دراسة هامّة … دروس من المقاومة في فلسطين إلى الربيع العربي
أ.د. مازن قمصية* ( فلسطين ) الاربعاء 10/5/2017 م …
دراسة هامّة … دروس من المقاومة في فلسطين إلى الربيع العربي …
*جامعة بيت لحم …
من المرجّح أنّ القرن الحادي والعشرين سيشهد المزيد من الصراع بين اتجاه لديمقراطية محليّة وقوة شعبية حقيقية وبين اتجاه للعولمة العسكرية / الهيمنة الإقتصادية لعدد محدود من المستنفعين بقيادة الحركة الصهيونية. وستعتمد هذه النخبة أكثر على إثارة نزعات متعصبة في سياق سياسة “فرق تسد”. وأعتقد أن الأول سوف يفوز في نهاية المطاف لأنّ الناس يدركون أنه إذا فاز الأخير لن يكون هناك بشر للاحتفال بهذا الفوز. ومع المحاولات لعزل فلسطين عن محيطها العربي والإسلامي خلال هذه المرحلة التاريخية والتي شملت الربيع العربي فستبقى قضية فلسطين في المركز وربما المفتاح لمستقبل أفضل في أرجاء شتى من العالم. ولنفهم ما حصل وما يمكن أن يحصل لا بد من دراسة موضوعية للتاريخ الفلسطيني والعربي. هذه الورقة القصيرة لا يمكن أن تفي بالمراد ولذلك سنكتفي بإعطاء بعض الأمثلة والدروس من حقبتين فقط في: العهد العثماني والعشرينات من القرن الماضي وثم نظرة لواقعنا ومستقبلنا. (نرحب بتعليقاتكم)
أمثلة من العهد العثماني
في عام 1831 قامت الجيوش المصرية بقيادة محمد علي باحتلال فلسطين والذي عيّن نجله إبراهيم حاكمًا عليها. قامت انتفاضة الفلاحين الفلسطينيين على نمط ثورات سبقت ضد العثمانيين عام 1808 وعام 1826. في 19 أيار 1834 قال وجهاء المدن والقرويون والبدو للمسؤولين المصريين في نابلس والقدس والخليل بأنّهم لن يوفّروا الحصص المطلوبة من المجندين. أعقب هذا العمل من المقاومة الشعبية ضد التجنيد الإجباري مظاهرات في منطقة الخليل حيث قام سكان قرية سعير وأهل المدينة بقتل 25 جنديًّا مصريًّا واعتقال الحاكم. انتشرت نار الثورة في جميع أنحاء الريف الفلسطيني، وكان الثمن باهظاً حيث تم نقل الآلاف من الفلسطينيين عن طريق البحر إلى مصر من أجل التجنيد القسري وقُتل المئات وتمّ زج البعض الآخر في السجون وتمّ تدمير الجزء المسلم من مدينة بيت لحم[1]. وبضعف الحكم المصري جاء نجاح الانتفاضة وعادت المحافظات تحت الحكم العثماني عام 1840. وربما كان الأهم من ذلك للمستقبل هو أنّ الانتفاضة أشعلت الحس القومي وقدّمت نموذجًا للنشاط السياسي الذاتي والمقاومة التي تردّد صداها لعقود مقبلة.
بدأت نشاطات القومية العربية ومقاومة الصهيونية منذ عام 1868 مع تأسيس جمعية سرية سميت بـ (الجمعية السورية) ومقرّها دمشق. وقد ضمّت أعضاء من جميع أنحاء بلاد الشام (سورية الكبرى وتشمل فلسطين) مع شعار “تنبهوا واستيقظوا يا عرب”. ونمت مثل هذه المنظمات مع بدء تدفّق الصهاينة وازدياد التوتر بين المواطنين الأصليين والصهاينة والحكام العثمانيين.
توسّع الوعي الوطني العربي وتبلّور في شكل منظمات سريّة مثل القحطانية التي تأسّست عام 1909 على يد مجموعة من الضباط العسكريين والمدنيين العرب برئاسة عزيز علي العمصري والتي “نادت بازدواجية الإمبراطورية لتصبح عربية تركية، كالنظام النمساوي الهنغاري؛ وكذلك تبلورت جماعات أخرى مثل الجمعية العربية الفتاة التي تأسّست عام 1911 في باريس من قبل الطلاب العرب، حيث تم نقلها إلى بيروت عام 1913، ومن ثم إلى دمشق في 1914 , والتي دعت إلى الاستقلال العربي من أيّة سيطرة أجنبية… وجمعية العهد، التي تأسّست عام 1914 بعد انحلال الجمعية القحطانية بسبب اكتشاف عميل داخلها، وتتألّف جمعية العهد من ضباط الجيش العربي واثنين من المدنيين، وتتبع برنامجا مشابهاً لسابقتها”.[2] أسّست الجمعية العربيّة الفتاة على يد عوني عبد الهادي وجميل مردم ورفيق التميمي وغيرهم. وبعد بعض عمليات التسلّل وتعذيب أحد أعضائها أسّست منظمة أو جمعية سرية مشتقة تدعى بجمعية العهد.[3] وتم تأسيس جمعية الإخاء العربي الأولى في اسطنبول عام 1908 حيث ضمّت فلسطينيين مثل شكري الحسيني. وفي العام الذي تلا ذلك، تم تأسيس المنتدى العربي، الذي ضم فلسطينيين و الذي دعا إلى تطبيق اللامركزية.[4]
في هذه الفترة نقلت الحركة الصهيونية مقرَّها إلى لندن لأنها فشلت مع الحكومة العثمانية. وكان السبب الرئيسي للفشل هو المقاومة الشعبية الفلسطينية.[5]
دروس من العشرينات
خطّطت الامبراطورية البريطانية إلى تقسيم العالم العربي مع فرنسا كما جاء في معاهدة سايكس بيكو لعام 1916. وقام الحكام البريطانيون بإنشاء ممالك صغيرة خاضعة لمصالحها الامبريالية ولتأمين مستقبل الصهيونية، مثلًا تم تعيين عائلة آل سعود لتكون المسؤولة عن منطقة الحجاز التي كانت ستصبح المملكة العربية السعودية على حساب الهاشميين الذين تمّت مراضاتهم من خلال إعطائهم الحكم في مناطق شمال الجزيرة العربية (وهي بلاد الشام أو سورية الكبرى). كان هؤلاء الحكام مستعدين لفعل ما تطلبه بريطانيا العظمى منهم في ما يخصّ فلسطين. وردّ عبد العزيز آل سعود على الطلبات البريطانية من خلال كتابته وبخط يده عام 1915: “أنا السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود أقرُّ وأعترف ألف مرة للسير بيرسي كوكس ممثل بريطانيا العظمى بأنّه ليس لدي أي إعتراض بإعطاء فلسطين لليهود الفقراء أو لغيرهم كما رأته من قبل بريطانيا العظمى ولن أخرج عن طاعة بريطانيا حتى قيام الساعة”.[6]
