الاقتصاد السياسي للنقود …
د.جواد البشيتي ( الأردن ) الثلاثاء 13/6/2017 م …
الاقتصاد السياسي للنقود …
لوسألتَ مستثمِراً مسحوراً بالمال وبالأوراق المالية: “هل النقود (المال، أو الأموال) تَلِد؟ هل تَلِد مولوداً من جنسها؟ هل المال يَلِد مالاً؟” لأجابكَ على البديهة قائلاً: “نَعَم، النقود تَلِد”.
أرسطو، وبذهنه الوقَّاد، أدركَ “الحقيقة”، فقال إنَّ المال لا يَلِد مالاً؛ فالمال في حدِّ ذاته عاقِر؛ أمَّا ابن خلدون فتساءل قائلاً: ما الشيء (الخاصِّيَّة) المشترَك بين سلعتين مختلفتين، فإذا تساوتا فيه أمكن تبادلهما (بالمقايضة مثلاً)؟
هذا الشيء القابل لـ “القياس (الموضوعي)” إنَّما هو “العمل”، لجهة المقدار المُخَزَّن منه في السِّلعة.
إنَّ مِلْحاً (أيْ كمية منه) نبادله بسُكَّر (أيْ بكمية منه). وفي هذه المبادلة (أو المقايضة) تكمن “مساواة”؛ وهذه “المساواة” إنَّما تعني فحسب أنَّ العمل المبذول لإنتاج هذه الكمية من المِلْح يساوي، ويَعْدِل، العمل المبذول لإنتاج هذه الكمية من السُّكَّر؛ فالمبادَلَة إنَّما هي مبادلة سلعة بسلعة، تختلفان في الحاجة التي تلبِّيها كلتاهما، وتتماثلان (تتساويان) في العمل المبذول لإنتاج كلتيهما.
مع نشوء واتِّساع التبادل (تبادُل السِّلع) اشتدت الحاجة إلى “النقود”؛ فظهرت “النقود السِّلعية” أوَّلاً؛ ثمَّ “النقود المعدنية (الذَّهبية والفضِّية في المقام الأوَّل)”؛ ثمَّ “النقود الورقية”؛ ولن نَفْهَم “النقود”، لجهة ماهيتها وأهميتها ووظائفها، إلاَّ إذا تأمَّلْنا ظاهرة “مبادلة سلعة بسلعة (مِلْح بسُكَّر مثلاً)”.
لقد بادَلْتُ مقداراً من المِلْح بمقدارٍ من السُّكَّر؛ وهذا إنَّما يعني، أوَّلاً، أنَّني أخَذْتُ مقداراً من المِلْح (الذي لدى زيد مثلاً) بدلاً من مقدار السُّكَّر الذي أعطيته.
إنَّها مبادَلة مِلْح بسُكَّر؛ ولن تكون مبادَلة إذا ما كانت مبادَلة مِلْح بمِلْح، أو سُكَّر بسُكَّر.
ولن تكون مبادلة إلاَّ إذا كانت مبادلة مقدار من المِلْح بمقدار من السُّكَّر، وكان العمل المبذول لإنتاج أحد طرفيِّ المبادَلة (المِلْح) مساوياً للعمل المبذول لإنتاج الآخر (السُّكَّر). والمبادَلة على هذا النحو تسمَّى “مقايضة”.
ومع تقسيم، واتِّساع تقسيم، العمل، وتنوُّع المنتجات، اشتدت الحاجة إلى سلعة ما، لتؤدِّي وظيفة “النقد”، أو إحدى وظائفه (واسطة لتبادل السِّلَع). وقد تواضَع وتوافَق الباعة والشراة على سلعة ما (أو على بعض السِّلَع) قبل ظهور “النَّقْد الذَّهبي” لتؤدِّي وظائف “النقد”، أو وظيفتا “مقياس القيمة” و”واسطة التبادل”.
وللسبب نفسه، اشتدت الحاجة إلى “المعادِل العام”؛ وكان “الذَّهب”، أو “سلعة الذَّهب”؛ فمعدن الذَّهب تَواضَع على اتِّخاذه “نقداً” كل الناس؛ كل الباعة والشُّراة؛ فهو الذي بقليلٍ منه نحصل على سِلَعٍ قيمها التبادلية كبيرة؛ وهو الذي لا يتلف، وقابل للتجزئة، ويحتاج الناس دائماً إلى اقتنائه واستعماله؛ وهو الذي، بصفة كونه “سلعة”، يظل محتفظاً بقيمته التبادلية نفسها زمناً طويلاً.
