ريما خلف إلى تاريخ الضمائر

 

أمين قمورية ( لبنان ) الثلاثاء 28/3/2017 م …

ريما خلف إلى تاريخ الضمائر

إذا كانت الحياة وقفة عز، فقد فعلتها ريما خلف حين تقدمت باستقالتها من منصبها الكبير في الأمم المتحدة. لم تفاجئنا ريما بخطوتها الجريئة التي أدخلتها تاريخ الضمائر. لكن المفاجأة الأكبر جاءت من الأمين العام الجديد للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس الذي تخلى بأمر موقع من الأميركيين والإسرائيليين، عن سجله الإنساني الحافل عندما كان مناضلاً ضد الديكتاتورية في بلاده البرتغال ومفوضاً للوكالة الدولية لشؤون اللاجئين يبلسم جروح الهاربين من الفقر والجوع والظلم في العالم.

“جريمة” هذه السيدة العربية المحترمة إن “الإسكوا” التي تتولى إدارتها، وضعت تقريراً بالأرقام والحقائق والوقائع عن وضع الفلسطينيين في أرضهم، ووصفت النظام الإسرائيلي بأنه نظام عنصري مثله مثل النظام الذي سقط في جنوب أفريقيا نهاية القرن الماضي، بل ويدعو إلى مقاطعته ووقف الاستثمارات فيه، وإحالته إلى المحاكم الدولية، وفرض العقوبات عليه. ويقرّ بأنّ “حجم الأدلة يدعم، بما لا يدع للشك مجالًا، أنّ إسرائيل مذنبةٌ بجريمة فرض نظام أبارتايد على الشعب الفلسطيني، ما يصل إلى حدّ ارتكاب جريمة ضد الإنسانية”، و”أنّ المجتمع الدولي، ولا سيما الأمم المتحدة ووكالاتها، والدول الأعضاء، ملزمة جميعها إلزاماً قانونياً، وفق قدراتها، للحيلولة دون نشوء حالات الأبارتايد، ومعاقبة المسؤولين عن هذه الحالات”.

كان هذا وحده كافياً كي تجن إسرائيل جنونها لأنها اعتادت منذ زمن طويل أن تسمع في المنظمة الدولية أنها الضحية والدولة الديموقراطية بينما الفلسطيني هو الإرهابي والجلاد. هذه ليست المرة الأولى التي ترمى فيها ريما بالسهام، فقد دأب المندوبان الأميركي والإسرائيلي، على تقديم شكاوى ضدها إلى الأمين العام السابق بان كي مون، والمطالبة بعزلها من موقعها، بتهمة أنها معادية للسامية! معادية للسامية فقط لأنّها تجرأت وقالت أكثر من مرة إنّ جوهر مشكلات المنطقة يعود إلى الظلم الذي لحق بالشعب الفلسطيني.

بان كي مون التف على الإقالة، وطوي هذا الملف موقتاً. لكن الظروف تغيرت مع وصول ترامب إلى البيت الابيض، فهو ربط المساعدات المالية الأميركية للأمم المتحدة بالمواقف السياسية لهذه الهيئة. وكانت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، واضحة أشد الوضوح حينما أعلنت: “سوف تكتشفون تغيرات مهمة في طريقة تعاملنا. سوف نظهر القوة ونرفع الصوت وندعم حلفاءنا، ثم نتأكد من أنكم تدعمونهم أنتم أيضاً. الذين لا يؤيدوننا، سوف ندوّن أسماءهم ونعاملهم كما ينبغي. إنه بداية فجر جديد للتعامل بين أميركا والأمم المتحدة”. هذا الفجر الذي يعدنا به ترامب هو بكل بساطة من ليس مع إسرائيل هو ليس منا وجزاؤه الملاحقة والتنكيل.

غوترييس فضل موقعه الجديد على سجله الناصع منذ كان شاباً ناشطاً ضد الديكتاتورية ونصيراً للمظلومين ليس فقط في بلاده البرتغال وحيث وجد الظلم، فانصاع لـ “الفجر” الأميركي الجديد. وكانت ريما خلف أولى ضحايا هذا “الفجر”، فرفضت التراجع وفضلت التخلي عن وجاهة المنصب وقالت، في كتاب استقالتها، إنّها ترى “أنّ واجبها يقضي عليها ألّا تكتم شهادة حق عن جريمة ماثلة”، وأنّ قرارها لم يأتِ لكونها مسؤولة دولية، وإنّما جاء بصفتها “إنساناً سوياً، أؤمن بالقيم الإنسانية السامية التي أُسست عليها منظمة الأمم المتحدة، وأؤمن أنّ التمييز ضدّ أي إنسانٍ على أساس الدين أو اللون أو العرق غير مقبول، ولا يمكن أن يقبل بفعل سلطان القوة، وأنّ قول الحق في وجه جائرٍ ليس حقًا فحسب، وإنّما واجب”.

وباستقالتها المدوية لم تذكرنا ريما فقط بفلسطين المنسية، بل بالدرك العربي الذي نحن فيه، حيث لم تنبس أي دولة عربية من الدول الأعضاء في لجنة “الإسكوا” بكلمة اعتراض أو تنديد بالفضيحة الأممية. هذه الاستقالة صفعة للجميع: أولاً للمجتمع الدولي الأخرس والمصاب بداء الحول، وثانياً والأهم للجامعة العربية المصابة بداء العقم.

ريما خلف المقاومة لم تقل في تقريرِها سوى الحقيقةِ الغابئةِ عن الأمم والمغيبة عن ضمائر العرب.. وهي أنّ إسرائيل أسست لنظام فصلٍ عنصري ضدَّ الشعب الفلَسطيني، وهي باستقالتها استحقت وسامُ الشرف العربي مِن رُتبة مناضلة عربية. أما غوتيريس فليته اكتفى بمنصبه السابق بدلاً من أن يبدأ وظيفته ببصمة عار لا تتناسب مع منصبه الأممي الرفيع بل تجعله مجرد موظف أميركي وضيع في نيويورك. هنا تكشف ريما الفرق بين المناضل الحقيقي الشجاع والمقاوم وبين المناضل على القطعة وعلى مقاس الوظيفة البالية.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.