وصرّح اللورد بلفور في مذكّرة خاصّة كتبها إلى الّلورد كيرزون (الذي عارض الصّهيونيّة في البداية( في11 آب من عام 1919 (( بالنسبة لفلسطين لا ننوي اللجوء حتى إلى شكلية التشاور لمعرفة رغبات السكان المحليين… إذ أن القوى الأربعة الكبرى ملتزمة بالصهيونية، والصهيونية سواء أكانت صحيحة أو خاطئة، جيدة أو سيئة، فهي راسخة في تقليد منذ زمن بعيد وفي احتياجات حاضرية وآمال مستقبليّة ذات أهمية أعمق من رغبات وأهواء الـ 700،000 عربي الذين يسكنون حاليًّا هذه الأرض القديمة)).[7] لم تأت هذه النظرة فجأ ، إذ انتقل الزعيم الصهيوني الناشط والمؤثّر حاييم وايزمن إلى لندن عام 1904 بعد فشله في الحصول على الدعم العثماني (لأسباب لها علاقة بمقاومة الشعب الفلسطيني).
وعندما عاد الملك فيصل من باريس إلى دمشق عام 1919 كان الجو العام مشحونا بالثورة. اقترح مندوبون عن حزب الاستقلال العربى انتخاب جمعيّة وطنيّة وإعلان الاستقلال في سوريا العربية المتحدة (والتي تضم فلسطين وشرق الأردن ، والعراق ، ولبنان المستقلة ذاتياً آنذاك). ووقعت اشتباكات مع القوات الفرنسية وتصاعدت الاشتباكات بعد إعلان المؤتمر السوري العام تعيين فيصل ملكًا على سوريا في 8 آذار/مارس عام 1920. وأقلقت دولَ الحلفاء انتشارُ مظاهرات مؤيدة عاصفة في القدس. وتبع ذلك تتويج الشعب العراقي عبد الله شقيق فيصل ملكا على العراق. وقد جعلت هذه الأحداث دولَ الحلفاء تدعو إلى عقد مؤتمر في سان ريمو في 25 نيسان/أبريل عام 1920 لمناقشة وضع خطة لتدمير هذه العلامات المبكّرة للاستقلال بين العرب وإعادة تأكيد التزام فرنسا وبريطانيا باتفاقيات سايكس بيكو ووعد بلفور.[8]
أمّا موسى كاظم الحسيني فقد قدّم استقالته من منصب رئيس بلدية القدس رافضًا أن يقبل تنفيذ إملاءات الاحتلال البريطاني وعُيّن راغب النشاشيبي مكانه عام 1920 وهذا ساعد في تعميق الصدع القائم بين العائلتين الكبيرتين في القدس والبلاد ( النشاشيبي والحسيني). كان النشاشيبييؤمن بسياسة خذ وطالب – الأخذ والعطاء مع الانتداب. أما مجموعة الحسيني فكانت تؤمن بالمقاومة والرفض. هيأت هذه الأمور إلى إندلاع إنتفاضة 1920/1921 والتي قمعتها السلطات البريطانية. ولكن قامت الحكومة البريطانية بنشر “الكتاب الأبيض” في تشرين الأول/أكتوبر عام 1921 لمحاولة إرضاء بعض المطالب الشعبية. هنا بدأ نمط ثورات شعبية يمتصها المحتل أو القوى العظمى بإرضاء بعض مطالبها.[9]
وشهدت الفترة ما بين الأعوام 1923-1928 تقشّفًا كبيرًا وإضعافا للحركة الوطنية الفلسطينية. وقللت اللجنة التنفيذية للمؤتمر العربي الفلسطيني من مطالبها من البريطانيين وخفّضت توقعاتها. بدلًا من التركيز على الاستقلال فقد أصبح التركيز على التمثيل. وبدلا من رفض المهاجرين اليهود الجدد، فقد دعت إلى نظام التمثيل النسبي الذي يضمُّ كلًّا من الأفراد الأصليّين وغير الأصليين. وكان الوضع الفلسطيني السّيّئ جدًّا واضحًا في المؤتمر العربي الفلسطيني السابع الذي عُقد في مدينة القدس بين 20-27 حزيران/يونيو عام 1928. حضره 250 مندوبًا من كل الاتّجاهات: مصالح عشائريّة وأسر متنافسة، منهم الوطنيون ومنهم المتعاونون, مَن قاوموا استعمار الأراضي ومن كانوا يبيعونها. وقد تمّ توسيع اللجنة التنفيذية لتشمل 48 عضوًا (36 من المسلمين و12 من المسيحيين) من أجل إرضاء مختلف المناطق والطوائف والاتجاهات لتكوين قيادة مجزّأة وضعيفة[10] ولم تعد المطالب تشمل إنهاء الاحتلال البريطاني أو إلغاء وعد بلفور ولكنها ركّزت بشكل كبير على المطالب “المعتدلة” بما في ذلك توظيف الفلسطينيين والاعتراض على منح الحكومة البريطانية امتيازات للشركات الصهيونية.[11] وطالب مؤتمر اقتصادي عُقد عام 1923 في مدينة القدس بتخفيض الضرائب وتقديم الدعم للمزارعين وطالب بغرس الأشجار وما شابه ذلك.[12] واستمرّ الضعف حتّى أنّه أصبح يُمارس ذاتيًّا حيث واصلت الأسر الفلسطينية مثل الحسيني والنشاشيبي تكثيف المنافسة وأحيانا الاقتراب من السياسات البريطانية من أجل إحباط محاولات الآخرين للمطالبة بالقيادة. وبدا أنّ عصر العرائض والشكاوى والمظاهرات والمقاطعة المقيّدة وصل إلى نهايته. نجاحات صغيرة سُجّلت قبل عام 1929 من التكتيكات المدنية في وجه تنفيذ المشروع الصهيوني. ولكن كانت مكائد الحكومة البريطانية قادرة على إحباط جهود المقاومة وتكثيف الانقسامات بين السكان المحليّين إلى أن حصلت هبة البراق 1929 وغيّرت موازين القوى.