“النَّقْد الذَّهبي” هو الدرجة العلياً من “النقود السلعية”؛ ولقد غدا “مقياس قِيَم السلع جميعاً”، و”واسطة تبادلها (سلعة ـ نقد ذهبي ـ سلعة)”، و”وسيلة للإدِّخار”؛ فلا ملاذ آمناً لثروات الناس المادية، وفي أوقات الضيق والشدة على وجه الخصوص، إلاَّ المعدن الأصفر.
الآن، أصبح في مقدوري أنْ أعطي زيد المقدار الذي يحتاج إليه من السُّكَّر الذي أَمْلك، لأحْصَل منه، عوضاً عنه، على مقدار من الذَّهب (النقد الذَّهبي) الذي يَمْلك. وهذا الذَّهب يمكنني الاحتفاظ به إلى أنْ أشتري به سلعة ما، في المستقبل؛ فـ “النَّقْد الذَّهبي” هو الذي أتى بالانفصال بين “البيع” و”الشِّراء”، وبالوسيلة الفضلى للإدِّخار.
وكان يكفي تجميع مُدَّخرات الناس (من النقود الذَّهبية) في مكان واحد (أيْ المصرف) حتى يزداد ويتَّسِع “الاستثمار”؛ فـ “المُسْتَثْمِر” الذي اقْتَرَض نقوداً ذهبية من المصرف يَسْتَثْمِر هذا القرض في الصناعة، مُنْتِجاً سلعةً ما؛ و”النتيجة النهائية” هي “ربح ثلاثي”، ربح للمستَثْمِر، أيْ المُقْتَرِض، وربح للوسيط، أيْ المصرف، وربح للمدَّخِر؛ فلا استثمار بلا ادِّخار؛ ولا ادِّخار قبل ظهور النقود الذَّهبية.
ومع مرور الوقت، واتِّساع تبادُل السِّلع أكثر، تحوَّل “النقد الذَّهبي” من شكله السِّلعي (أيْ من شكل سلعة الذَّهب) إلى الشَّكل الورقي، فظهرت “النقود الورقية”، التي تَرْمُز فحسب إلى “النقد السِّلعي الذَّهبي”؛ فـ “الورقة النقدية” لا قيمة لها في حدِّ ذاتها.
لقد كنتُ أدَّخِر نقوداً ذهبية في المصرف، ولمَّا جئتُ لأسْحَب بعضها (من أجل شراء سلع) قال لي صاحب المصرف: خُذْ هذه “الأوراق” بدلاً منها، وأقضِ بها حاجتك (أيْ اشْترِ السِّلع التي تريد) فإنَّ جمهوراً واسعاً من الباعة والتُّجار والمستثمرين.. “يَثِقُ” بالمصرف، ويَقْبَل، من ثمَّ، التعامُل بهذه “الأوراق” التي تنوب عن “النقود الذَّهبية” في البيع والشراء.
وبعد نجاح هذه التجربة الجديدة، وتعميمها، أصبح مصرفاً واحداً فحسب، هو المصرف المركزي”، أيْ مصرف الدولة، هو الذي يملك سلطة إصدار هذه “الأوراق (النقود الورقية)”. وهكذا أضافت “الدولة” إلى سلطانها السياسي سلطاناً مالياً؛ فهي الآن تَطْبَع وتُصْدِر “النقود الورقية”.
دَعُوني الآن أعود إلى زيد، الذي كنتُ، في المقايضة، أعطيه مقداراً من السُّكَّر (الذي أملك) فيعطيني بدلاً منه مقداراً من الملح (الذي يملك).
الآن، أعطيته مقداراً من السُّكَّر، فأعطاني بدلاً منه “مقداراً من الأروراق (عديمة القيمة)”، تسمَّى “نقوداً ورقية”؛ وإنَّ أهمية هذه “النقود الورقية” تكمن، فحسب، في كَوْن مواطني بلدي جميعاً يَثِقون بمُصْدِرها، وهو الدولة ومصرفها المركزي، ويَقْبَلونها واسطة في مبادلاتهم التجارية (في البيع والشِّراء).
