توظيف الدين في السياسة
د.عزمي منصور ( الأردن ) السبت 20/5/2017 م …
توظيف الدين في السياسة …
بادئ ذي بدء لا بد من التوضيح ان انتقادنا لتوظيف الدين في السياسة،من كل دين ومذهب،ليس انتقادا للدين ولا للاعتقادات الدينية البحتة،التي يجب ان يكون لكل فرد من افراد الامة الحق في الذهاب فيها اي مذهب يشاء،بل هو تحليل وانتقاد لتعزيز الدين وتنزيهه عن الامور الاجتماعيةـالسياسية،التي يجب ان تبقى خاضعة لمبدأ التطور حسب مقتضيات حاجة الامة،وما يقول به الفكر القومي الرامي الى خير الامة باسرها ،اي الى خير كل فرد وكل عائلة في الامة.كما لا بد من التوضيح ان لكل دين جانبين هما: العقائد والعبادات،حيث تمثل العقائد الاطار الفكري النظري،بينما تمثل العبادات الاطار التطبيقي او العملي ،اما محتوى العقيدة فيشمل مجالات ثلاث هي:الله والعالم والانسان ،اما محتوى العبادات فيشمل الشعائر والمناسك والفرائض التي يقوم بها الذين يؤمنون بعقيدة ما ،وهي صورة الايمان الظاهرة. ان وظيفة الدين السماوي تتبلور في توضيح الاعتقاد الصحيح،اي الاعتقاد باله واحد ليس كمثله شئ،وكذلك طريقة العبادة،اما في مجال المعاملات فوظيفة الدين تحقيق العدالة بين البشر عن طريق الاوامر والنواهي المذكورة في الشرع،كما ان هناك قيم للمعاملات الاخلاقية. وعلى صعيد الدين الاسلامي ،فقد اعتمد التشريع على مصادر رئيسة هي :القران الكريم ،والسنة النبوية الحميدة النظرية والعملية ،وبني على القيم والمبادئ والاصول المنهجية ،الاجماع والاجتهاد بالرأي والقياس،وهي مظاهر الفكر العملي للامور المستجدة والمستحدثة في المجتمع ،وقد عرف الاجماع في عهد الرسول وفي عهد الصحابة ،ولكن اختلف المسلمون في تفسير الاجماع لاحقا،فمنهم من راه في اجماع الصحابة ،ومنهم من راه في اجماع اهل العصر ،ومنهم من راه في اجماع اهل المدينة ،ومنهم من راه في اجماع اهل الكوفة ،ومنهم من راه في قول صحابي واحد اذا لم يعرف مخالف له. ان اخلاف الرؤى هذه احدثت صراعا فكريا في التراث الاسلامي،خاصة بعد امتداد الفتوحات واختلاط العرب باهل البلاد المفتوحة،حيث نشأت امور حياتية مستحدثة،خاصة وان اهل تلك البلاد المفتوحة ذات حضارات ولها من الثقافات والعقائد ما يختلف عما جاءت به تعاليم الاسلام،وبالرغم من نفور العرب واعراضهم عن تلك الثقافات بادئ الامر ،الا انه نتيجة التفاعل الاجتماعي جرت عملية تأثر وتأثير بعد فترة طويلة نسبيا،تقريبا في منتصف العصر الاموي ،فكان لا بد على العقلية العربية ان تتعامل مع تلك الثقافات والحضارات التي كان لها من العلم والمعرفة الشئ الكثير خاصة في مجالات الطب والفلك والفلسفة ،فتم ترجمة العديد من الكتب الى اللغة العربية،وبهذا تكون الثقافة الاسلامية قد انتقلت الى طور جديد،مع حركة تدوين العلوم الاسلامية ،كما اخذت الجوانب الحياتية في الامور السياسية والفقهية واللغوية المساحة الكبرى في التراث الاسلامي،وكذلك في العلوم الطبيعية ،وبرزت اختلافات الاراء التي اخذت صورة الجدل حينا ،وصورة الصراع حينا اخر ،مما انتج مذاهب وفرق مختلفة ،وظهرت صراعات في المستوى السياسي بين ما هو قومي وما هو اسلامي،نتيجة دخول قوميات متعددة في الاسلام ،كما ظهرت تيارات ومدارس على المستوى الثقافي،انتجت مخزونا هائلا عبر خمسة عشر قرنا من التراث.. ان ظهور التيارات والفرق،والصراع الدائر بينها ،جعل هذه الفرق والتيارات تقوم بتوظيف الدين للانتصار لنفسها ،وذلك عبر استخدام المقولات الدينية والايات والاحاديث ،وابعادها احيانا عن المراد الصحيح ،بهدف تحقيق اغراض معينة سواء على الصعيد الشخصي او على الصعيد الجماعي او على صعيد السلطة ،وهنا لا بد من التنويه ان عملية توظيف الدين عملية معروفة تاريخيا ،وقد استخدمتها الحركات الدينية في