مفهوم السياسة والحقوق الوطنية
د. فايز رشيد ( الخميس ) 22/6/2017 م …
مفهوم السياسة والحقوق الوطنية …
إن إحدى الحلقات المركزية في دور المنطق السياسي هي نقد الثقافة السياسية السلبية, التي تحاول التسيد كظاهرة ذات تأثير سياسي عميق رغم لا منطقيتها, بغية تخليصها من الانحرافات التي تمنعها من تحقيق قيمها السلبية على أرض الواقع.. كذلك فإن دور السياسة يكمن في تطوير العوامل الإيجابية في الثقافة السياسية, من أجل العمل على امتدادها أفقيا في المجتمع, ومنهجتها في مؤسسات…
لو أن رائد المنطق أرسطو عاش في مرحلتنا الراهنة, لأثار استغرابه في زمننا, لا منطقية السياسات العربية, فلا يصعب على المراقب راهنا, الحضور المكثف للسياسات الرائجة تحت مسمى “الواقعية السياسية”, والذي يمكن أن تندرج تحته الأخطاء والخطايا. قال وينستون تشرشل في زمن مضى: “ليس في السياسة عدو دائم, ولا صديق دائم, بل مصالح دائمة”. وأيضا قال: “حين تصمت النسور تبدأ الببغاوات بالثرثرة”. وفي إحدى المرات استشرف المستقبل الآتي, وتوقع أن تكون امبراطوريات المستقبل, تحت سلطة العقول فقط. بالتأكيد لو عاش في زمننا (وبرغم أن دولته, هي التي هيأت أرضية إقامة الكيان الصهيوني عنوةً, على حساب اقتلاع شعب أصيل من أرضه), ورأى بأُم عينيه السياسات الدولية الحالية, كما مذابح وجرائم الكيان (وبخاصة أنه عاصر جزءًا منها, في المذابح التي ارتكبتها العصابات الإرهابية الصهيونية بمساعدة القوات البريطانية ضد شعبنا وأمتنا), لأخضع مقولاته الآنفة الذكر إلى التغيير! فكل الإمبراطوريات التي جاءت من بعده, وصولا إلى القوة العظمى الحالية, هي أبعد ما تكون عن سلطة العقول, بل هي أقرب إلى سلطة البلطجة, أقرب منها إلى أية سلطة إنسانية أخرى!
وبالعودة إلى تعبير “الواقعية السياسية”, ونظرا لترداده كثيرا على المسامع, أصبح متماهيا كحصيلة معرفية ابستمولوجية مع القبول السيكولوجي له, قبل الشروع في تطبيقه واقعا تجاه حدث سياسي أو ظاهرة سياسية ما, أيا كانت طبيعة القرار السياسي المتخذ, أو في أي مصلحة يصب, حيث أصبح التعبير أمرا واقعا مقبولا كمفهوم ومسلك أيضا. لقد أصبحنا نعيش كلمة نرددها من دون تمحيص في أبعادها, بل نستعملها بشكل روتيني, فمثلا “شريعة الغاب” هي السائدة راهنا, بكل ما يعنيه ذلك تعبيريا من اختصار لجهود مضنية, أصبحت تتبلور في البحث عن “الحلول الأسهل” في مواجهة التحديات! وإن تنافت مع القيم الأخلاقية المجردة والأخرى المطلقة, فليس صحيحا أن الأخيرة تتنافى مع الثقافة السياسية, مثلما يقولون! بحيث أصبحت تعبيرا عن مصالح الفئات الاقتصادية ـ الاجتماعية, التي لها الغلبة في المجتمعات, بعيدا عن قيم العدالة, المساواة, الإخاء والتعاون, في شوط يزداد ابتعادا عن القيم الجمعية التي تهدف إلى بناء الذات الإنسانية, المنسجمة مع مواجهة تحديات العصر على كافة الأصعدة, وفي ابتعاد واضح أيضا عن المطلق “كمثل” معرفي أعلى, يحدد في المجال الأبرز, وهو التماهي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم, بالتالي بتنا نشهد انفصاما تاما في العديد من الدول, بين الطرفين بشكليه النسبي والمطلق.
هذا “المطلق” هو في حقيقته بمثابة دساتير/قوانين مفترضة في الشرائع الاجتماعية والقانونية المُعاشة. كل الذي سبق يعني اندثار المحاولة الجادة, لصالح سياسة “الواقعية السياسية”, وبأن “السـياسة هي فن الممكن”, من خلال “المسك من اليد الموجعة” بما قد يؤدي بالحتم إلى عملية الانحدار المتدرج هبوطا, وصولا إلى السقوط السياسي, بكل تداعياته, اجتماعيا, معرفيا, اقتصاديا, عسكريا وثقافيا.
