40 % من البريطانيين انحازوا إلى برنامج يساري راديكالي

 

 

عمر الديب ( لبنان ) الثلاثاء 20/6/2017 م …

40 % من البريطانيين انحازوا إلى برنامج يساري راديكالي …

خرج حزب العمال من كنف السياسات النيوليبرالية التي طغت عليه خلال العقود الماضية، وتحديداً مع صعود نجم “طوني بلير” وإحكامه السيطرة على كافة مرافق الحزب. إلّا أنّ وصول “جيريمي كوربين” صاحب البرنامج الاشتراكي والذي صنّفه الإعلام بأنه “ماركسي”، إلى قيادة الحزب عام 2015 أحدث انعطافة جدّيّة في مسار حزب العمال حيث تبنّى برنامجاً يساريّاً راديكاليّاً خاض على أساسه الانتخابات البرلمانية الأخيرة في حزيران الجاري وحاز الحزب وفق هذا البرنامج ثقة 40 % من المقترعين مما أفقد حزب المحافظين الغالبية المطلقة في البرلمان البريطاني.

خريطة البرلمان البريطاني إثر هذه الانتخابات أفرزت “برلماناً معلّقاً” دون أن يتمكّن أي حزب من كسب نصف المقاعد البالغة 650 مقعداً بمفرده حيث نال المحافظون 318 مقعداً بتراجع 13 مقعد عن البرلمان السابق، فيما نال حزب العمال 261 مقعداً متقدّماً ب 30 مقعد. أما الأحزاب الأخرى في المجلس فهي بمعظمها معارضة للمحافظين وتنادي بخروجهم من السلطة مثل الحزب الوطني الأسكتلندي وحزب الخضر والحزب الليبرالي الديمقراطي وغيرهم. عليه، لم تجد “تيريزا ماي” رئيسة الوزراء السابقة وزعيمة المحافظين سوى حزباً شوفينيّاً مذهبياً (بروتستانتيّ) من إيرلندا الشمالية لديه عشر مقاعد في البرلمان لتتحالف معه في تشكيل الحكومة حتى لا تخرج نهائيّاً من الحكم. وعلى الرغم من ذلك، سوف يشكّل لها هذا الحزب أزمةً داخليّة لناحية معارضته الخروج السريع من الاتحاد الأوروبي ومطالبه المبالغ فيها لتمويل منطقته وصورته السيّئة في أذهان الناس ممّا سيزيد من خسارة “ماي” للثقة ويعرّض حكومتها لهزّات متوقّعة وربما إلى انتخابات مبكّرة تقلب الموازين.