جميع الاديان السماوية والوضعية ،ولكن ما يهمنا هنا هو عملية توظيف المقولات الدينية لدى الحركات الاسلامية قديما وحديثا . ان الحركات الاسلامية هي جماعة دينية ،تتكون في بدايتها كدعوة ذات صبغة دينية ،اما قي صيغة ايديولوجية او اراء دينية في موضوعات محددة او منهجية معينة لجميع الموضوعات ،وتتكون هذه الدعوة من شخص او اكثر ،يتجه نحو الناس، فيؤمن بها البعض ويطبقها، ويعتبر الآراء المخالفة له غير صحيحة ،وقد يصل في بعض الحالات الى التكفير. وكثيرا ما تكون ارآء الجماعات الدينية امتدادا لجماعات اسلامية سابقة زمنيا، مع اضافة بعض الصياغات العصرية مثل( الاحزاب الشيعية ،الاخوان المسلمون،حزب التحرير الاسلامي، حركة النهضة،الوهابية) وهناك من يرفض ادخال الصياغات العصرية الحديثة ولو ظاهريا مثل “السلفية” ومع اقبال الناس على الدعوة، والقبول بالايدولوجية المطروحة او الافكار ذات الصيغة الدينية، يتم بعد ذلك رسم هيكلية تنظيمية للجماعة تتناسب وايديولوجيتها، وبسبب اختلاف المنهجية تختلف الهيكلية التنظيمية من جماعة الى اخرى،وهذا ما هو واضح في اختلاف الهيكلية بين الاخوان المسلمين والوهابية والصوفية.
ومن الجدير بالذكر ان كل جماعة تجعل من نفسها الجماعة المؤمنة او “الفرقة الناجية ” في المجتمع ،باعتبارها ورثة الرسول الكريم وخلفاؤه والامناء على الشريعة، وتحاول كل جماعة ان تستمد شرعية وجودها ومبرر الوجود من خلال تخطئة الآخر سواء جماعة دينية اخرى او انظمة حكم مخالفة لآرائها، وقد يصل الامر ببعض الجماعات الى تخطئة المجتمع ككل، ودعوة افراد المجتمع لترك الجماعات الدينية الاخرى او اي جماعة غير دينية .
ان تخطئة الآخر مع تعدد الجماعات الدينية يجعلها في حالة تنازع او تنافس او صراع ورغم ان الهدف المعلن لكل جماعة هو اقامة شرع الله او الخلافة، الا ان صراعها يخفي الهدف الحقيقي وهو الوصول للسلطة، حيث لا يصلح التعدد في السلطة، لذا تتصارع الجماعات مع بعضها البعض سواء اكانت الجماعات الاخرى دينية او غير دينية، اوتصارع المجتمع احيانا او السلطة ، وتقوم في هذه الحالة كل جماعة بتوظيف الدين لتخطئة الآخر، وقد استندت كل جماعة في تبرير التعدد ووجودها على حديث لم تثبت صحته عن الرسول الكريم(صلى الله عليه وسلم)” ستتفرق امتي على ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منهم واحدة والباقون هلكى.قيل:وما الناجية؟ قال: أهل السنة والجماعة /قيل: وما السنة والجماعة، قال: ما أنا عليه اليوم واصحابي”.
وعليه نظر اهل السنة الى الشيعة من منطلق انهم من الفرق الهالكة تبعا للحديث الذي لم تثبت صجته، وذهبت الشيعة الى انهم اتباع آل البيت، بيت النبوة، فهم الناجون. وأهل السنة ذهبوا الى انهم هم الناجون باتباعهم سنة النبي عليه الصلاة والسلام والباقي في هلكى. ووصل أمر التنازع داخل المذهب الواحد من اهل السنة والجماعة، الذين انقسموا الى عدة اتجاهات ،اتجاه تمثله الفرق الكلامية (كالمعتزلة والاشاعرة) واتجاه يمثله التصوف بشفيه السني والفلسفي وطرقه الكثيرة. واتجاه تمثله الوهابية والسلفية والاخوان المسلمين.
إن توظيف الدين على مستوى السلطة كان اكثر وضوحا وقوة، ومسألة توظيف الدين من قبل رجال السلطة هي مسألة تاريخية لجأت اليها جميع الاديان السماوية والوضعية، قديما وحديثا، بهدف توطيد السلطة وطاعة المحكومين، ومن اجل هذا الهدف تم اعتماد “فقهاء” او “مفتين” مهمتهم توظيف الدين لخدمة الارادة السلطوية ،بصرف النظر عن صحة الفتوى من عدمها، ومن خلال هذا النمط ينشأ تبادل بالمنافع بين الفقهاء والسلطة ، فالفقيه او المفتي السلطوي يحظى بمنافع شخصية فردية اما معنوية كالمناصب او مادية او كلاهما. وتحظى السلطة بطاعة الشعب للارادة السلطوية وترسيخ ركائز السلطة.
