عقوبتا الذبح والحرق.. بين الإسلام القرآني وفقه التكفيريين وإسلام السلاطين (الجزء الثاني)

 

 

أ.د. محمد الحموري * ( الأردن ) الأربعاء 7/6/2017 م …

عقوبتا الذبح والحرق.. بين الإسلام القرآني وفقه التكفيريين وإسلام السلاطين (الجزء الثاني) …

* وزير العدل الأردني الأسبق …

شذوذ الفتوى بعقوبة الحرق:

أخذ تنظيم داعش ودولة الخلافة الإسلامية التي ينادي بها، بتوقيع عقوبة شاذة أخرى على الأسرى والخصوم، وهي عقوبة إشعال النار بهم وهم أحياء، ليموتوا حرقاً. وهذه العقوبة أوردها ابن تيمية كقصاص لمن يثبت أنه من الرافضة وأهل الشرك، بحجة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فعل ذلك، حيث أكد الشيخ هذا الأمر بالقول (ابن تيمية، الفتاوى، الجزء 28، ص 473 – 474): ‘وثبت عن علي بن أبي طالب أنه حرق غالبية الرافضة الذين اعتقدوا فيه الألوهية’.

والأصل في هذا الذي قاله ابن تيمية عن الحرق، هو ما جاء في صحيح البخاري، محمد بن اسماعيل البخاري أبو عبدالله (194ه/810م – 256ه/870م) تحت حديث رقم (3017)، بالصيغة التالية: ‘حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا سفيان، عن أيوب، عن عكرمة، أن علياً رضي الله عنه، حرق قوماً، فبلغ ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعذبوا بعذاب الله) ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)’.

والسؤال هنا هو: على فرض أن سيدنا علي قام بالحرق رغم الحديث الذي نطق به ابن عباس عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلماذا قام بذلك؟ ويزداد السؤال أهمية عندما نجد أن البخاري أورد حديثاً آخر في صحيحه تحت رقم (3016)، حيث جاء على النحو التالي: ‘حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن بكير، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعْثٍ فقال: (إن وجدتم فلاناً وفلاناً فاحرقوهما بالنار)، ثم قال رسول الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: (إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما)’.

وهنا نجد أن تحريم الرسول (ص) لحرق الإنسان في الحديثين السابقين، قد استقاه البخاري من مصدرين مختلفين تطابقا في أن (النار لا يعذب بها إلا الله)، ومن ثم فإن الإجابة على التساؤل الذي طرحناه يقتضي القول، أنه على فرض حدوث حرق، فإنه ما كان يمكن لعلي بن أبي طالب (ر) أن يخالف رسول الله في الحرق، لو كان يعلم بالتحريم. ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم لا يكونون معاً بصحبة الرسول طيلة يومه، ومن ثم، فإن ما قد يعلمه بعض من يلتقيه، قد لا يعلمه البعض الآخر، وهذا يفسر ما يعلمه ابن عباس دون معرفة علي به.

وأمام ما سبق، فإننا نكون أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما أن تكون رواية البخاري عن وقوع الحرق غير سليمة، وفي هذه الحالة فإن الحرق المنسوب إلى علي بن أبي طالب لم يحدث، وإما أن يكون الحديثان سليمان، فيكون الحرق محرماً بأمر رسولنا صلى الله عليه وسلم. وهذه المحصلة تعني أن عقوبة الحرق التي تطبقها داعش، لا سند لها في شرع المسلمين، شأن سلوكهم فيما يفعلون، شأن الخوارج الذين استباحوا الشرع الإسلامي.