في نفس الفترة كان في الهند رجلٌ مسلمٌ اسمه عبد الغفار خان من زملاء مهاتما غاندي قد أنشأ “جيشًا” من عشرات الآلاف من المسلمين المقاومين في بيشاور في الهند. كانوا يرتدون زيًّا فريدًا من نوعه و منضبطين ووسائلهم غير عنيفة مطلقا. في واحدة من المظاهرات السّلميّة التي نظّمها خان لمقاومة الإنجليز فتحت القوات البريطانية النّار عليهم مما أسفر عن مقتل المئات منهم.[13]
في نوفمبر من عام 1918 طلب سعد زغلول وقادة القيادة الشعبية المصرية من قوات الاحتلال البريطاني السماح لهم بإنشاء قيادة مصرية للشعب المصري والتمهيد للاستقلال. عندما رُفض طلبهم قام هؤلاء القادة بجمع أكثر من مليوني توقيع حيث أُقِرّت قيادة جديدة رغم رفض الاحتلال. وردّت بريطانيا بالقبض على هؤلاء القادة مما أدّى إلى اضرابات عامة ومظاهرات، وقد وقعت الاضطرابات عام 1919 وتصاعدت واستمرّت حتّى عام 1922 عندما سمح البريطانيون بتشكيل حكومة مصريّة وإنْ كان يحكمها ملكٌ خاضعٌ للمصالح البريطانية.[14]أدى النجاح الجزئي في مصر إلى تشجيع شعبنا الفلسطيني في هبة 1920-1921والعكس صحيح.
بالمثال قامت هبه في العراق بعد أن وقّع متعاملون عراقيون عام 1948 صفقاتٍ سريّةً مع الحكومة البريطانية لإقامة قواعدَ عسكريّةٍ مستديمة على أرض العراق. تسرّبت المعلومات إلى الجماهير مما أدّى إلى مظاهرات حاشدة وفي يوم واحد (26 يناير 1948 ) قتل أكثر من 100 عراقي بالرصاص في مظاهرات سلميّة في بغداد. ولكن المظاهرات نجحت في تخريب الاتفاقيات وعوّضت الحكومة ذلك عن طريق المزيد من الصلاحيات الديكتاتورية لمنع عودة هذه الاضطرابات الشعبيه.[15] وهذا يعطينا مثالًا آخر عمّا يحصل من إنجازات ومحاولات إستيعاب للإنتفاضات العربية.
إلى أين نسير
لقد قامت منظمة العفو الدولية بوضع عشرة مبادئ لإحلال سلام دائم على أساس حقوق الإنسان:[16]
-لكل فرد الحق في الحياة والحريّة والأمان على شخصه. …
-لا ينبغي لأحد أن يتعرّض للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة…
-لا ينبغي لأحد أن يتعّرض للاعتقال والاحتجاز التعسفيين. …
-لكل فرد الحق في محاكمة عادلة…
-جميع الأشخاص أحرار ومتساوون في الكرامة والحقوق. ….
-لكل فرد الحق في حرية التنقل. …..
-لكل فرد الحق في العودة إلى بلده….
-لكل فرد الحق في حرية الفكر والرأي والتعبير. ….
-للمرأة الحق في المساواة الكاملة…
-ينبغي ألا يكون هناك إفلات من العقاب على انتهاكات حقوق الإنسان. …..
هذه المبادئ بديهيه وموجودة في كل الأعراف الدينية والإنسانية فلماذا لا تُطبق؟ لماذا لا زال اللاجئون في الغربة؟ لماذا احتمل الشعب المصري حسني مبارك لثلاثين عامًا؟ إنّ الأجوبة في أفكارنا جميعا. ربما يكون من الحكمة أن نتعلم من هذه القصة عن الهنود الحمر :
يحكى أن شيخًا من قبيلة الشيروكي تحدّث إلى حفيده قائلا: “هنالك قتال يدور في داخلي وهي معركة رهيبة بين اثنين من الذئاب واحد شرير يمثل الغضب والحسد والحزن والأسف والجشع والغطرسة والرثاء للذات والشعور بالذنب والاستياء والشعور بالنقص والكذب والكبرياء الزائفة والشعور بالتفوق والأنا” وتابع “أما الذئب الآخر فهو طيب — يمّثل الفرح والسلام والحب والأمل والصفاء والتواضع واللطف والإحسان والتعاطف والكرم والصدق والرحمة والإيمان.إنّ هذا الصراعَ نفسَه بين الذئبين يحدث في داخلك أيضًا — وداخل كل شخص آخر . “سأل الحفيد جده ، “أي ذئب سيفوز؟ ” أجابه الجد ببساطة “الذئب الذي تُطعمه”
هناك نزعات بعضُها حسنة وبعضها سيئة وهي موجودة في كل مجتمع ، وأيضا داخل كل إنسان. كمثال معظم الفلسطينيين الذكور الذين تزيد أعمارهم على 40 عام لهم خبرة في السجون الإسرائيلية. ما يقرب من 500000 من الضفة الغربية وحدها. و تقدم مثالا ملهما للتضحية بالنفس حتى أن النضال لفلسطين بات مرتبطا مع فولكلور الأحرار والمعتقلين، ولكن نظرًا لهذا العدد الكبير فإنه ليس من المستغرب أن أقليّة قليلة من هؤلاء استخدموا تاريخهم في السجون لمصالح شخصية أو مالية وبعضهم حتى تحول ليتعاون مع العدو. قال شخص يدعو الآن لقيادة المقاومة الشعبية لنا في لقاء غير رسمي حول الفترة التي قضاها في السجن خلال انتفاضة 1987-1991 عندما تم سجنه وعشرات الآلاف من الفلسطينيين ولعله في زلة لسان قال لنا: “كانت فترة ضحينا فيها لأجل فلسطين فقط مش عشان المنفعة الخاصة ومناصب ورواتب”. لكن من الواضح أن الغالبية العظمى ما زالت تكافح من أجل الثوابت الفلسطينية :الحرية ، وحق العودة ، وحق تقرير المصير. ولكن نسمع السلبيات في التجمعات وأعتقد أن الفساد مبالغ فيه ولكن يجب مناقشته علنا وبوضوح لأنه يخلق الإحباط بين الناس أو على الأقل يُستخدم كذريعة من قبل كثير من الناس ليبرّر عدم الانخراط في المقاومة.
