القبعة الحمراء ( قصة قصيرة )
ناجي الزعبي ( الأردن ) الثلاثاء 25/4/2017 م …
القبعة الحمراء ( قصة قصيرة ) …
على ملتقى نهري السافا والدوناب ” الدانوب ” تقع حديقة حديقة ” كلمغدان ” التاريخية والتي تقام على كتف قلعة اقامها الاتراك اثناء غزوهم – لبيو غراد – ” بلغراد ” او المدينة البيضاء ، وهي الترجمة الحرفية لكلمتي بيو – اي ابيض او بيضاء – وغراد اي مدينة .
وقد انتصب على مدخل القلعة مدفعين عملاقين كان الغزاة الاتراك يدكون بها المدينة الوادعة الجميلة ،
وقد نصب الضرب المدفعين لايقاظ ذاكرة الشعب الصربي ، وتزيين مدخل القلعة والحديقة التي تكاد تكون اقرب للغابة منها للحديقة نظرا لمساحتها الشاسعة ، وتنوع مرافقها ، وانهارها وبحيراتهاالصغيرة ، واشجارها الباسقة الضخمة الكثيفة التي يختفي العشاق خلفها وبين اعشابها ويتجول المتنزهين والزوار من مختلف ارجاء العالم بينها ليستمتعوا بهذه الحديقة وبجمال طبيعتها الأخاذ وبموقعها على ملتقى احد اهم واكثر الانهر شهرة في اوروبا الدوناب كما يسميه الصرب او الدانوب كما اعتدنا على تسميته الذي تغنى به الشعراء والمبدعون والفنانون الكبار .
والكثير يعرفون المقطوعة الموسيقية او الفالس المشهور الدانوب الازرق ل يوهان شتراوس الابن الذي خلد النهر العظيم بهذه المقطوعة الاخاذة .
كنت اتردد على الحديقة الساحرة لقربها من معهد اللغات الذي يقع بمنتصف مدينة بيو غراد بعيدا قليلا عن مقهى ال ” سبومنيك ” اي التمثال ، اذ ينتصب تمثال لفارس يمتطي صهوة حصان برونزي رافعاً احدى قدميه مقام على نصب امام المقهي الذي اعتاد الطلبة العرب والأردنيون الالتقاءبه وكانوا يسمونه السفارة .
وقد اتخذ سكان بيوغراد من حكاية رجل التمثال طرفة يتداولونها حيث يروون الحكاية لكل غريب والتي تقول : ان الحصان البرونزي لن يضع قدمه الا اذا مرت عذراء صربية من تحته !
بالطبع حصان من معدن البرونز لن يضع قدمه مطلقاً .
كنت أتجول بارجاء الكلمغدان ، وارقب العشاق المنزوين هنا وهناك واستمع لوشوشاتهم وهمساتهم ، واستمتع بالطبيعة الفائقة الجمال التي امتدت لها يد الانسان لتعالج مواطن الجمال برفق وذائقة رفيعة تزيد بهاء المكان وروعته .
وقد تعودت زيارة الحديقة والتجول بها وحيداً كلما سنحت لي الفرصة .
كنت اطلق العنان للذكريات والاحلام والآمال العريضة فينتزعني بهاء المكان الذي يضاهي أحلامي ويفوقها سحراً ربما.
تكررت الزيارات دون ان يكسر رتابتها حدث من اي نوع ،
الى ان اتى ذلك الصباح الذي احدث صخباً في الذاكرة وبدد رتابة الزيارات المتكررة
حين لمحت عن بعد قبعة حمراء على رأس فاتنة شرقية الملامح ،
استدرت بعد ان لمحتها لاواصل جولتي ،
لكن وميضاً ايقظ ذاكرتي واحدث دوياً هائلا من الذكريات التي استيقظت فجأة
دفعنتني الذكريات لاعادة النظر والتحقق من صاحبة الملامح المألوفة لدي ،
مستبعدا جدا ان تكون هي صاحبة القبعة ،
اي جحيم اتي بها لبلغراد ،
لكن القبعة كانت تقرع ذاكرتي بعنف وقسوة وإلحاح
فأنا احفظ تفاصيلها وكل خيط وزاوية وانحنائة فيهاواتذكر لونها الأحمر الجميل ، واذكر كم تأملت بها وأخرجتها من صندوق ملابسي وانا اقطن في خيمة في الجولان وإحلامي بصاحبة القبعة لا تغادرني .