صلتي الجديدة بزيدٍ إنَّما هي صلة “دائنٍ”، هو أنا، بـ “مدين”، هو زيد؛ لا بَلْ هو كلُّ بائع لسلعة ما، أو لخدمة ما، في بلدي.
هي صلة دائن بمدين؛ لأنَّني أعطيته سلعة أملكها، ولم يُعْطِني بدلاً منها سلعة؛ فكل ما أعطاني إيَّاه إنَّما هو رزمة من أوراق، تشبه صَكَّ دَيْن.
لقد بعته سلعة لم أنتجها لاستهلكها؛ وإنَّما لأبيعها وأتَّجِر بها؛ وهذا البيع لم يَقْتَرِن بشراءٍ؛ فأنا حصلتُ (من طريق هذا البيع) على “أوراق” فحسب؛ لكنَّها “أوراق” تعني، وتؤكِّد، أنَّ لي الحق (المكفول قانونياً) في أنْ أشتري بها ما أشاء، ووقتما أشاء، وأينما أشاء (في داخل أسواق بلدي).
قد أحتفظ بهذه “الأوراق” في يدي، زمناً يطول، أو يقصر؛ وقد أشتري بها (لغرض الاستهلاك) سلعة ما، أو خدمة ما، من بائع ما، في بلدي؛ وقد أشتري بها، وبغيرها، “سلعاً إنتاجية (آلات ومواد..)” لأعيد إنتاج مادة، أو سلعة، السُّكَّر، التي أتَّجِر بها؛ وقد أضعها (أيْ أستثمرها) في مصرف ما، فيُقْرِضها صاحب المصرف (أيْ صاحب الرأسمال المصرفي) لمستثمر ما، فيحصل هذا “المُقْتَرِض ـ المستثمِر”، في آخر المطاف، على مبلغ (إضافي) من المال، يأخذ جزءاً منه على شكل “ربح صناعي”، ويعطي البنك الجزء الآخر؛ أمَّا صاحب البنك فيتقاسم هذا الجزء معي بصفة كوني “المودِع”؛ فهو حصل على “ربحه المصرفي”، وأنا حصلتُ على “الفائدة”.
كل ورقة نقدية تملك إنَّما تعني أنَّكَ “دائن”، وأنَّ أيَّ بائع (لسلعة أو خدمة) في بلدك مدين لك؛ وتعني أنَّ لكَ حقَّاً (مكفولاً قانونياً) في أنْ تشتري بها ما تريد من السلع والخدمات؛ لكن ليس لكَ الحق في أنْ تَذْهَب إلى مُصْدِر هذه الورقة، وهو الدولة ومصرفها المركزي، لتقول له: خُذْ ورقتكَ، وأعِدْ لي ما تُمثِّله (وتَرْمُز إليه) من “نقد ذهبي (سلعي)”. سيُجيبكَ قائلاً: هذا ليس حقك، وهذا ليس واجبي؛ فاذهبْ إلى السوق واشترِ منها ذهباً إذا ما أردت.
كان لك حقٌّ في ذلك عندما كانت المبادلات التجارية الدولية بواسطة الذَّهب؛ فالدولة (ومصرفها المركزي، وغيره) تعطيكَ ذَهَباً (بدلاً من نقودك الورقية) لتشتري به سلعاً من دولة أخرى؛ والآن، لا تعطيكَ ذهباً؛ وإنَّما “الورقة الخضراء (الدولار)”، أو غيرها من “القطع النادر (العملات الصعبة)”. وأنتَ يكفي أنْ تملك دولاراً واحداً حتى تصبح دائناً، ويصبح كل بائع في العالم (والولايات المتحدة على وجه الخصوص) مديناً لكَ.
كل “ورقة نقدية” أمْلك إنَّما هي دَيْنٌ، أنا فيه “الدائن”، وكل بائع في بلدي هو “المدين”؛ وكأنَّ هذه “الورقة (التي أمْلُك)” تُخْبرني أنَّني قد تخلَّيْتُ لغيري (مِنْ قَبْل) عن سلع كنتُ أمْلكها، ولم أحصل حتى الآن على ما يَعْدلها قيمةً من سِلَع أخرى.
