العامل الأمـّي البـسيـط الـذي عـلـَّمني أبجـدية الفـلسفة

 

 

د.عـبد القـادر حسين ياسين ( الإثنين ) 8/5/2017 م …

العامل الأمـّي البـسيـط الـذي عـلـَّمني أبجـدية الفـلسفة …

عملت أجيراً عـند صاحب دكان لتأجير الدراجات.

كان معلمي أسمراً، طويلاً، فيه طيبة، وفيه ملاحة،

لكنه بسيط، لا يخطر لك، وأنت تراه، أنه في حلقة ما،

تعـقـد اجتماعاتها في المغائر، على ضوء الشموع.

ولأن معلمي عـمـر عـطـيـة أمّي،

فقد كان يأخذني، مساء، لأقرأ له بعض النشرات،

وفيها، لأول مرة، قرأت كلمة فـلسفة.

قلت له: ما معنى فـلسفة يا معلمي?

قال: “معـرفة القـوانين…”

أي قـوانين…؟

“القـوانين الغربية التي تحكي عن الدنيا والناس والتاريخ، والـفـقـر، والغـنى…”

وأين يبيعونها…؟

“في بلاد برّة”.

ولماذا لا يبيعونها عـندنا؟

“لأنها ممنوعة…وهي مكتوبة بالفـرنجي..”

وكيف عـرفت بها أنت؟!

“هذا سرّ…أنت لـسـَّـاك زغـيـر….

لا تسألني عن الأسرار!”

أضاف:

“الـفـلسفة شيء واسع، عـجيب، لا يفهمه إلا المتعلمون “.

ومَن الذي صنعها…؟

“رجـل ألـمـاني نسيت إسمه؛

له لحية كبيرة…أنا رأيت صورته فقط.”

وكيف فهمت كلامه…?

“أنا لم أفهم كلامه…

الفـلسفة، يا بني، علم صعب،

والفيلسوف رجل عالم، قرأ كل ما كتب عن العالم،

ويعرف كل شيء، رأسه يتسع للمعرفة، كما يتسع البحر للماء.”

تخيلت عندئذ رأس هذا الفيلسوف كبيرِا كالجبل،

وجسمه عملاقًا كجسم الغول في الحكايات التي أسمعها،

وأنه يحفظ، في هذا الرأس، كل ما كتب،

وأنه عظيم، لا شبيه له بين الرجال الذين أعـرفهم.

منذ ذلك اليوم، صار للفـيلسوف احترام كبير في نفسي،

وارتسمت له صورة أقـرب إلى النحول، والشعـر المنفوش،

والنظرات الشاردة، والإبط الذي تحته كتاب كبير ككتاب “ألف ليلة وليلة”،

ورحتُ أحلم، على طريقـتي الصبيانية، أن أصير فـيلسوفًا،

إذا ما قـرأت كثيرًا، على ضوء فانوس الكاز.

ولإضفاء المظهر الفـلسفي على نفـسي،

طفـقـت أنفـش شعري، وأسير وحيدًا،

وأتعـمّد قـلة الكلام، وأقول لأترابي متباهـيًا:

أنا أعرف رجالاً لا تعرفونهم، رجالاً يحبون الفقـراء.

وذات يوم ، جـلست مع جـمـال سـويـلـم ، أحـد عـمـَّـال التنـظـيف في المـخـيـم ،

نتبادل أطراف الحديث، عن المدرسة، وعـمّا أقـرأ من كتب…

وما إن أنِسَ الرجـل إليّ، وعرف أنني أحبّ المطالعة،

وأعـمل أجيرًا عـند عـمـر عـطـيـة،

حتى أخرج من تكة شرواله ورقة صغيرة مطوية بعـناية،

هي المنشور الأول الذي وقع في يدي، وكان فـيه ذكر للفـلسفة،

فـدُهـشت لأن “زبـَّـالاً” مثـله يحمل منشورًا ولا يخاف،

وأنه من جماعة عـمـر عـطـيـة، وعـبد الـباسـط عـويـدات ،

وإن لم يذكر هو هـذين الاسمين.

قرأت المنشور ولم أفهم ما فـيه إلا قـليلاً،

فـقـلـت له: يا عـم جـمـال ، أنا أقـرأ كتاب التاريخ فأفهمه،

لكنني لم أقـرأ اسم فـيلسوف، ولا كلمة فـلسفة.