لكن ابن تيمية، جرياً على تطرفه في الفتوى بقتل من يخالف اجتهاده ورأيه، تجاهل ما سبق. فقد كان أشهر ما ترك ابن تيمية، في فتاواه التي بلغت (37) مجلداً من تطرف، مدى إكثاره من اتهام سلوكيات الناس بالبدع والتكفير، والفتوى بقتلهم. ومع أن من طبيعة الفتاوى وما تتضمنه من إجابات، ان يدخل فيها طابع التلقائية والارتجال، ولها خصوصية تربطها بالمكان والزمان وظروف البيئة الإجتماعية والاقتصادية، إلا أن تلك الفتاوى أصبحت بعد أربعة قرون، على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1703 – 1792)، وصفات جاهزة عابرة للزمان والمكان والظروف، وواجبة التطبيق باعتبارها تدخل في باب العقيدة، وأساساً لفكرة التوحيد والاتهام بالشرك. ولولا أن آراء ابن تيمية أصبحت تشكل المنهج والمضمون والمرجعية للمذهب الوهابي، وانطلقت منها القاعدة وطالبان في أفغانستان وجماعات العنف والتطرف، لظلت منزوية في كتب التراث، كواحدة من العلامات التي تكشف عن حال مرحلة من تاريخ الأمة (مجموعة علماء، ابن تيمية، تقي الدين أحمد بن عبدالحليم، عطاؤه العلمي ومنهجه الإسلامي، المعهد العالي للفكر الإسلامي، عمان، 2007، ص 96 وما بعدها).

وكانت العديد من فتاوى ابن تيمية، تشكل مخالفة لما هو سائد من سلوكيات في الواقع الاجتماعي المستقر عند جمهور فقهاء المسلمين، من حيث مضمونها، وشدة العقوبة على مخالفتها، مثل اعتبار زيارة قبور الأنبياء والأولياء والصالحين والتبرك بها، بدعاً تدخل في باب الشرك، يتوجب محاربتها شرعاً، بما في ذلك زيارة قبر سيدنا محمد (ص) في المسجد النبوي في المدينة، وقبر سيدنا إبراهيم في الخليل (ابن تيمية، المجلد الأول، ص 153–169)، وأسهب في الحديث عن شرك التوسل، وطلب الشفاعة (ابن تيمية، المجلد 27 ص 20-21، 140–141)، وحرّم الصلاة في المساجد المقامة على القبور (ابن تيمية، المجلد الرابع، ص 521– 524). وبهذا يكون الرجل قد استند إلى شكلية السلوك الظاهر في هذا المجال، ليدخل على عقيدة المسلم المستقرة في القلب والضمير والوجدان، ويشكك بها، ويحكم بشرك صاحبها.

ويقطع ابن تيمية، بأنه لا قيام للدين إلا بوجود ولي أمر سلطان على المسلمين (ابن تيمية، المجلد 28؛ ص 39، 297؛ والمجلد 20 ص 55–57)، وأن السلطان ظل الله على الأرض (ابن تيمية، الفتاوى، المجلد 35 ص 45، 46؛ والمجلد 28 ص 390). وهذه الفتاوى أصبحت تشكل الأساس في المذهب الوهابي. ولعل من أخطر فتاوى الشيخ ابن تيمية، اجتهاده بأنه إذا جهر المصلي بالنية، كأن يقول بصوت يسمعه من حوله من المصلين، نويت أن أصلي ….، أو يجهر بتلاوة القرآن خلف الإمام أثناء الصلاة، فإن ذلك يخالف الشرع، حيث قال: ‘من ادعى أن ذلك دين الله وأنه واجب، فإنه يجب تعريفه بالشريعة، واستتابته من هذا القول، فإن أصر على ذلك قتل’ (ابن تيمية، الفتاوى، المجلد 22، ص 235 – 236). ومثل اعتباره النصارى واليهود مشركين (ابن تيمية، الفتاوى، الجزء 7، ص 462)، وأن ‘من لم يحرّم التدين – بعد بعثة صلى الله عليه وسلم – بدين اليهود والنصارى، بل من لم يكفرهم ويبغضهم، فليس بمسلم باتفاق المسلمين’ (ابن تيمية، الفتاوى، المجلد 27، ص 464)، وقوله ‘إن اليهود والنصارى كفار، كفراً معلوماً من الدين بالاضطرار’ (ابن تيمية، الفتاوى، المجلد 35، ص 201).

