تقديم لرواية الدكتور فايز رشيد “غـرنـاطـة: الـحـصـن الأخـيــر”
د. صلاح جرّار ( الأردن ) الإثنين 8/5/2017 م …
تقديم لرواية الدكتور فايز رشيد “غـرنـاطـة: الـحـصـن الأخـيــر” …
شجّعني على التقديم لهذه الرواية أسبابٌ كثيرة، أولها علاقتي الحميمة بمدينة غرناطة الأندلسيّة؛ فقد كانت أكثر دراساتي في الأدب الأندلسيّ عن هذه المدينة وأدبها وتاريخها وحضارتها وشخصياتها، وقد زرتها مراراً عديدة وكنت كلّما غادرتها أشعر بحنين يتجدّد إليها، وكنت وما زلت أعدّها وطناً عزيزاً غالياً. وثاني هذه الأسباب احترامي لكاتب هذه الرواية الدكتور فايز رشيد ولإسهاماته الفكرية والأدبيّة، إذ صدرت له عشرات المؤلّفات التي من بينها عدد من الروايات مثل “وما زالت سعاد تنتظر” 2011، و “عائد إلى الحياة” 2014، و “أفول” 2016، ولذلك فهو صاحب تجربة في فنّ الرواية، فضلاً عن ثقافته الواسعة في الأدب الإسباني واطّلاعه على تاريخ العرب في الأندلس وآدابهم. وثالث هذه الأسباب التي دعتني إلى التقديم لهذه الرواية أنّها من نوع روايات المكان وهو النوع الذي أحبّه وأستمتع بقراءته، وهي بذلك تشبه روايات أنطونيو غالا ورضوى عاشور وهي مصادر رجع إليها الكاتب، وهو لون من العمل الروائي يعتمد على دقة وصف الأمكنة ووضع القارئ في حالة تخيّلية تجعله يتمثّل المكان بأدقّ تفاصيله وصوره ومتعلّقاته.
وتجتمع في هذه الرواية عناصر من عدّة فنون: الرواية والرحلة والسرد التاريخي، فهي رواية متشابكة المعطيات ومتعدّدة المرجعّيات والانتماءات، فهي تندرج في فنّ الرحلة إذا شئت، وفي فنّ رواية المكان إذا شئت، والرواية التاريخية إذا شئت أيضاً. وهي في جميع الأحوال تتطلب من الكاتب ثقافة واسعة ومتشعّبة وقراءات عديدة تاريخية وجغرافية وأدبيّة، كما تتطلب إلماماً دقيقاً بالثقافة الإسبانية المعاصرة والثقافة الأندلسيّة القديمة.
فالروائي باحثٌ وأديب وفنّان في وقت واحد. والدكتور فايز رشيد في هذه الرواية بدا باحثاً دقيقاً ومتميّزاً وأديباً بارعاً يتجلى ذلك في لغته وأسلوبه وفكره المستنير ومحفوظه من الشعر والأدب، كما بدا فنّاناً متقناً لفنّه من خلال هندسة نصّه وبنائه الواعي لأحداث الرواية، وذلك أن نسيج العلاقات بين مسارات الأحداث في الرواية، وبين شخصيات الرواية، وبين الأماكن، هو نسيجٌ محكم الإتقان وعميق الدلالات والأبعاد ويعكس رؤى الكاتب وفطنته.
تسير أحداث هذه الرواية في خطوط ثلاثة متشابكة: الخطّ الأندلسيّ (مكاناً وتاريخاً)، والخطّ الفلسطينيّ، وخطّ العشق الفلسطينيّ الإسبانيّ. والمشترك بين هذه الخطوط يمكن إدراكه بيسر، فالخطوط الثلاثة ممتعة في بداياتها ومؤلمة في مآلاتها. فالعرب في الأندلس أسّسوا حضارة عظيمة ما زالت آثارها ماثلة إلى اليوم غير أنهم طُردوا من الأندلس بعد أن أنشأوا تلك الحضارة بسبب تنازعهم (وأمراضهم السياسية والاجتماعية)، وفلسطين جميلة جداً لكنّ العرب لم يستطيعوا الحفاظ عليها (بسبب مرض التنازع والاختلاف)، فوقعت تحت الاحتلال الإسرائيليّ في مأساة مؤلمة، ولوليتا الإسبانيّة صاحبة بطل الرواية (ماجد) جميلة ساحرة، لكنّها ظلّت طوال مدّة علاقتها مع ماجد قلقة من عدم قدرتها على الاحتفاظ بهذا العاشق الفلسطينيّ النبيل, ولكن هل سيكتب لهذه العلاقة نهايتها السعيدة؟مع أنه ما من سبب يمنع ذلك! هذا ما ستتابعونه أثناء قراءتكم للرواية. إن ما يجمع بن المسائل الثلاث هي السلبية في التعامل مع مظاهر حياتية مهمة كالغفلة والإهمال ، ممّا أدى إلى نهايات غير محسوبة في الحالات الثلاث.
لقد قدّم الكاتب لروايته بسيرة ذاتية مختصرة تحدّث فيها عن رحلته إلى الأندلس سنة 2015، وقد أوحى في هذا التقديم للقارئ بأنّ أحداث الرواية هي استكمال لتلك السيرة، وقد عزّز الكاتب هذا الإحساس لدى القارئ عندما أضفى على بطله (ماجد) كثيراً من الصفات الخاصّة بالكاتب مثل كونه فلسطينيّاً وأنّه شارك في مقاومة الاحتلال وأنّه يخطط لكتابة رواية عن غرناطة وأبي عبدالله الصغير.
وتتميّز هذه الرواية بالبراعة والدقة في تصوير الشخصيات (لوليتا) ووصف الأماكن (مدريد وقرطبة وغرناطة وإشبيلية وفاس)، حتّى ليكاد الكاتب أن يقنع القارئ بأنّ الأحداث حقيقية وليست متخيّلة، معتمداً في ذلك على الحوار الخارجي (ديالوج) والحوار الداخلي (منولوج) والاسترجاع والسرد والربط بين الأحداث والمواقف وتصوير المشاعر والأحاسيس، والتدرّج في الكشف عن خيوط الحدث والنهايات التراجيدية.
وتطرح هذه الرواية أسئلة مؤرّقة حول موضوع الحكم العربيّ للأندلس الذي دام ثمانية قرون: هل هو احتلال؟ وإن كان احتلالاً فهل سيكون مصير الإسرائيليّين في فلسطين مثل مصير العرب في الأندلس؟
إنّ رواية “غرناطة: الحصن الأخير” للروائي والأديب والكاتب فايز رشيد رواية ذات موضوع جذاب وتقنيات لافتة وهندسة واعية، وهي غنيّة بالرؤى والأفكار الإنسانيّة الرفيعة، يستحقّ عليها كاتبها الثناء والتقدير.
التعليقات مغلقة.