إنّ الفلسطينيين ليسوا أفضل أو أسوأ من أي شعب آخر في الفساد أو التفاني في خدمة الآخرين. والكل منا هذه الذئاب المتصارعة. في كتابي الأخير ذكرت مئات الأمثلة من المقاومة البطولية والملهمة من شعبنا على مدى 130 عاما الماضية. في كتابي القادم اخترت أكثر من 15 قصة لتوسيع النقاش والتحدث بالتفصيل عن أفراد وأسر يقدمون لنا أمثلة عن التضحية والوفاء للوطن. بالتأكيد يمكن أن نكتب بعض الكتب عن الفساد في المجتمع الفلسطيني. وقد ظهرت بعض منها محدّدة تتناول مسائل معينة.[17] هنالك أيضا كتب حول الفساد السياسي والمسارات السياسية الخاطئة.[18]
نعرف أن بعض الأفراد الفلسطينيين باعوا ضميرهم ببيع الأراضي أو الوشي بآخرين. نعرف بعض الأشخاص الذين تعاونوا مع إسرائيل أو الدول الغربية الأخرى. نعرف بعض الأشخاص الذين يستغلون الأجانب الذين يأتون لدعم فلسطين. هنالك من يجري وراء المال أو الرحلات أو حتى تلبية رغبات جسدية. نعرف بعض الأشخاص المتسلقين ونعرف بعض الأفراد ذوي الغرور الذي يعتقدون أنه من دون بقائهم في كراسيهم وقيادة هذه المجموعة أو ذلك الفصيل أو المؤسسة فإن الأمور سوف تنهار. بالمناسبة أعتقد أن جميع المناصب في الحياة ينبغي أن يكون لها حدٌّ أقصى مدته ست سنوات سواء كان رئاسة إحدى المنظمات غير الحكومية أو حزب سياسي أو بلد أو أي شيء آخر ، وينبغي وجود تشريعات لمنع الجلوس في المقاعد لفترات أطول.
ولكن كل منا نعرف في أعماق قلوبنا أنّ الأغلبية من الناس لا تغذّي ذلك الذئب الشرير. ونعرف أيضا من خبرات شخصية أنه في ذروة الانتفاضة سيكون هناك المزيد من الناس الذين يخدمون بصدق وولاء لفلسطين. نلاحظ من تاريخنا أنّ هنالك فجوة بين السياسيين وبين الشعب تزيد بين الإنتفاضات وتصغر في ذروه حراك الشعب.. فقط كمثال عشوائي ، في الفترة 1923-1928 ، كانت الفجوة بين السياسيين والشعب واسعة جدا. كان هناك أكثر من 15 فصيلًا سياسيًّا يقود معظمها أفراد كانوا في كراسيهم لسنوات. كان تركيزهم الأساسي المصلحة الذاتية.مع أن بعضهم بدأ بطريقة جيدة. جاءت انتفاضة عام 1929 وثم انتفاضة 1936-1939وغيرتهم.
سمعنا أحد “القيادات” يقول انه ينتظر انتفاضة جديدة وسيرجع الناس لنا. لكن للتاريخ دروس أخرى. وهناك قادة (معيّنون أو منتخبون) يحبون أن يقفوا أمام كاميرات التلفزيون في الأحداث لبناء سمعة أو تقدير. ولكن معظم الناس أذكى من توقعاتهم . ولذا أزاحت معظم الانتفاضات القيادات القديمة ووضعت مكانها قياداتٍ جديدةً. تم تأسيس العديد من الفصائل الجديدة على سبيل المثال خلال انتفاضة 1921 ، 1929 ، 1936 ، و 1987.
إنّ المستعمرين دائما يقتلون من المواطنين أكثر مما يُقتل منهم. على سبيل المثال نسبة القتلى الفلسطينيين عشرةُ أضعاف الاسرائيليين. لكن طبيعة الصراع تطورت في العقود القليلة الماضية مما جعل المواجهة العسكرية أقل قبولا والقوة العسكرية غير قابلة لتحقيق أهداف المستعمرين ،ويمكن للناس تحدّي قوة عسكرية قوية جدا. يمكن رؤية أمثلة في فشل الولايات المتحدة في العراق وفشل الهجوم الإسرائيلي على لبنان في صيف عام 2006 وقطاع غزة في ديسمبر 2008. يمكن أيضا أن نرى إسقاط الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي على الرغم من أن طبيعة القوات اللازمة لتحدي القمع الداخلي والخارجي مختلفة وهنالك الان محاولات تجيير الثورات العربية لمصالح أخرى. إنّ الثورات ليست مضمونة النجاح ولكن الشعب يستمر في المقاومة. في نيوزيلندا واستراليا وأمريكا الشمالية وكان هناك تدمير واسع النطاق لمجتمعات السكان الأصليين على مدى 400 سنة الماضية وحتى الآن المتبقون يواصلون المقاومة.