وبسبب التطرف في طروحاته، فقد حكم على ابن تيمية بالسجن أول مرة عام 705ه، وعمره 44 سنة، وبعد ذلك توالت الأحكام بسجنه، حيث سجن عام 707ه، وأعوام 718 – 719، وأعوام 726ه حتى وفاته عام 728ه. وهنا يثور التساؤل: هل فترة السجن جعلته يعتد أكثر بنفسه ومدى معرفته، ويذهب به الخيال بعيداً بين جدران السجن، ليشكل عالماً خاصاً به، ويغالي في طروحاته، انطلاقاً من اعتقادات استجدّت لديه لم تكن تدور في ذهنه من قبل؟ وسبب التساؤل هنا، أنه ورد في الصفحة (30) من المجلد (28) نص رسالة بعث بها الشيخ إلى أصحابه وهو في حبس الإسكندرية جاء فيها: ‘…….. وقد فتح الله من أبواب فضله ونعمته خزائن جوده ورحمته ما لم يكن بالبال ولا يدور في الخيال’.

واللافت في فتاوى ابن تيمية، مدى اعتداده بما يفتي به حتى قبل أن يبلغ سن الحلم، عندما أشار باعتزاز إلى فتاوى صدرت منه قبل بلوغ سن الحلم. فقد جاء على الصفحة (27) من المجلد الرابع قوله: ‘لكن المعلوم من حيث الجملة: أن الفلاسفة والمتكلمين من أعظم بني آدم حشواً وقولاً للباطل، وتكذيباً للحق في مسائلهم ودلائلهم لا يكاد – والله أعلم – تخلو لهم مسألة واحدة من ذلك. وأذكر أنني قلت مرة لبعض من كان ينتصر لهم من المشغولين بهم – وأنا إذ ذاك صغير قريب العهد من الاحتلام – كل ما يقوله هؤلاء فقه باطل، إما في الدلائل وإما في المسائل’!

وكان من السهل على ابن تيمية أن يقول عند إصدار فتواه لمن يتهمه بالبدع أو الكفر، ‘أنه خارجٌ من ملّة المسلمين ويتوجب استتابته، فإن لم يتب وجب تطليق زوجته ومصادرة ماله وقتله ومنع الصلاة عليه’. فعلى الصفحة (612) من المجلد (11) والصفحة (429) من المجلد الثالث، يقول الشيخ: ‘والرجل البالغ إذا كان بيته قريباً من المسجد ولم يحضر صلاة الجمعة، فإنه يستتاب وإلا قُتل’، وعلى الصفحة (469) من الجزء (11)، يقول الشيخ: ‘وقول أحدهم أثناء صلاته يا سيدي أحمد شيء لله، فهذا شرك بالله’ يوجب القتل، وعلى الصفحة (470) من نفس المرجع يقول: ‘وأمسكت سيف الأمير وقلت، هذا سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي نهج السيف)، فمن خرج على سنة الله ورسوله ضربناه بسيف الله’. وعبارة ‘فإنه يُستتاب وإلا قُتل’، أوردها في مسائل وسلوكيات للمسلم مئات المرات (انظر على سبيل المثال الصفحة (69) من المجلد (28)؛ وص (422) من المجلد (3)؛ وص (499 – 502) من المجلد (11)، وص (481) من المجلد (2)، وص (612) من المجلد (11)). أما ما هي سنة رسول الله التي يتوجب القتل بناء عليها، فهي ما توصل إليه ابن تيمية ومن سار على دربه، في حين أن من ينفذ ذلك، فهو الحاكم ولي الأمر ظل الله على الأرض الذي يأخذ بنهج ابن تيمية!!

وأمام ما سبق، فإنني أدعو كل عالم وباحث، إلى مواصلة كشف حقيقة الفكر التكفيري لأبناء الأمة، وفقاً لمنهج تأصيلي مبسط، ينطلق من الحقائق التاريخية والأسانيد الشرعية والعقلية، للوصول إلى عقول الكافة ووجدانهم، لتبصيرهم بحقيقة إسلامنا العظيم، وهذا هو النهج الأساسي لتجفيف منابع الإرهاب.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.