل لي ذات يوم : ان أرواح الراحلين بالموت ، تشعر كثيرا بمن تُحِبْ . أحتاج في مشيبِ القلب ، لحضنٍ يتسع لضعفي . أتكئ عليه واحتمي فيه . لتهدأ نفسي وتطمئن .

ما اقسى الشوق لغائبٍ عند ربه . فحزنُ الشوقِ لمن رحلوا لم يُخلَق عبثا .اصبحتُ اليومَ وفيني من لوعتِة أوجعه . ساءلت روحي : كيف لقلبي ان يحتمل كل هذا الشوق ؟ بكيتُ نفسي . إبتسمتُ . وهرولت الى أرواحٍ أحبها . تنام في رياض قبور ، منذ أمَدٍ وإلى أمَدْ .

وأنا حبيسُ الضعفِ والعجزِ ، إقتربتُ من التراب هناك . أمسكتُ بشاهدِ اللحد من كتفيه .بادلني تمتمةً بِتمتمةٍ وهو يستعد لضمي . وفي ومضةٍ القيتُ بنفسي في حضنه . فالدمعُ لا يَصِحُّ في حضرةِ الموتِ وُقوفاً .

أمي عمتي ، وعمتي أمي . يا ما أنصتُّ لكل ما صَمَتُّنَّ عن قوله او البوح به . بعد رحيلَكُما ، هَرِمْنا أيتاما . وغاب الخصب الحلال . تعبنا من الوقوف ، وما زال في قلوبنا الف حكاية وحكاية .

هل اعجبَكُنَّ الرحيل ؟ إذن ، قُلْنَ لنا كيف نجد أحضانا تتسع لضعفنا ، اوتحتوي شيئا منه على الأقل ؟

كلما نظرت الى زيتونة ، او إلتفت الى ياسمينة مزهرة ، ألمح ابتساماتٍ عالقات بين اوراقها . معلقة بين الحمد المُتْقَنِ ، ومهرجانات الفرح المُتصوف ، وينابيع الرضا الذي لا يَضِلُّ ولا يُضَلَلْ .

سلامُ اللهِ على كل من رحل ، من الأمهات والآباء والأحبة .

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.