فقد قضيت ساعات وساعات وانا أتجول باسواق دمشق قادما من الجولان في اجازة قصيرة حيث كنت ضمن الوحدة التي شاركت الاشقاء السوريين حربهم ضد العدو الصهيوني
بغرض شراء هدية أحملها لها لاجتيازها امتحان الثانوية العامة بنجاح .
كان لابد من ان احمل لها هدية النجاح ، بذلت جهدا مضنيا ً لاختيار الهدية فالخيارات والموازنة محدودة والوقت ضيق ، وبعد عناء لفت نظري شقراء فاتنة تغادر محلاً لبيع القبعات النسائية وهي ترتدي قبعة بالغة الاناقة اضفت على الفاتنة مسحة من الاناقة الأرستقراطية ، وبدون تردد قصدت المحل ، وبعد فترة من التامل وجدت ظالتي كانت قبعة حمراء تتصدر خزانة العرض وكأنها تعلن عن نفسها وتقول لي ان مكاني فوق رأس فاتنتك .
اخترتها وطلبت من صاحبة المحل تغليفها بغلاف يليق بصاحبتها ، ثم اصطحبت اللفة الغالية على قلبي بعناية فائقة وعدت لخيمتي بالجولان .
استقبلني على باب خندقي المموه بطبقة من خيم التمويه الملازم الاول تيسير ابو شقرة زميلي بالخندق والخيمة
وأصر على ان يرى مالذي باللفة
ولم يفلح اصراره بثنيي عن موقفي
فاللفة من الأسرار ذات القداسة لدي ،
مضى بعدها خارج الخندق وهو حانق على تزمتي الاحمق
لكني لم الق بالا لما يقول .
مضت الأيام وعدنا للأردن ، كنت متلهفا على لقاء صاحبة القبعة .
وكان اللقاء
وبلهفة بادية على محياي ناولتها القبعة ، ولدهشتي فقد تناولتها ببرود لم اعهده ولم تهتم برغم فضولها المعهود لان تعرف محتويات اللفة .
لكن انتظاري ولهفتي لم تطل فقد أشاحت بوجهها وتمتمت ببضع كلمات مبهمة.
ثم ألقت بالخبر الصاعق ،
قالت : بدون مقدمات لقد خطبت … انا آسفة.
ران صمت دامي .. وكدت ان احتضن يدها بيدي كما اعتدنا لتذرفان معا وجعهما واعيد عليهما تلاوة باقات احلامنا وفرحنا المعتاد الذي كان يملا الحياة صخبا وضجيجا طفوليا نديا بريئا” حلوا .
ثم تنبهت انها لم تقل لي ببداية القاء سؤالها العذب : كيفك انتا ؟
كانت تعشق فيروز.
افقت من الدوار الذي احدثه الخبر المر الصاعق وتزاحمت التساؤلات لدي برغم ان هرم احلامي اخذ يتداعى رويدا رويدا
لكني
لم انتظر بقية الرواية
قلت : مبروك ،
ثم نهضت وغادرت المكان .
صحوت من ذكرياتي بعد ان اقتربت الفاتنة الشرقية ذات القبعة الحمراء ،
ولدهشتي الفائقة تبين انها هي ترتدي ذات القبعة .
داهمني عطرها الأخاذ الرقيق .. هو ذات العطر الذي كان يعلن عن حضورها الذي لا يغيب وغيابها الذي لا يحضر
ينساب الى ذاكرتي
يفككها
يلملمها
او يرمم ما تبقى
ويشعل وجعها
تسمرت في مكاني والدهشة تكاد تعقد لساني .
