أفكار اقتصادية من أجل اليسار ودعوة إلى الحوار: ما اليسار … واليسار العربي؟ [1/2]

 

 




محمد عبد الشفيع عيسى* ( مصر ) الأربعاء 12/7/2017 م …

أفكار اقتصادية من أجل اليسار ودعوة إلى الحوار: ما اليسار… واليسار العربي؟ [1/2] …

أفكار من أجل اليسار، ودعوة إلى الحوار…؟ فما اليسار؟ يأتي أصل اللفظة من الظرف المصاحب لتوابع الثورة الفرنسية الكبرى (1789)، إذ شهدت قاعة البرلمان جلوس نواب الشعب الفرنسي ــ من التيار المسمى «جيروند» على جهة اليمين ــ وكانوا يميلون إلى «الاتجاه المحافظ»، بينما كان النواب من التيار المسمى «اليعاقبة» يجلسون جهة اليسار، ويميلون إلى إحداث تغيرات راديكالية (جذرية) في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية آئنذ.

فلذلك جرى العُرف اللغوي ــ التاريخي أوروبياً ومن ثم عالمياً، على إطلاق اسم اليمين على أنصار «المحافظة» على الوضع القائم ــ وربما العودة «الرجعية» إلى أوضاع ما قبل الثورات؛ بينما سمّى أنصار التغيير (الثوري) باليسار.

جرت مياه كثيرة في الأنهار خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فانضوى تحت لواء «اليسار» كثيرون من اتجاهات فكرية متعددة تنتمي عموماً إلى مدارس الفكر الاشتراكي بالمعنى العام والعريض بروافده المتنوعة، ابتداءً من «الماركسية» ــ نسبة إلى المفكر الألماني كارل ماركس مؤلف الكتاب الموسوعي الأشهر في تحليل النظام الرأسمالي الأوروبي تحت عنوان «رأس المال».

ونشأت على إثر ذلك مجموعة من الأحزاب المسماة بالشيوعية، انتساباً لما دعاه ماركس بالطور «الشيوعي» في تطور المجتمع البشري بعد مرحلة المجتمع الاشتراكي اللاحق لانهيار الرأسمالية. إلى جانب الماركسية، مرّ اليسار في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بموجات أخرى من الفكر الاشتراكي مثل ما سمّى بالاشتراكية «الفابية»، أي المطالبة بالتغيير التدريجي والجزئي ــ لا الجذري الشامل ــ و«الاشتراكية التعاونية». وخارج الفكر الاشتراكي أو اليسار بمعناه المحدد، ظهر ما أطلق عليه الاتجاه (الإصلاحي) الذي يقبل ببقاء النظام الرأسمالي مع إجراء تعديلات (ترقيعية) عليه بين حين وآخر.

وقد بقيت السمة العامة لليسار دائماً في حيز «النقد» للنظام الرأسمالي إما بهدف استبداله بنظام اجتماعي أرقى ــ وهذا هو اليسار «الراديكالي»، وإما بهدف تعديله بصورة أو أخرى في إطار موقع «الوسط» فيما بين اليمين واليسار، وخاصة ما يسمى بيسار الوسط.

أما اليمين فقد صار ــ من وجهة الفكر الاجتماعي والسياسي ذي الطابع «النقدي» ــ اسماً علماً على الاتجاه المحافظ، وكذا «الشق الرجعي» الأكثر التصاقاً بمصالح الشرائح ذات النصيب الأعلى من الدخل والثروة الوطنية.

بقيام الاتحاد السوفياتي ــ إثر «الثورة البلشفية» بقيادة لينين عام 1917 ــ ولدت حاضنة كبرى لليسار الاشتراكي، في شقة الماركسي المنادي بالتغيير الجذري الشامل للأوضاع القائمة في ظل المنظومة الرأسمالية. وتأكد ذلك من خلال واقع ما بعد الحرب العالمية الثانية بانضواء أوروبا الشرقية تحت الزعامة السوفياتية، فقامت «الكتلة الشرقية» مقابل «الكتلة الغربية» بزعامة الولايات المتحدة الأميركية.

ولما سجلت الثورة الصينية بقيادة ماو تسي تونغ ــ زعيم الحزب الشيوعي الصيني ــ نصرها النهائي في كانون الأول/ ديسمبر 1949 تعاظمت قوة المنظومة الاشتراكية العالمية، حتى وقع الانشقاق الصيني ــ السوفياتي، اعتباراً من عام 1957، لأسباب ليس هنا محل ذكرها.