لقد ظهر توظيف الدين على المستوى السلطوي واضحا منذ القرن الاول للاسلام في صراع علي ومعاوية، وخاصة في صفين عام 37هجري برفع المصاحف على آسنة الحراب، ذلك التوظيف الذي مكن معاوية من فرصة لاعادة ترتيب صفوفه، وايضا حصول انقسام في جيش علي، بالرغم من تحذير علي من تلك الخدعة.
وفي العصر الحديث، قام فقهاء السلطة او السلاطين بالافتاء بعدم جواز الخروج على الحاكم، وعدم شرعيتة ،فالخروج على الحاكم قد تصل لدرجة الكفر، خاصة لدى الفقهاء، موظفين الآية 59 من سورة النساء وهي” أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم”.. مستدلين من هذه الآية الطاعة المطلقة للحاكم، وتحريم الخروج عليه، ومستندين ايضا على اقوال فقهاء سلطة سابقين عليهم زمنيا.
ومما يثير الدهشة أن تلجأ تلك السلطات البيوقراطية والاستبدادية الى توظيف فقهاء سلطويين من خارج بلدانهم.
للافتاء بالخروج على الحاكم، وتكفيره، بل والاستعانة بالاجنبي للاطاحة به،كما حصل في العراق وليبيا ومصر وسورية .
او تبرير بعض السلوكيات والمعاهدات للحاكم، كما حصل لدى فقهاء السلاطين في مصر،الذين أفتو بجواز معاهدة كامب ديفيد مع العدو الصهيوني ، وذلك بلي عنق النص الديني” وان جنحوا للسلم فأجنح لهم”.. أو استحضار جزئيات من التاريخ ووضعها في غير موضعها. وقد أفتي القرضاوي بضرورة الخروج على الحاكم في مصر وسورية. والتحالف مع الاجنبي فقال: لو خرج محمدا صلى الله عليه وسلم من قبره لتحالف مع الناتو. كما تم توظيف بعض دعاة الوهابية في العديد من دول العالم العربي للافتاء وفق مشيئة السلطان وما يخدم نهجه السياسي، فقد افتى بعض فقهاء الوهابية في السعودية وغيرها، بعدم جواز المظاهرات ضد الاحتلال في الارض المحتلة، لمنع الاختلاط، او عدم جواز وجود طواقم طبية مختلطة في سيارات الاسعاف لانقاذ الجرحى، بحجة عدم الخلوة او الاختلاط.
وهناك بعض الفقهاء من برر النظام الاقتصادي في دولته، حينما كان العالم ينقسم الى معسكرين: اشتراكي ورأسمالي، فبعض الفقهاء في سورية ومصر ليبيا ، حينما اتجهت هذه الدولة نحو بناء اقتصادي لا رأسمالي، ونادت “بالاشتراكية العربية” وجدت ببعض رجال الدين ضالتها، فقامت بصيغ الاشتراكية بالصبغة الدينية، واعتبروها اشتراكية عربية مؤمنة، فاستحضروا الافكار والسلوكيات المليئة بالتسامح والايثار، بجانب الاحاديث والايات التي تشير الى الصدقة والزكاة، وان الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار. لدرجة تجعل الاشتراكية ايمانا يعتقد به الناس ، كأنه جزء من الدين، وان هذا النظام الاشتراكي العربي هو استنباط وابتكار اسلامي وليس تقليدا، وهو ليس نظاما شيوعيا كافرا..
أما ققهاء الانظمة الاخرى ذات النهج الاقتصادي الرأسمالي، فقد برروا طبيعة النظام الاقتصادي الرأسمالي بمقولة”الاقتصاد الاسلامي” فانتشرت البنوك الاسلامية، تحت ذريعة الآية ” وحلل الله البيع وحرم الربا”، رغم انها لا تختلف عن البنوك الربويةالا في الشكل.
إن هذا التشتت والتناقض بالفتاوي، قد أثر على هوية المجتمع وجعلها عرضة للضعف والتشتت ايضا، وجعل المجتمع ارضا خصبة لعملية توظيف الدين، وتقبل الافكار اللامنطقية غير الصحيحة ، سواء من المنظور الديني الحقيقي او المنظور العقلي الواقعي.