وإنَّني سأظلُّ “دائناً” ما ظَلَلْتُ محتفظاً بـ “الأوراق النقدية”؛ ولن تزول صفة “الدائن” عنِّي إلاَّ عندما أشتري سلعاً بهذه “الأوراق”.
ظهور “الأوراق النقدية” أسَّس لاقتصاد موازٍ للاقتصاد الحقيقي (الذي تُنْتَج فيه السلع، والثروة الحقيقية للأمم). وهذا الاقتصاد الموازي لا يُضيف سنتاً واحداً للثروة الحقيقية للمجتمع، ولا يُفْقِدها سنتاً واحداً.
وكان “سعر صرف” العملة هو الشكل الأوَّل لـ “اللعبة المالية”؛ فقيمة العملة النسبية (نسبةً إلى الدولار مثلاً) تَعْظُم بتضاؤل الطَّلب على الدولار في السوق القومية، وتتضاءل بتعاظمه.
ثمَّ اسْتُحْدِثت لـ “اللعبة” أوراق أخرى كالسهم (والسند). وقد انفصل حَمَلَة الأسهم عن الاقتصاد الحقيقي بنشاطهم، وأسَّسوا لهم، ولنشاطهم هذا، أسواقاً خاصَّة بهم، وبه، يبيعون فيها، ويشترون، الأسهم، التي يتحكَّم قانون “العرض والطَّلب” في أسعارها. وفي هذا النوع من الاستثمار تتعادَل أرباح الرابحين وخسائر الخاسرين، فتتصَفَّر النتيجة الاستثمارية النهائية.
إنَّهم كلاعِبَيْن اثنين من “الدائنين”، يلعبان بصكوك الدَّيْن، وهي الأسهم، فلا يربح أحدهما إلاَّ ليخسر الآخر، في الوقت نفسه؛ ورِبْح أحدهما يَعْدِل خسارة الآخر؛ أمَّا الاثنان معاً فلا يربحان، ولا يخسران.
ولتبيان وتوضيح الفَرْق النوعي بين الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي والاستثمار في سوق الأوراق المالية، أو البورصات، أقول: افْتَرِضْ أنَّك تملك مليون دولار، فاستثمرتَ هذا المبلغ المالي في الصناعة، أو في سوق الأوراق الأوراق المالية (في تجارة الأسهم مثلاً).
لقد عاد عليكَ هذا الاستثمار، أو ذاك، في آخر المطاف، بمبلغ مالي آخر، 200 ألف دولار مثلاً، على شكل ربح.
إذا استثمرتَ في الصناعة، فإنَّ هذا المبلغ المالي الإضافي هو إضافة إلى الثروة الحقيقية للمجتمع؛ أمَّا إذا استثمرتَ في تجارة الأسهم، فإنَّه لا يضيف سِنْتاً واحداً إلى هذه الثروة؛ فربحكَ يَعْدِل خسارة تكبدَّها، في الوقت نفسه، مستثمر آخر في سوق الأسهم.
ثروة المجتمع (المادية، والحقيقية) إنَّما تأتي، وتنمو، فحسب، من طريق إنتاج (صناعة) أشياء، يستهلكها، أو يمكن أنْ يستهلكها، الفرد، أو الجماعة، تلبيةً لحاجة ما، كالحاجة إلى حذاء، أو إلى حافلة؛ أو لإنتاج شيء آخر، كالآلة، يُسْتَعْمَل (أو يُسْتَهْلَك إنتاجياً) في إنتاج الحذاء أو الحافلة..
من طريق الاتِّجار بالسلع (أيْ من طريق بيعها وشرائها) يَحْصَل مالك السلعة (ومن حيث المبدأ) على نقود تُمثِّل قيمتها، وتَرْمُز إليها؛ ومن هذه الطريق “تتحقَّق” قِيَم السلع.
أمَّا من طريق الاتِّجار بـ “الرموز”، أيْ النقود الورقية، وسائر أنواع الأوراق المالية، فلا نضيف شيئاً إلى ثروة المجتمع الحقيقية، ولا ننتقص منها شيئاً؛ مع أنَّ هذا النوع من النشاط الاستثماري يشتمل على أرباح وخسائر، وعلى رابحين وخاسرين.
التعليقات مغلقة.