مسيرة كوربين لم تكن سهلةً على الإطلاق وصولاً للانتخابات. اليمين أشهر كل أسلحته، حيث انبرت وسائل الإعلام التابعة لليمين ومنها وسائل إعلام الملياردير “روبرت موردوخ” لتشويه صورة كوربين تارةً عبر استحضار صور قديمة لاجتماعات مع “الجيش الجمهوري الإيرلندي” إبّان الحرب الأهلية في إيرلندا واتّهامه بأنه كان داعماً للمسلحين المنشقّين ضد الجيش البريطاني، وطوراً بتوجيه تهم “معاداة السامية” بسبب مواقفه الداعمة للقضية الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني حيث عارض كل الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني وطالب حكومة بلاده بالانحياز إليه خلال العدوان الأخير على غزّة. كذلك، حاولوا التصويب عليه بأنّه سيكون كارثة في السياسة الأمنيّة لأنّه معارض للحروب بشكل عام حيث صوت ضد التدخل في العراق وليبيا وكل الحروب التي شاركت فيها بريطانيا خلال عضويته في البرلمان على مدى الثلاثين سنة الماضية، وهو الذي قاد تظاهرات شعبيّة ضد هذه الحروب واشتهر بخطاباته المنددّة، وبأنّه صوّت ضد وجهة حزب العمّال الرسميّة 600 مرة خاصة بما يتعلق بالحرب والقضايا الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وعرف أنّه متمرّد. كما حاولوا وصف برنامجه بالشيوعي والماركسي والذي سيخرّب النموذج الاقتصادي البريطاني مع ما يعنيه من انهيار الاقتصاد والجنيه تحت وطأة الضرائب التي سيفرضها على الدخل المرتفع. وفي هذا السياق قالت رئيسة الحكومة “ماي” أن برنامج “كوربين” سيعيد بريطانيا إلى السبعينيات، وأنه برنامج غير عصريّ ومتخلّف ويعيد سطوة الحركة النقابيّة على السياسة البريطانية كما كان واقع الحال قبل أن تدمّر “تاتشر” تلك النقابات في الثمانينيات. أمّا من جهة “اليسار” (المزيّف النيوليبرالي) داخل حزب العمال، فالأمور كانت ملأى بالتآمر والكيدية ومحاولات الانقلاب. جناح طوني بلير والتيار السياسي الوسطي الذي تنازل عن كل مفاهيم الصراع الطبقي وحقوق العمال وضع كلّ ثقله لإزاحة “كوربين”. غير أنّ ما أنقذه هو حجم التأييد الشبابي والعمّالي له داخل الحزب، إذ انتسب إلى الحزب الذي كان يبلغ تعداده 300 ألف قبل كوربين، 150 ألف عضو جديد بين عام 2015 و2016 وهؤلاء أتوا دعماً لبرنامجه الجذري. ومع ولوج هذه الأعداد إلى داخل التنظيم أصبح لكوربين قاعدة عماليّة وشبابيّة ضخمة مؤيدة له تمكّنت من حمايته من الانقلاب الداخلي. في العام الماضي، تآمر نواب الحزب الذين يميلون بمعظمهم إلى التيار الليبرالي على زعيم الحزب ووقعوا عريضة واسعة لإقالته، فما كان منه إلّا أن لجأ إلى انتخابات داخلية مبكّرة نال فيها ثلثي الأصوات ليكرّس نفسه زعيماً قويّاً دون منازع بفضل الحركة النقابية والعمالية داخل الحزب وبفضل المنتسبين الشباب الجدد. وإثر هذه الانتصار تفرّغ “كوربين” لصياغة برنامج الحزب الانتخابي على أسس طبقيّة واضحة تمهيداً للانتخابات النيابية. أما الجناح الأقلويّ فكان يراهن أن الحزب سيخسر بشكل قاسٍ في الانتخابات المبكّرة مما سيفرض على كوربين الاستقالة، وسيتيح عودتهم من جديد إلى دفّة القيادة. هكذا كانت الرهانات: كوربين يستند إلى قاعدة عمالية وشبابية أما تيّار بلير فيراهن على انتكاسة انتخابيّة للحزب للعودة إلى قيادته أو لشق مجموعة كبيرة منه باتجاه حزب وسطي جديد على طريقة “ماكرون” في فرنسا. حقق الحزب نتيجة ممتازة فسقطت الرهانات، وتزعزت حكومة المحافظين وانتهى تيار بلير داخل حزب العمّال، وانتسب إلى الحزب 150 ألف عضو جديد خلال 3 أيام بعد الانتخابات ليصبح أكبر حزب سياسي أوروبي، ولتبدأ مرحلة جديدة في الحياة السياسية البريطانيّة.

“جيريمي كوربين” تحوّل إلى ظاهرة في السياسة البريطانيّة خلال السنتين الأخيرتين والتي أثبتت أن المزاج الشعبي العام جاهز لإعطاء ثقته إلى برنامج اليسار الجدّي والراديكاليّ رغم كل التشويش والضغط الإعلاميّ، ورغم تضافر جميع العوامل المعاكسة. كان أبرز ما قام به هو صياغة “مانيفستو العمّال” الذي قدّمه كبرنامج انتخابي جذريّ تبنّى فيه مواقف اجتماعية

وسياسيّة لم يجرؤ عليها حزب العمال البريطاني منذ تأسيسه، إذ طرح البرنامج العناوين الأساسيّة التالية:

– وقف كلّ برامج التقشّف، وإعادة الاعتبار للإنفاق العام، وتفعيل القطاع العام وتوظيف ما يحتاج إليه سواء في الإدارة العامة أو في الشرطة.

