ثلاث صفارات إنذار لم يسمعها أحد
مروان المعشر* ( الأردن ) الأربعاء 25/2/2015 م …
*وزير خارجية أسبق
في العام 2002، أصدرت الأمم المتحدة تقريرا حول التنمية البشرية في العالم العربي، أحدث ضجة هائلة. كان التقرير صفارة إنذار أولى للمنطقة، من ناحية كونه أول محاولة فكرية سلمية من قبل باحثين ومفكرين عرب، لتعريف التحديات الرئيسة التي تواجه العالم العربي، وقد تم تلخيصها آنذاك في ثلاث فجوات: فجوة المعرفة؛ وفجوة الحريات السياسية؛ وفجوة النظرة نحو المرأة ومقاومة تمكينها.
لم تول الحكومات العربية صفارة الإنذار الفكرية هذه أي اهتمام يذكر. ووُضع التقرير على الرف، وربما لم يقرأه أغلب المسؤولين العرب. وبعد حوالي عقد، جاءت الثورات العربية ليقول لسان حالها للحكومات العربية: إن أردتم تجاهل أوضاع الوطن العربي وعدم حل مشاكله السياسية والاقتصادية، فدعونا نمسك الأمور بأيدينا ونحاول حلها. كانت هذه صفارة الإنذار الثانية، وقد انتقلت من حالة فكرية إلى ثورات شعبية بدأت سلميا، في مصر وتونس وسورية وغيرها. كان يمكن للحكومات أن تتعظ وتفهم أن تجاهلها للمشاكل لا يعني انتفاءها أو حلها، لكنها لم تفعل ذلك. فمنها من حاول فرض الأمن بالقوة وعلى حساب شعبه، كالنظام السوري؛ ومنها من أغدق الأموال في محاولة لعكس التحول التاريخي الذي تشهده المنطقة، علّ البحبوحة الاقتصادية تغطي على حاجة المواطن للشعور بسيادة القانون على الجميع. وبعض ثالث استخدم الإصلاح اللفظي أو التجميلي وسيلة لتحويل النظر عما ينبغي فعله بوضع المنطقة على طريق الاستقرار والازدهار الحقيقيين والمستدامين.
في كل الأحوال، لم تتعظ أي حكومة من الصفارة الثانية التي جاءت أقوى من الأولى، ولم تنتج أي إعادة نظر حقيقية للسياسات الاقتصادية والسياسية والمجتمعية في أي من الدول التي لم يطلها التغيير. وحين أخفقت معظم هذه الثورات مرحليا في تحويل نفسها من حركات احتجاجية إلى أطر سياسية ناجعة، ولم يكن بالإمكان النجاح أصلا في غضون سنوات أربع قصيرة، استخدمت قوى الوضع القائم ما حدث ذريعة لمزيد من الانغلاق السياسي، واتهام الشعوب بأنها هي التي تسببت في عدم الاستقرار الحالي الذي نشهده؛ قالبة بذلك المعادلة الصحيحة بأن عدم الاستقرار هذا ما كان له أن يتحقق لولا سياسات الإقصاء والتهميش التي مارستها هذه القوى، حتى فاض الكيل بالعديد من الشعوب.
صفارة الإنذار الثالثة لم تنتظر عقدا كاملا، ولم تكن حتى سلمية. جاءت هذه المرة على شكل قوى همجية عنيفة تكفيرية، لا تمت للإنسانية بصلة؛ تقطع الرؤوس من دون أن يرف لها جفن، وتكفر بالسلطة والعالم وكل شيء. ومحاربة هذه القوى عسكريا واجب علينا؛ فليس هناك مجال آخر للتعاطي مع من لا يريد التعاطي مع أحد. لكن يبقى السؤال عن “الدواعش” الذين سينبتون لاحقا بعد دحر “داعش” الحالي عسكريا، إن بقينا نعتقد أن القوة وحدها تستطيع حل التحديات كافة، من دون النظر في الأسباب التي تؤدي إلى ظهور “الدواعش” الذين يفترض أن يكونوا غريبين عن تفكيرنا وديننا وحضارتنا.
تكفي ثلاث صفارات إنذار، فلا أريد التفكير في شكل صفارة الإنذار الرابعة لا سمح الله. لكن لا يبدو أن قوى الوضع القائم تريد الاتعاظ. ويجري الحديث اليوم في واشنطن والمنطقة عن ضرورة دحر “داعش” بالوسائل العسكرية وغير العسكرية. لكن إن كانت الوسائل غير العسكرية تقتصر على خطاب إعلامي مضاد من السلطات المدنية والدينية في الوطن العربي، فدعوني أتوقع من الآن الفشل الذريع لهذه السياسة المعتمدة على آليات فقدت مصداقيتها لدى الشارع. وإعادة هذه المصداقية لا تتم عن طريق تغليف السياسات القديمة بحلل جديدة أكثر لمعانا، فلم يعد هذا ينطلي على أحد. إعادة المصداقية تتم عن طريق إعادة نظر جذرية في السياسات السياسية والاقتصادية والتربوية والمجتمعية أولا، حتى يتسنى تغليف ما هو موجود وقابل لإقناع الناس
التعليقات مغلقة.