لقاء مع العروبي العتيق سليم الحص

 

 

د. فايز رشيد ( الأردن ) الإثنين 22/5/2017 م …

لقاء مع العروبي العتيق سليم الحص …

أن تلتقي برئيس وزراء لبنان الأسبق سليم الحص يعني باختصار لقاءً بسنديانة عربية شامخة من جيل عظيم! سنديانة أعلنت وفاءها للقضية الفلسطينيية منذ بداية الغزوة الصهيونية للأرض الفلسطينية. شخصية عربية من جيل الرئيس الشامخ جمال عبدالناصر, تقترب منها, فيملأ عبقها الثوري الأوكسجين الذي تتنفسه. شخصية قومية عربية بامتياز, قامة ناضلت ولاتزال وفق ما تسمح به الحالة الصحية لصاحبها حاليا, وقد بلغ منه العمر سنين فرضت ذاتها عليه. كل هذه المعاني اجتاحتني وأنا في طريقي لبيت ومكتب متواضع يشغلهما دولة الرئيس في عمارة سكنية عادية في منطقة عائشة بكار في بيروت, وكان دولته قد أعلن إضرابا عن الطعام تضامنا مع إضراب أسرانا الفلسطينيين الأبطال, الذين ابتدأوا شهرهم الثاني, وسط تجاهل دولي ورسمي عربي وفلسطيني لقضيتهم.

عرفت دولته حينما استفتيته وثلة من روّاد الوطنية والقومية العربية كالرئيس المرحوم أحمد بن بللة, في كتابي بعنوان “خمسون عاما على النكبة” الصادر عام 1998, وفي الثاني بعنون “ستون عاما على النكبة” الصادر عام 2008. هذان الكتابان اللذين سأظل أعتز بهما ما حييت, فهما مرجعين مهمين لمن سيناقش مستقبلاً زمن الوجود الصهيوني على الأرض الفلسطينية يوماً. أقول وأنا أعني ما أكتب , اعتماداً على تجارب التاريخ, فالكيان وصل إلى مرحلة في فاشيته وعنصريته الغاية في الوحشية, لم تسبقه إليها دولة ولا ظاهرة شبيهة في التاريخ, أسميتها “مرحلة ما بعد الفاشية والعنصرية”, وإدرك أنه في زمن قريب قادم سيسود استعمال هذا المصطلح.أقول ما أقول, انطلاقا من ظاهرة رد الفعل الصهيوني على قضية الأسرى. سألني منذ عشرة أيام مقدم برنامج شاركت فيه على فضائية “الميادين”, عن توقعاتي للمدة التي سيستغرقها الإضراب ( وقد راجت حينها دعايات بائسة لا تقرأ جيدا عدونا, بقرب انتهائه!) أجبت يومها: ستطول المدة, انطلاقا من أسباب إسرائيلية صهيونية عددتها, ولكن في النهاية سينتصر أسرانا بعد تضحيات كبيرة سيقدّمونها.

في تاريخ الظواهر الفاشية والنازية والجنكيزخانية وغيرها, وصلت كل ظاهرة منها إلى حالة من الإشباع من امتصاص دماء الآخرين, ولم تجد بعدها من دماء جديدة تمتصها. بالتأكيد والحالة هذه ووفقا للقوانين الفلسفية ستبدأ في امتصاص ذاتها, وهنا جاء التعبير الفلسفي :”البدء في أكل نفسها” ومن ثمّ “التأسيس لبداية نهايتها” أو سمّها “حفر قبرها بيديها”. الصهيونية هي الظاهرة الأقبح والأبشع والأكثر تعطشا للدم في التاريخ الحديث, ولذلك هي ودولتها كتعبير مادي عن الظاهرة القبيحة والقميئة , محكومان بالفناء, لذا صدّقوني وسجّلوها عليّ, إن احتفلت دولة الكيان بذكرى إنشائها القسري لسبعين سنة أو لثمانين, فحتما لن تحتفتل بالذكرى التسعين, حتى لو امتلكت كلّ أسلحة العالم وكل ما فيه من قنابل نووية, نتحدى أن تستعملها , فهي لن تكون بمنأى عن تأثيراتها المدمرة, ولو ذهب ستة أو تسعة ملايين صهيوني من قطعان المستوطنين الوحوش, وضعفهم من العرب, فستظل الأمة العربية باقية.الكيان لا يحتمل سوى هزيمة واحدة ! اسألوا الكاتبة عميرة هس والكاتب جدعون ليفي. من قبل أفتى بما أقول: أبراهام بورغ, سامي سموحة, إسرائيل شاحاك, شلومو ساند ,إيلان بابيه , نورمان فلنكشتاين ,آرثر كوستلر وغيرهم. عددّت فقط الاستراتيجيين والكتاب اليهود وليس غيرهم من العالميين.