قال العم جـمـال: “في هذه الكتب لا يذكرون الفلاسفة،

هذا خطر، ولا يشرحون كلمة فـلسفة، لأنها صعـبة،

أنا نفـسي لا أعرف ما هي، لكنني، نتيجة التجربة،

صرت فـيلسوفاً على طريقـتي،

أعـني تعلمت أن الفـلسفة ليست “أكلة مجدّرة”، بل هي عـمل…

أن تعمل، كما نعمل نحن، تصير فـيلسوفاً ولو بغير كتب،

تأليف نقابة عـمـال مثلاً، هذا ما تقول به الفـلسفة،

أن تحـتفـل بأول أيار، عـيد العمال، هـذا فـلـسـفـة،

أن تتظاهر ضد النـظـام، هـذا فـلـسـفـة،

أن تثق أن الفـقـراء لن يبقوا فـقـراء،

وأن أغنياءنا لن يظلوا يمتصون دمهم، هـذا فـلـسـفـة،

أن تعرف أنه في بلاد المسكوب قامت دولة العمال والفلاحين،

وأنها معـنا، هـذا فـلـسـفـة…

وأخيرًا أن تؤمن أن العدالة ستنتصر في كل مكان، هـذا فـلـسـفـة.”

أعـتـرف بأنَّ هذا العامل الأمـّي البسيط عـلـَّمني أبجـدية الفـلسفة،

جعـلها مفهومة في نظري.

وقد سعـيتُ، في ركضي وراء الرغـيف، إلى تطبيق نظريته،

وهي ترجمة عـملية لمضمون الفـلسفة التي قرأتها.

في دكان أبي سـمـيـر الحـلاق ، كان يجتمع بعض طلاب المدارس،

ونـتـنـاقـش في الكثير من المسائل، وقد أفـدت من هـذه المناقشات،

ومن قراءة الصحف والمجلات كثيرًا…

وفي إحدى الليالي زارنا رجل نابلسي،

وقـدم إليـنـا نفسه باسم قـاسـم .

قال إنه سمع بي، وسألني عمّا أقـرأ،

وأوصاني بمطالعة بعض الكتب،

وأعطاني كراسات صغيرة، من بينها كراس مترجم،

ومنه تعلمت المبادئ الأولى للفـلـسفـة…

قـرأت “رأس المال” غـيـر مـرَّة،

وصارت معـرفتي بالفـلسفة أوثق،

لكن ما قاله لي ذلـك الـعـامل البسـيط ذات يـوم،

ونحن نشـرب الشـاي في أحـد زواريب المـخـيـم،

ظل أساسًا عمليًا لنشاطي الحياتي، ودخل، بأشكال مختلفة،

في كتاباتي الأدبية… ولم يخرج!

هذه، في سطور، حكايتي مع الفـيلسوف الذي “رأسه بحجم الجبل،

وجسمه عملاق كرجل أسطوري” …

وكلما رأيت صورة كـارل مـاركس الآن، بلحـيته الـكـثـَّـة،

وجبينه العريض الوضَّاء، وشعره المسترسل، ونظراته النجمية،

أبتسم لطفولتي التي بـَعـُد بها العهد،

بمقدار ما اقترب هذا الفـيلسوف من قـلبي ونفسي،

لأنه، بفكره العظيم، أعطاني مفهومًا عن العالم،

وعـلـَّـمـني أن الفـلسفة ليست “أكـلة مجدّرة”،

ومنحني الرؤية التي فـتحـت عـيني،

وأضفى على مهنتي لا الوعي وحده،

ولا المعـرفة وحدها، بل الجمالية أيضًا.

يخطئ من يظن أن إنسانًا قادر على فهم العالم دون أن يقرأ الفـلسفة،

على هذا الفيلسوف أو غيره،

ويخطئ أكثر من يحسب أنه قادر على الكتابة،

دون الاطلاع على الفـلسفة، ليس بصفتها “وصفة” بل كمرشد عمل،

في السياسة والأدب على السواء.

سـُئل مـكـسـيم غـوركي مرة:

“كيف تعلمت الاقـتصاد؟”؛

كان عندئذ يعمل حمّالا على نهـر الفولغا،

فقال: “انظروا … إنه منقوش على ظهري..!”.

تسألونني كيف تعرفـت إلى الـفـلـسـفـة؟

أقول لكم: تـعـلـمـتـهـا من “زبـَّـال” في المـخـيـم ؛

ومنذ ذلك اليوم ، أصبحت مفاهـيمها منقـوشة على قـلـبي،

راشحة من مسام جلدي!

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.