في جميع الحالات اعتمد المحتلون على طرق تشمل “فرق تسد” وإضعاف السكان المحليين وبالتأكيد إطعام الذئب الشرير. في جنوب أفريقيا كان هناك أيضا العديد من الفصائل المتنافسة والاقتتال وحتى الكثير من التعاون والتوافق مع نظام الفصل العنصري (انظر على سبيل المثال قيادة البانتوستانات). الدروس المستخلصة بسيطة وواضحة بالنسبة لأغلب الناس اليوم. في فلسطين ، كان المستعمرون الصهاينة في الواقع أشدَ قوّة من أي المستعمرين في التاريخ واستعملوا كلَّ الأدوات ومقاليدَ السلطة التي تحت تصرفهم. كان تحت تصرف الحركة الصهيونية أناس متعلمون وفي مناصبَ مهمةٍ في جميع مناحي الحياة في بلدان كثيرة ومهمة. كان لديهم الثروةُ والسلطة و هي ليست ثابتة في مجتمع واحد مثل القوى الاستعمارية البرتغالية أو البلجيكية أو الفرنسية. وتمكن الصهاينة من تحقيق أمور كثيرة قبل استعمالهم القوة العسكرية: أشياء مثل وعد بلفور من بريطانيا ، ووعد كامبون من فرنسا عام 1917. وحتى في وقت مبكّر من تلك السنوات تمكّن حاييم وايزمن من الحصول على وعد من الملك فيصل.
ولكن هذا لا يلغي حقيقة وجود عرب وفلسطينيين ناشطين حقّقوا نجاحاتٍ هائلةً كلّفت المستعمرين كثيرا. من هؤلاء كان لدينا أشخاص مثل روحي الخالدي وحافظ عبد الهادي في أواخر القرن 19. أشخاص مثل موسى كاظم الحسيني وماتيل مغنم في العشرينات. وعبد القادر الحسيني وآلاف آخرين في الثلاثينات والأربعينات. كان لدينا أبو جلدة والعراميط. وكان لدينا أولئك الذين قاوموا بعقولهم وأقلامهم مثل غسان كنفاني ومحمود درويش و إدوارد سعيد فدوى طوقان وناجي العلي. كان لدينا طابورٌ طويل من عشرات الآلاف من الشهداء. ويستمر الصراع ونتائجه ستعتمد بشكل كبير على هذا التوازن بين إرادة الشعب والقلة التي تستفيد من النظام كما هو. وبعبارة أخرى فإن النتيجة النهائية تعتمد على جمع الذئاب الطيبة التي ستنتصر على الذئاب الباقية السيئة.
يمكن أن تنجح المقاومة الشعبية جزئيا ومحليًّا كما رأينا في نضال القرى ضد جدار الفصل العنصري. بدأ بناء هذا الجدار عام 2002 وكان من المتوقع أن يتم الانتهاء خلال 3 سنوات وتكلفه 2.5 مليار دولار. وها نحن بعد تسع سنوات ولم يُبن أكثر من 70 ٪ منه وكلّف أكثر من ثلاثة أضعاف. وهذا كان نتيجة المقاومة الشعبية. وكانت مقاومة شعبية فعالة جدا في استخراج الاعتراف بالحقوق الفلسطينية حتى ولو كان هذا جزئيا في بعض الفترات على سبيل المثال ، بعد انتفاضات 1936 و 1987. مقاومتنا أيضا بالصمود والذي أدى ألى تواجد 5.5 مليون فلسطيني في فلسطين التاريخية اليوم (حوالي عشر أضعاف ما كان تعدادنا سنة 1917. ومَن يقول اليوم أنّ هنالك فرقًا بين الاستشهاد في المقاومة المسلحة والاستشهاد في المقاومةِ غيرِ المسلحة (مثلا الشهداء غسان كنفاني أو مصطفى التميمي أو باسم أبو رحمة) يكون مخطئًا.
إنّ النضال من أجل الحرية ، سواء أكان مسلّحًا أو غيرَ مسلح يتطلّب خطّةً ومطالبَ واضحة. وفي قضية فلسطين المطالب هي كل الحق في العودة إلى بيوتنا وأراضينا والحق في العيش بمساواة والحق في تقرير المصير. في عام 2005 جاء المجتمع المدني الفلسطيني بدعوة (بوضوح) إلى العمل لتحقيق هذه المطالب العادلة. ونحن نسعى أيضا لمجتمع ما بعد التحرر والعودة يشمل الديموقراطية والشفافية والشمولية. لا ينبغي لنا أن ننتظر حتى التحرير لتطبيق هذه المبادئ فالغايات لا تُبرر كل وسيلة. لا معنى لإلقاء محاضرة حول التكتيكات والاستراتيجيات. من الأفضل بكثير الحصول على المشاركة والعمل مع حركة المقاومة الشعبية المتزايدة لتسريع التغييرات والتي بدأت بالفعل والتأكيد على أن تبقي إيجابية. في حين أن الكلمات والأفكار هامة وخاصة قول الحقيقة فينبغي علينا أن نتذكّر دائما أن الكلماتِ دون العمل تصبح بلا معنى. ولنبدأ دائما بأنفسنا بتغذية الذئب الطيب.