وبالعودة إلى لقائي مع دولة الرئيس , صرّح مدير مكتبه إثر اللقاء بما يلي (أقول نتفا مما أعلنه مكتوبا) : استقبل الرئيس الدكتور سليم الحص عضو اللجنة المركزية في الجبهة الشعبية د.فايز رشيد اتياً من عمّان خصيصاً لتقديم الشكر والامتنان لدولته, ومثمناً للموقف العروبي القومي الاصيل الذي اعلنه الرئيس الحص بتضامنه مع الاسرى في سجون الاحتلال ,مضيفاً ان دولته ومن خلال مواقفه المشرفة, أعاد تصحيح اتجاه البوصلة نحو فلسطين, كما أعاد احياء الشعور بالانتماء القومي الحقيقي في الذهنية العربية ولدى الشعب الفلسطيني بشكل خاص. كما نقل د. رشيد تحيات الأسرى لدولته مشيدين بمواقفه, مؤكدين على الاحترام العالي لدولته من اللجنة القيادية للأسرى والقائدين مروان البرغوثي وأحمد سعدات ورفاقهم. ولقد شدد دولته على أن فلسطين ستظل القضية المركزية لأمتنا ومؤشرا لبوصلتها الصحيحة. من ناحية أخرى وفي إحدى المرّات أعلنت اتفاقي مع مقالته التي دقّ الجرس فيها عاليا إيذانا بالخطر, حين عبّرعن “امتعاضه الشديد من العرب” وعن استمرار حبه وتزايد “عشقه” للعروبة. ولعله ايضا, وبالقدر الذي كان يشير فيه الى مرارة الواقع بانكساره, وكل معطياته المحزنة والمؤلمة, فإنه يثير الشجن أيضا الى تلك المرحلة من التاريخ الحديث, حين كانت العروبة جامعا بين ابناء الامة الواحدة,وحين كانت الوحدة مطلبا جماهيريا عربيا من المحيط إلى الخليج.

على صعيد آخر, خصّني دولته بنشر موقفين اتخذهما ( وقد كان يستعين من أجل تذكيره بمدير مكتبه لأربعة عقود الأستاذ رفعت بدوي) :الأول, إنه وأثناء اجتماع دوري لوزراء الخارجية العرب عام 1991( وقد كان يشغل حينها منصب رئيس الحكومة ووزير خارجية لبنان) وصلته ورقة تخبره بغزو العراق للكويت! كتب الرئيس إثرها ورقة يدين فيها الغزو, وطلب من مدير مكتبه توزيعها رأسا على وسائل الإعلام, وبذلك كان أول مسؤول عربي يدين الغزو. الموقف الثاني, إنه وفي قمة بيروت عام 2002, التي اتخذت ما سميّ حينها بـ “مبادرة السلام العربية”, غضب الرئيس الحص حينها, ومثلما قال لي, قلتُ للرؤساء “أن الحقوق الفلسطينية كما القضية, لم يبدأ مع نكسة 67, بل كانتا منذ عام 1947!”, واستطرد محدثا..”كتبت إلى الرئيس بشار الأسد ,ألومه فيها على موافقته على مثل هذه المبادرة, فما كان منه إلا أن بعث إليّ برسالة بعد ساعات قليلة, يؤيد فيها موقفي, مضيفا, دع العرب يجربون!”. للعلم, داس شارون على المبادرة, وقال تصريحه الشهير”إنها لا تستأهل الحبر الذي كتبت به, ومصيرها إلى سلة المهملات”. شارون منع عرفات من حضور القمة, وأعاد اجتياح الضفة الغربية, وأعلن موت اتفاقيات أوسلو.

كان لابدّ من إنهاء اللقاء تقديرا لصحة دولته, ولسنه وما يستطيع احتماله فقمت مودّعا. سيبقى دولة الرئيس الحص منارة لكل المواقف الوطنية والقومية الأصيلة, ولا نملك إلا أن ندعو له بطول العمر وكل الصحة والعافية.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.