ورغم اننا ندرك انه من الممكن ان يكون داخل المنطومة الواحدة نوع من الاختلاف والتنوع والتباين والتنازع المؤدي لانتقاء الأفضل ووحدة المنظومة. إلا ان ما يجري هو صراع مؤدي الى تشتيت الهوية وضعفها ، وجعلها تعاني من التخلف والمشاكل النفسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية. وينتج عن ذلك ايضا اتسام المجتمع بالوعي الزائف ، نتيجة هذا التشتت والتناقض والصراع، وسيطرة النواحي الانفعالية والذاتية والانانية والغيبية. مما يولد شعورا بالعجز عن استيعاب العالم. وسوء التنظيم الذهني في التصدي للواقع.
كما يقف العقل حائرا بين تلك الاراء والتيارات المتعددة والمتصارعة التي تحكم كل منها على الاخر بعدم الصواب ،وكل منها تتهم الاخرى ،وقد يصل الاتهام لدرجة التكفير احيانا ،مما ولد ازمة ثقة ،وازمة علاقة بين (الانا )و(الاخر)،هذا الاخر المتمثل بالمجتمعات الغربية وبعض الجماعات العربية او الاسلامية او المسيحية ،او اي مواطن مخالف رأيه رأي الجماعة الاخرى ،كما يتحير العقل الجمعي امام تلك الاراء،واي منها الصحيح والصواب وايها الخاطئ،لذا نراه ينادي بالقومية ان نادت بها السلطة ،ويرفضها وينتقدها ان رفضتها السلطة ،وتارة يقدس التراث وطورا يرفضه ،وتارة مع الخطاب الجهادي وتارة مع رفضه ،وتارة مع التسامح والادعاء بقبول الاخر ،وتارة مع رفضه الاخر وعدم التسامح والرضا منه ،وتارة مع التعايش بين ابناء الوطن الواحد ،وتارة مع القطيعة والعداء ،وتارة مع الديمقراطية وتارة ضدها بل وتكفيرها لدى البعض ،وهكذا دواليك ،مما انتج هوية مشتتة،ليس لها قدرة على التفاعل والتعامل مع الاخر وفق رؤيا محددة وبرنامج واضح ومحدد المعالم ،ان هذا التشتت بالهوية يعني ايضا تشتتا بقائمة الاصدقاء والاعداء،فما هو صديق من وجهة نظر جماعة قد يكون عدوا بتصنيف جماعة اخرى او حركة اخرى ،والعكس صحيح ،وبهذا تتبدد الطاقات والجهود نتيجة ضياع وتشتت الهوية وضبابية الرؤيا ،ومحاولة الاستئثار بالسلطة ،التي تضمرها بين ثنايا مقولاتها الدينية الخاصة بها .وهنا لا نستبعد ان اصحاب المنفعة الذاتية لا يستكبرون فتنة ولا جريمة من اجل مقاصدهم ،وانه لمن الامور المحزنة ان يصل التلاعب بعواطف المؤمنين الى حد بعيد في الشعوذة والتدجيل ،وبالنتيجة فان هذه الانشقاقات الدينية والحركات المتصارعة تؤدي الى التفرقة بين ابناء المجتمع الواحد وتؤدي الى شقاء الامة وتخريب الاوطان . ولا ننسى ان هذه الخلافات والصراعات قد فسحت المجال لدخول الدول الاستعمارية منها ،واستغلالها ابشع استغلال من خلال توظيف بعضها في خدمة اجندات خاصة بها ،او تحريض بعضها على البعض الاخر ،فمثلا قامت بريطانيا بتحريض المسلمين في الهند ضد البوذيين ،عملا بالمبدأ الاستعماري التقليدي (فرق تسد)،وذلك من اجل دوام السيطرة على الهند ،وكانت النتيجة انفصال جزء من الهند في دولة جديدة اصبحت تدعى باكستان ،ولادامة الصراع بين الدولة الام والدولة الحديثة تركت لهم لغما اسمه كشمير .ومن غريب امر السياسة الاستعمارية ،انها تناقض في بلاد ،عملها في بلاد اخرى ،فينما فرنسا وبريطانيا تدعيان حماية المسيحيين في سورية ،اذا بهما تدعيان حماية المسلمين في الهند وافريقية ،كما ان امريكا ادعت حماية المسلمين في البوسنة والهرسك واذا بها ضد المسلمين في افغانستان والعراق وسورية واليمن وليبيا ،وضد الاسلام الراديكالي حسب وصفها ،علما ان هذا الاسلام الراديكالي والذي تصفه بالارهاب هي من دعمته في افغانستان وليبيا والعراق وسورية طالما يؤدي دورا وظيفيا وفق الاجندة والمصالح الامريكية/الصهيونية ،ومجرد انتهاء دورهم ووظيفتهم تتخلى عنهم ،وختام القول لا بد من معرفة ان (المجتمعات تكبر بالمحبة وتفنى بالبغضاء ).
التعليقات مغلقة.