إنّ الإستعمار بطبيعته ينطوي على استخدام العنف ضد السكان الأصليين وخاصة أولئك الناس الذين يتم تجريدهم من أراضيهم وديارهم. بطبيعة الحال يقوم المستعمرون بقتل المحليين وتجريدهم من ابسط حقوقهم الحياتية, اذ ان المستعمر ينظر للمحلّي نظرة استعلائية لا يرى من خلالها حقَّه في الحياه ولذالك يكون من السهل قتله. بالمقابل يقوم المحليون بمقاومة الاستعمار الذي يأخذ أيضًا اشكالَ المقاومة العنفية. الا انّ كون المحلي مجرّدًا من القوة العسكرية والسيطرة فتكون المقاومة ” العسكرية” محدودة وتؤدي لعدد قليل من الضحايا نسبة للضحايا التي يوقعها المستعمر بالناس المحليين. فعلى سبيل المثال كان معدل المدنيين الذي لقَوْا حتفهم هو 10 فلسطيني:1 إسرائيلي. و في كل الحالات الإستعمارية تولّد المقاومة بكافة أشكالها والتي يُعترف بها ومشروعة من قبل القانون الدولي. لنتذكر أن مفهوم القوه ليس محصورا بالقوة العسكرية (أنظر مثلا أنواع القوة والإمكانيات التي جُندت للإستعمار الأسرائيلي قبل سنة 1948 وحتى بعدها).
من المهم ايضا ان نلفت النظر إلى أنّ المستعمر كبقية القوى المستعمِرة ينظرون الى المقاومة الشعبية التي يقوم بها السكان الاصليون كعمل ارهابي او بربري وتقع المقاومة الشعبية تحت مسميات عدة عادة يأتي بها المستعمر لتصوير السكان المحليين بالقتلة والارهابيين. واكثر من ذالك تأتي هذه المسمياتُ كوسيلة او اداه يستخدمها المستعمر لتبرير الاستعمار وعملية قتل المحليين والتخلص منهم. هكذا مثلا هي حالة الشعب الفلسطيني الذي حين يضرب كاتيوشه او صاروخ يقع في صحراء يعتبر ارهابيًّا بينما يقوم الاستعمار الاسرائيلي بقتل آلاف من المدنيين العزّل ويبقى ذلك ضمن الاطر المشروعة اما بمفهوم الدولة المستعمرِة او بمفهوم الدول الاخرى المساندة. إنّ تلك المقاومة هي بشكل منحنى التوزيع المعتدل في الرياضيات والذي يشبه شكل جرس. هناك جزءٌ صغير يُمثل التعاون (الطلب بشكل لطيف وقبول كل ما يتم إعطاءه لك) وحتى العمالة مع العدو. معظم هذه المقاومة هي شعبية في الوسط. وبعضها مسلح وبعضها عنيف جدا.
ومن ناحية التّسمية فمن الخطأ القولُ أنّ هنالك مقاومةً مسلحةً وأخرى سلميّةً أو أنها إما عنفية أو لاعنفية. لقد حاول البعض تصوير الفلسطينيين بأنهم إما إولئك الذين يؤيدون المقاومة المسلحة أو أولئك الذين يؤيدون المقاومة الشعبية. ولكن تشير استطلاعات الرأي الى أنّ الغالبية من الفلسطينيين يؤيدون كافة أشكال المقاومة وهي ليست نوعين فقط بل مئات الأنواع: من استعمال الأسلحة النارية إلى رمي الحجارة إلى تدمير المنشآت الإقتصادية للإحتلال إلى الإمتناع عن دفع الضرائب إلى العصيان المدني إلى عدم شراء بضائع العدو إلى التظاهرات التي تكبّد العدو خسائر (ولا نتكلم هنا عن تظاهرات شكلية) إلى أشكال الصمود والتحدي. المقاومة بأشكالها المتعددة والتي تشمل أكثر من 250 نوعًا طُبقت بنجاح في عقود من النضال ضد الصهيونية. ويجب أن ندرس التاريخ المشرّفَ والرائع لنا وأيضا تاريخ المقاومة المتنوعة في الجزائر ضد الفرنسيين و في جنوب أفريقيا ضد نظام التمييز العنصري. كلاهما نجح بتنوعه مع بعض الخلافات المهمة. ما يعطينا الأمل أننا شاهدنا تنوعًا أكثر بكثير للتكتيكات الفلسطينية عن الأماكن الأخرى وكنا كفلسطينيين مبدعين في ابتكار أنواع مختلفة من المقاومة الشعبية في فلسطين مثلا: أول استعمال للسيارات في المظاهرات في العالم عام 1929 في القدس, أول محاولات للتأتير في الشعوب الأوروبية التي تسمح لحكوماتها باحتلالنا (في العشرينات) وأول تجنيد للأجانب لمشاركتنا في الصراع (ومنهم من استشهد).
كانت المقاومة بكافة أشكالها (والأغلبية شعبية وغير مسلحة) فعّالة جدًّا في انتزاع الحقوق الفلسطينية حتى ولو كان هذا بشكل جزئي في فترات من تاريخنا ترجع إلى النجاح في تغيير سلوك الحكومة العثمانية (مما أجبر الحركة الصهيونية إلى الإنتقال إلى لندن عام 1904) ومرورا بالنجاح في تغيير بعض السياسات البريطانية زمن الإنتداب والنجاح في عودة آلاف اللاجئيين بين 1948-1951 رغم خطر الموت وانتزاع الإعتراف الدولي بأن مشكلتنا ليست فقط مشكلة إنسانية للاجئين عرب بل حقوقًا سياسيّةً لمواطنين أصليين.
كما يجب ان لا ننسى ان المقاومة الشعبية ابقت القضية الفلسطينية حيّةً طوال عشرات السنين وهذا بحد ذاته انجازٌ مهمٌ اذا قارنا ذالك مع شعوب اخرى كما في الولايات المتحدة، اذ تم القضاء هناك على 38 لغة اصلية كانت تنتمي لشعوب أصليّة، بقي الشعب الفلسطيني يمارس المقاومة بشتى اشكالها مما شكّل هذا صوتًا نابضًا للعالم عن عدم تنازلنا عن هويتنا وحقنا.