بتنا في زمن يسعى الحاكمون فيه إلى جمع أكبر عدد من المؤيدين المتعاطفين معهم, بالطبع! أصبح المتعاطفون محكومين بحالة شعورية مزاجية مصلحية بالدرجة الأولى, بعيدا عن القناعات الفكرية بصحة الخطوات السياسية المُنتهجة. وإن وجدت المعتقدات الفكرية لتأييد الخطوات السياسية الجديدة, فإنما تنبع من مفاهيم القبيلة, العشيرة, المذهب, الطائفة والدين, على قاعدة “أنصر أخاك ظالما أو مظلوما” ولكن على قاعدة, هي الأخذ بنصرة الأخ الظالم وتهيئة استمراريته في ممارسة الظلم, من دون إيضاح جوهر ظلمه, وحتى محاولة ردعه عنه. حتى اللحظة, فإن تعريفا محددا للمنطق السياسي, لم تجر صياغته, انطلاقا من الزوايا العديدة التي يتم النظر من خلالها إليه, وانطلاقا من رؤية دوره: إن بالمشاركة في عملية التغيير السياسي, أو في سياسة التغيير المجتمعي. فلطالما تحدث الفلاسفة والمفكرون عن تعريفات وأدوار شتى لمن يحمل لواء التغيير السياسي نحو الأفضل. ولعل من أقرب التعريفات إلى الواقع, ما ذكره غرامشي في تعريفه أيضا لمعنى “المثقف السياسي”, منطلقا مما هو خاص بنمط الإنتاج في الوجود الاجتماعي… وإذ ذاك فإن عملية التغيير تنتقل من عالم الأفكار واهتمامات ذوي الاختصاص, إلى عالم الصراع الاجتماعي, فهو الذي يعيد صياغة المنطق السياسي, الذي يجعل من الممارسة لحظة داخلية في مجمل عملية التغيير, وهكذا دواليك.
إن إحدى الحلقات المركزية في دور المنطق السياسي هي نقد الثقافة السياسية السلبية, التي تحاول التسيد كظاهرة ذات تأثير سياسي عميق رغم لا منطقيتها, بغية تخليصها من الانحرافات التي تمنعها من تحقيق قيمها السلبية على أرض الواقع.. كذلك فإن دور السياسة يكمن في تطوير العوامل الإيجابية في الثقافة السياسية, من أجل العمل على امتدادها أفقيا في المجتمع, ومنهجتها في مؤسسات, على طريق تحويلها إلى ممارسة عملية واقعية معاشة. ولو فصّلنا ما سبق على أرض الواقع نرى انتشارا متسارعا للسياسات اللامنطقية، في محاولة تحويل وتحوير اتجاه المعركة السياسية الرئيس, إلى اتجاه نقيض تحت دعاوى كثيرة: اللاجدوى، التعامل مع الواقع.. مقولات مثل: اللاجدوى من المقاومة, عبثية المقاومة وغيرها من المقولات, التي كانت قد أخذت تنتشر منذ سنوات, وقد حدّ من اندفاعة انتشارها في قطاعات عريضة في الواقع العربي, تجارب صمود المقاومات الفلسطينية والعربية, في وجه الاعتداءات الصهيونية والغربية على أكثر من بلد عربي في العقود الأخيرة, كذلك ما تحققه كل من المقاومات من إنجازات مهمة على أرض الواقع رغم رداءة الوضع السياسي!
الحقوق الوطنية لشعبنا الفلسطيني كلّ واحد لا يتجزأ, والموقف منها لا يحتمل لونا رماديا على وجه الإطلاق, فإما حقوق أو لا حقوق! فهي إما أبيض أو أسود. كذلك الموقف من الوجود الصهيوني في منطقتنا العربية, لا يحتمل التأويل, ولا مجال هنا لانطباق التعريفات السياسية السابقة عليه, ولا مجال لدعوة البعض إلى أهمية تبني العقلانية السياسية, ولا الواقعية ولا الممكن السياسي. هكذا كانت المواقف الجذرية الصحيحة من دول العالم تجاه الفاشية والنازية, لا حلول وسط معهما. الصهيونية أكثر خطرا منهما مجتمعتين، إضافة إلى كل التيارات المتوحشة التدميرية في الحقيبة التاريخية الماضية, لذلك لا تعايش معها إلا باجتثاثها كظاهرة عفنة من الوجود الإنساني. ما يؤكد صحة ما ذهبنا إليه, أن كل المصالحات التي قُدمت للدولة الصهيونية, رفضتها! بالتالي, ألا يستفيد البعض من التاريخ ودروسه؟ السؤال برسم كل من يؤمن بإمكانية إقامة السلام يوما مع هذا التيار المابعد نازي, المعبّر عنه في تمثيله السياسي القائم.
التعليقات مغلقة.