– تأميم قطاع النقل، وتحديداً المترو والقطارات لتخفيض كلفتها وتنظيمها بحيث تصبح متاحة وسهلة ورخيصة لكل المواطنين.

– تمويل التغطية الصحية العامة من ميزانية الدولة وتوظيف المزيد من الأطباء فيها، ووقف الرسوم المستترة التي تفرضها المستشفيات مثل رسوم وقوف السيّارات داخل مرائبها حتى للحالات الطارئة.

– مجانيّة التعليم أسوةً ببقية الدول الأوروبية بعد أن رفعها بلير والمحافظين إلى مستويات ليست في متناول فئات واسعة من الشعب، وهذا مطلب شعبيّ جداً بين فئة الشباب الجامعي.

– رفض الحروب الخارجيّة وسحب القوات البريطانيّة من كافة ساحات القتال الموجودة فيها حالياً.

– اقترح التوسّع في بناء مساكن شعبيّة جديدة لخفض كلف السكن.

– مكافحة العنصريّة ضد الأجانب والمسلمين والملوّنين، والإبقاء على مستويات مرتفعة من الهجرة لرفد المجتمع بحاجاته البشريّة دون تمييز عنصري.

– العمل على خروج هادئ ومنظّم لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي والحفاظ على علاقات سياسيّة وتجاريّة قويّة مع دوله.

– رفع الضرائب على الشريحة التي يزيد مدخولها عن 100 ألف دولار سنوياً لتمويل السياسات الاجتماعية والتنمويّة.

هذا البرنامج الذي وصفه الخصوم بأنه اشتراكي، أتاح لكوربين نيل ثقّة 40% من المقترعين رغم كل ما تعرّض له من تشويش إعلامي، حيث أن معظم الإعلام مملوك للأقطاب الرأسماليين الكبار الذين يتخوفون منه. وخلال الحملة الانتخابية، اعتمد على مقاربة قائمة على التواصل الشعبي المباشر حيث تنوّعت طرائق الحملة بين المهرجانات الشعبيّة في الأحياء والقرى، وسياسة دق الأبواب لتوزيع برنامج الحزب وصولاً إلى استثمار وسائل التواصل الاجتماعي للنفاذ منها إلى الناس حيث وصل عدد متابعيه إلى حوالي 4 ملايين على هذه المنصّات. تلك السياسات والمقاربات ذات الطبيعة الجذريّة والشعبويّة في آن أمنت نجاحاً منقطع النظير تخطّى توقعات أكثر المتفائلين، وكرّس “كوربين” ليس كزعيم عمّالي قويّ فحسب، بل كبديل محتمل لقيادة البلاد في أي لحظة من الآن حتى الانتخابات النيابيّة المقبلة.

إن هذه الظواهر اليساريّة التي تتقارب في طروحاتها مع الأحزاب الشيوعية في دول الغرب، من ميلانشون إلى برني ساندرز وصولاً إلى كوربين تثبت أن هذه الشعوب لا زالت ترى في اليسار الحقيقي ممثلاً فعليّاً لها، وأنّ ظروف التغيير سانحة إن أحسنت الأحزاب مقاربتها والتقطت النبض الشعبي وقدّمت له برنامجاً سياسيّاً ملائماً. ولعلّ يساريّة “كوربين” في هذا المجال يمكن اختصارها بما قاله لنا أمين عام الحزب الشيوعي البريطاني قبل أشهر في اجتماع ثنائي مع الحزب الشيوعي اللبناني بأنّ “كوربين” هو أكثر زعيم يساري لحزب العمال في تاريخ الحزب، وبأنه كان أحد الكتّاب الدوريّين في جريدة الحزب الشيوعي لسنوات طويلة، وأن الحزب، بإمكانيّاته المتواضعة، قرر دعمه في الانتخابات البرلمانيّة.

إنّ أهميّة هذه المعركة تكمن في أن تتحوّل الكتلة الناخبة إلى كتلة شعبيّة مسيّسة وازنة تعي مصالحها في الصراع الطبقي الحاد في مجتمعاتها، وتناهض الحروب الخارجيّة والاعتداءات على الدول الأخرى التي تقوم بها حكوماتها.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.