نُقاوم كفلسطينيين أيضا من خلال العيش والبقاء والصمود في منازلنا والذهاب إلى المدرسة والمعهد والجامعة وممارسة كافة مناحي حياتنا، ذلك لأن هذا الاحتلال الاستعماري يريد من جميع الفلسطينيين الاستسلام ومغادرة البلاد لإعطاء إسرائيل أقصى حدٍّ من المساحة الجغرافية مع إبقاء على أدنى حد لديموغرافيا السكان الأصليين. هي مقاومة عندما يستمر الرعاة الفلسطينيون في قرية عطواني قضاء الخليل مثلًا في الذهاب إلى حقولهم رغم الهجمات المتكررة من قِبل المستوطنين وحتى محاولة تسميم أغنامهم. هي مقاومة في تل الرميدة عندما يتوجّه الطلاب إلى المدرسة في حين يتم البصق عليهم ويتعرّضون للركل والضرب على أيدي المستوطنين والجنود الإسرائيليين. هي المقاومة عندما يقضي الفلسطينيون ساعاتٍ عند نقاط التفتيش أو يتخطونها للوصول إلى المستشفيات أو أراضيهم الزراعية أو عملهم أو مدارسهم أو حتى لزيارة أصدقائهم. لقد قاوم الفلسطينيون من خلال العديد من الوسائل الأخرى التي لا حصر لها والتي ذكرنا منها أمثلة في هذا الكتاب.
لقد كانت هناك دائمًا مقاومةٌ شعبية في فلسطين ولكن في بعض الأحيان كانت تزداد حدّةً وفي بعض الوقت تضعف بسبب عوامل خارجية وداخلية. ونجد فترات المد والجزر متباعدة من 9-15 سنة كحد متوسط ,أكثر من 14 انتفاضة عبر تاريخنا. لقد نجحت هذه الانتفاضات في إحباط الكثير (وليس جميع) البرامج الصهيونية التي تهدف إلى تحويل فلسطين إلى دولة يهودية على حساب الشعب الأصلي. من الدراسة نجد أن بداية الانتفاضات جميعها تشمل المقومات ألأربعة التالية: جمود فيما يسمى الحراك السياسي أو عملية السلام, ضعف ثقة الشعب في إمكانية الحل وفي قدرات القيادات السياسية, تشرذم وضعف الفصائل (وتركيزها على خلافاتها الداخلية), وزيادة في غطرسة وتهوّر المحتل (بريطانيا قبل 1948 وإسرائيل بعدها)
إنّ الغالبية العظمى من المقاومة تنبع من القاعدة الشعبية وتٌأخذ هذه المقاومةالأحزابَ والفصائل والقيادات السياسية عادة على حين غرة ببدء انتفاضة جديدة واختراعات طرق جديدة للمقاومة وما إلى ذلك. إنّ الفصائل تأتي وتذهب ويبقى الشعب (كم منا يذكر أسماء الأحزاب والفصائل العديدة التي كانت موجودة في العشرينات والثلاثينات؟
لقد كان هناك منذ البداية صراع بين التيارات التي فضّلت التعاون (وقد يقول البعض التواطؤ) مع المحتل على أمل الحصول على شيء، وأولئك الذين يفضّلون المواجهة وعدم التعاون مع المحتل. وكانت التيارات في العشرينيات من القرن الماضي عشائرية (مثل عائلة النشاشيبي و الدجاني والحسيني) وأصبحت أيديولوجية وهذا التطور ظاهرة طبيعية للمقاومة ضد الحكم الإستعماري وإنهائه. ولكن لا زال هنالك الكثير من ألأفكار العشائرية (أي يصبح الفصيل كعشيرة لها الولاء ولا يمكن نقدها). هنالك ديناميكية مهمة وخاصة بين بعض الفصائل يجب فهمها والتعامل معها ولكن معظم ألأمور المهمة بدأت من الشعب وليس من قيادات الفصائل. ويجب أيضا أن نعي أن هنالك قيادات ,أشخاص يتحدثون عن المقاومة “السلميّة” أو الشعبية وهم في الواقع يقوضونها بأفعالهم.
على نحو متزايد وخاصة في السنوات العشرين الماضية أشركت المقاومة الشعبية الفلسطينية الأجانب بمن فيهم الإسرائيليين وبتأثيرات إيجابية. ولكن الوضع الحالي يشمل ضعفًا وخللًا حيث هنالك إستنفاع ومحاولات واضحة لتجيير العمل الشعبي لمصالح ضيقة. طبعا نجد في كل الفصائل وفي كل المؤسسات الأهلية من هو وطني وصادق ومن هو انتهازي . إنّ الأمور اليوم تدعو للتفاؤل خاصة مع وجود تكنولوجيا تسمح للملايين بالنواصل فوريًّا. مثلا تنامت حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات بشكل لوغاريثمي على مدى السنوات القليلة الماضية وأعطت دلالات كبيرة بالنسبة للمستقبل. في غضون ست سنوات حققت إنجازات تماثل ما تحقق في 30 عام في جنوب إفريقيا.
ملخص
نجد من تاريخنا العربي كلَّ ما نريد من عبرٍ ودروس حول المقاومة الشعبية ونجاحها وأيضا دروس عن من يُحاول أن يجيرها. هذه الدروس تفيدنا للمستقبل حتى لا نعيد الأخطاء المرتكبة في الماضي. إنّ المجتمعاتِ البشريَّة نحو اتجاه أفضل وبوجود الإنترنت (الشبكة العنكبوتية) ستتسارع التغييرات كما رأينا في تونس ومصر. ولكن يجب الحذر من محاولات تجيير الثورات (كما يبدوا أنه حصل في ليبيا) أو تخفيض مطالبها (كما حصل في انتفاضات فلسطيني سابقة).