توقفت امامي لوهلة خلتها لن تنتهي لكني انتزعت نفسي من الذهول الذي انتابنا معاً :
قلت : اهلا
قالت : كيفك إنتا
ثم وبعد برهة من الصمت قالت : ارى بعينيك نفس حيرة اخر لقاء ، واردفت لا تحتار .
كانت أمي السبب لم تكن تريد لي مصيرًا معلقاً بضابط في ميدان قتال ربما يعود وربما ..
وصمتت .
واصلت صمتي وانا أحدق بعينيها تارة وبالقبعة التي تحتوي على خزان الذكريات .
قالت : اراك تنظر للقبعة ..
لا تستغرب فهي اثمن ذكرياتي
وأغلى مقتنياتي .
مسني ذلك التيار المكهرب الذي يتسلل للوجدان من نشوة البوح الشفيف
وبعد ان عدت الى وجعي ووحدتي القادمة قلت وانا ارقب ثيابها الفاخرة واكسسواراتها الثمينة التي لا تخفى على احد والتي أجابت عن الكثير :
العفو .ثم واصلت صمتي القاسي
صمتت هي ايضا …
حاصرنا ضجيج الصمت المدوي
لكنها افلحت بالمتلص منه .
قالت :
برغم ذلك هي اقرب شئ لقلبي.
لم اجب
واصلت صمتي ،
فواصلت حديثها قائلة :
لقد اعتدت التنزه كل يوم – بالكلمغدان- في هذا الموعد.
فزوجي في بعثة تدريبية ببلغراد ولا اجد ما افعله بأوقات الفراغ سوى التنزه بهذه الحديقة الساحرة .
توقفت قليلاً بانتظار ردي
لكني برغم محاولتي لم استطع انتزاع نفسي من الماضي والاستغراق بالدهشة والانبهار والذكريات والاسى
وواصلت صمتي .
فسالت : وانت ماذا تفعل هنا ؟
لم البي لهفتها للإجابة برغم انها تكاد تفر عين عينيها بارعتي الجمال الذي طالما اطاح بي
اصريت على الصمت وربما تعمدت القسوة لادعها تبحث عن الاجابة كما بحثت عنها انا في حيرة مضنية سنيناً طويلة
وقبل ان تتلقى الاجابة التي لن تأتي انتزعنا معاً صوت أتى بعيد،
تلفتت للخلف فقد كان الصوت يردد اسمها ، ودونما تردد قالت :
هذا زوجي وهو بالانتظار حسب الموعد المعتاد
آسفة .. الى اللقاء ، او ربما ..
تنهدت وصمتت لوهلة …
وقالت :
تذكر فيروز و …كيفك انت ؟
ربما وداعاً
تبادلنا النظرات لوهلة
ثم انصرفت لا تلوي على شئ
كان صوت فيروز يتردد في مخيلتي وهي تصدح بأغنيتها التي أحببناها يوما ما من ضمن ما عشقنا معاً :
كيفك إنتَ
بتذكر آخر مرة شفتك انتا
بتذكر وقتا آخر كلمة قلتا
وما عدت شفتك
وهلّا شفتك
كيفك إنت ملّا إنت
بتذكر آخر سهره سهرتا عنّا
بتذكر كان في وحدة مضايق منّا
هيدي إمّي
بتعتل همّي
منّك إنتا ملّا إنتا
كيفك قال عم بيقولوا صار عندك ولاد
أنا و الله كنت مفكّرتك برّات البلاد
شو بدّي بالبلاد
الله يخلّي الولاد
إي كيفك إنت ملّا إنت
بيطلع عبالي
إرجع أنا وياك
إنت حلالي
إرجع أنا وياك
أنا وانت ملّا إنت
بتذكر آخر مرة شو قلتلّي
بدّك ضلّي بدّك فيكي تفلّي
زعلت بوقتا
وما حلّلتا
إنو إنت هيدا إنت
بترجع؟ ع راسي
رغم العِيَل والناس
إنتا الأساسي
وبحبك بالأساس
بحبك إنت ملّا إنت
التعليقات مغلقة.