هناك حركة مقاومة شعبية حقيقية في العالم العربي. ولكن هناك كما حصل سابقا متسلقون و”مقاومون” فقط أمام الكاميرات أو في قاعات مؤتمرات. هناك أيضا حركة الثورة المضادة من قبل القوات المتحالفة مع نظام الفصل العنصري المعروف باسم إسرائيل و نظام الاختلاس المعروف باسم المملكة العربية السعودية. هناك أيضا لعبة المصالح الإقليمية وبعض الجماعات تراقب مصالحها (إسرائيل, ايران، حزب الله، تركيا الخ). هناك أيضا ألعابٌ قذرة من فرق تُحاول طرق سياسة”فرق تسد” وحتى باستغلال عمليات مموهة كاذبة. في كل هذه الفوضى يكون تحسين الوعي والتعليم هما حاجة مصيريّة للشعوب. والناس الذين لا يتثقفون ولا ينخرطون في العمل الجدي سينقرضون في هذه الغابة الشرسة والمكللة بالضباب. كان النداء قبل 120 عام في فلسطين “تنبهوا وإستيقذوا يا عرب” وبعدها “إستيقذوا وإنهضوا يا عرب” وكم نحن بحاجة إلى تلبية هذا النداء!
أصبحت المواجهة العسكرية اليوم أقلَّ قبولا وأقلَّ نجاعةً من أي وقت مضى. وأصبحت تكلفة الحرب غيرَ مقبولة في عصر وجود القنابل التي تزن 2 طنًّا والأسلحة النوويّة و البيولوجيّة والكيميائية. منذ الحرب العالمية الثانية نجد أن أكثر من 90% من ضحايا الصراعات بين الشعوب من المدنيين العزل. إضافة إلى ذلك، فقد أصبح التفوّق العسكري أقل احتمالاً ونجاحًا لتحقيق النتائج المرجوة من جانب الزعماء السياسيين. ويمكن أخذ المستنقع الذي وقعت فيه الولايات المتحدة الأمريكية في العراق وأفغانستان كأمثلة أو فشل الهجوم الإسرائيلي المكثف على لبنان في صيف عام 2006 وعلى قطاع غزة في كانون الأول / ديسمبر عام 2008 و كانون الثاني / يناير عام 2009. إنه من غير المفيد الحديث مع الناس حول التكتيكات والاستراتيجيات والتنظير فقط، بل إنه من الأفضل بكثير القدوم والانخراط بالعمل مع حركة المقاومة الشعبية المتزايدة من أجل المساعدة في تعجيل التغيرات التي تحدث بالفعل. لكن من الواضح أنه لا يستطيع أي جيش أو قوه عسكرية أن تهزم إرادة شعب. ولنجاح أكبر وأسرع في المقاومة يجب تحديد لمن يتم توجيه العمل له ومن سيقوم بالعمل (الإعداد الكافي للناشطين) وبجب وضع أهداف واضحة وقابلة للتحقيق تشمل كيفية زيادة تكلفة الاحتلال باستعمال كافة أنواع المقاومة الشعبية ونبذ الخوف والاستعداد للتضحية. نحن كشعب يريد الحرية نُصر على المنظور المتفتح والشامل للقوة (“وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة” و”ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة” ولكن هذه القوّةُ ليست محصوره على القوّةِ العسكريّة فقط). ستنمو حركات الشعوب وسيكون الشبابُ في الطليعة مرة أخرى وستنهزم الصهيونيّة والرجعية لا محالة.
________________________________________
[1] Baruch Kimmerling and Joel S. Migdal,The Palestinian People: a History, Cambridge:Harvard University Press, 2003, pp. 8-14
[2] Adnan A. Musallam, ‘From Wars to Nakbeh: Developments in Bethlehem, Palestine, 1917-1949’, Al-Liqa’ Journal (Bethlehem / Jerusalem), Vol. 30 July 2008.http://admusallam.bethlehem.edu/publications/From_Wars_to_Nakbeh.htm
[3] عبد الوهاب الكيالي. 1990. تاريخ فلسطين الحديث. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. ص46-47
[4] إبراهيم نجم, أمين عقل, وعمر ابو النصر . 2009. جهاد فلسطين العربية. مؤسسة الدراسات الفلسطينية.ص 161
[5] مازن قمصية. 2011. “المقاومة الشعبية في فلسطين: تاريخ حافل بالأمل والإنجاز”. مواطن. رام الله
[6] عبد المجيد حمدان. 2009. إطلالة على القضية الفلسطينية. المركز الفلسطيني لقضايا السلام والديموقراطيه ص 118
[7] Edward Said, The Question of Palestine, New York: Vintage Books, 1992, p. 16
[8] Izzat Tannous, The Palestinians: Eyewitness History of Palestine under British Mandate. New York: I.G.T. Company, 1988, pp.84-85
[9] مازن قمصية. 2011. “المقاومة الشعبية في فلسطين: تاريخ حافل بالأمل والإنجاز”. مواطن. رام الله
[10] عوني فرسخ. 2008. جذور التحدي والاستجابة في الصراع العربي الصهيوني الصراع وقوانينه الضابطة 1799- 1949. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت. ص 377-378
[11] علي محافظة.2000 الفكر السياسي في فلسطين: من نهاية الحكم العثماني حتى نهاية الانتداب البريطاني، ١٩١٨-١٩٤٨ المؤسسة العربية للدراسات والنشر
[12] وثائق المقاومة الفلسطينية العربية ضد الاحتلال البريطاني والصهيونية 1918-1939. سلسلة الوثائق العامة. جمع وتصنيف عبد الوهاب الكيالي. مؤسسة الدراسات الفلسطينية. بيروت. 1968. ص 67-68.
[13] Easwaran, Eknath. A Man To Match His Mountains: Badshah Khan, Nonviolent Soldiers of Islam. Petaluma,CA: Nilgiri Press, 1984
[14] اللاعنف و صنع السلام في الإسلام, محمد ابو النمر, ترجمة لميس اليحيى. الأهلية للنشر و التوزيع- عمان. ص 48-50
[15] محمد ابو النمر. 2007. ص 50-51
[16] http://www.amnestyusa.org/document.php?id=F631E2C3C616E1FB80256A1C003D4C41&lang=e
[17] انظر على سبيل المثال خليل نخلة “فلسطين : وطن للبيع” مؤسسة روزا لوكسمبورغ, رام الله 2011.
[18] مثلا انظر كتاب إدوارد سعيد : “نهاية عملية السلام وما بعد أوسلو”.
التعليقات مغلقة.