من اجتماع «الانفتاح» و«الإصلاح» برزت نخبة «الليبرالية الجديدة»

في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، قامت حركة استقلالية في عموم المستعمرات سعياً إلى التحرر السياسي فالاقتصادي، من الاستعمار ــ القديم والجديد. وشيئاً فشيئاً تبلورت حركة التحرر الوطني والقومي في القارات الثلاثة: آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، تحت شعارات التنمية، بدءاً من حركة التضامن الآسيوي ــ الإفريقي منذ مؤتمر باندونغ عام 1955 والاتجاه إلى «الحياد الإيجابي» بين الكتلتين الكبيرتين، انتهاءً إلى «عدم الانحياز» كسياسة وحركة، وبخاصة بعد مؤتمر بلغراد عام 1961.

في الإطار العام لحركة التحرر الوطني العالمية بآفاقها الاستقلالية والتنموية، تبلورت حركة التحرر العربي فى ساحة المشرق والمغرب، خلال الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، بمسعاها الاستقلالي وتوجهها الوحدوي وأفقها التنموي، خصوصاً الاشتراكي.

وقد انتصرت مصر سياسياً، وصموداً عسكرياً إزاء العدوان الثلاثي فيما سمى حرب بورسعيد (أو السويس) عام 1956، على إثر تأميم قناة السويس ومقاومة «حلف بغداد» ومساندة ثورة الجزائر عسكرياً وسياسياً (1954 ــ 1962). وقامت الجمهورية العربية المتحدة بوحدة مصر وسوريا (1958-1961) وانتصرت مصر لثورة اليمن اعتباراً من عام 1962 وقامت من أجلها «حرب اليمن» حتى 1967.

في ظل هذه المنجزات التحررية ــ الوحدوية، حافظت «مصر الناصرية» على موقعها كقاعدة للحركة القومية العربية. وكانت هذه الحركة قد نشأت كمحض حركة سياسية بأفق وحدوي (مشرقي) أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لتتطور كحركة للتحرر القومي والوطني بُعيْد الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين 1948، ثم لتستوي في الخمسينيات والستينيات قوة عالمية صاعدة تحت لواءات الحرية والاشتراكية والوحدة، بقاعدة من مصر وقيادة من جمال عبد الناصر، في غمار التجربة المصرية في التخطيط والتحول الاشتراكي والتصنيع (حتى وفاة جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر/ أيلول من عام 1970).

فى إطار حركة القومية العربية ــ الثورية الجديدة هذه، تطور اليسار العربي ليأخذ مناحي متنوعة، منها ما هو اشتراكي خالص (وفيه شق ماركسي) كالعديد من الأحزاب والحركات الاشتراكية و«الشيوعية»، ومنها ما هو قومي وحدوي بأفق اشتراكي عام (مثل أحزاب وتنظيمات متنوعة في المشرق العربي خاصة)، ومنها ما هو تحرري وطني جذري بمضمون اشتراكي (كما في الجزائر والمغرب)، ومنه ما هو «التلخيص والمتلقي» حيث تآلفت عناصر اليسار العربي فكرياً وسياسياً من تكامل الشعارات الثلاثة، على اختلاف ترتيبها: ما بين (الحرية والاشتراكية والوحدة) لدى عبد الناصر، و«حرية ــ وحدة ــ اشتراكية» لدى «حزب البعث» بفرقه المتعددة، و(حرية ــ وحدة ــ اشتراكية) كما نادى بعض المفكرين.

بعد عدوان نكسة 1967 انزوى اليسار العربي جانباً، وبرز إلى الواجهة تيار «الإسلام السياسي» بفصائله وتياراته العديدة. وخلال عقود زمنية أربعة تقريباً، تربع على عرش «السلطة والمعارضة» فرسا الرهان العربي العليل: العسكريون، والإسلاميون.

ومن قلب المعمان برز حصاد التجربة البائسة لنظم الحكم العربية ذات الجوهر التسلطي، وذات منحى اقتصادي ــ اجتماعي (يميني) محمول على أجنحة «الانفتاح» و«اقتصاديات السوق» والاعتماد الكامل على العالم الخارجي، وعلى التفاوت الطبقي الهائل في توزيع الثروات والدخول.

آنئذ طفح الكيل وانفجر البركان (الثوري) عند خواتيم 2010 ومطالع 2011 ــ في مصر وتونس واليمن بشكل محدد. ومن بين الركام صعد تيار الإسلام السياسي، حتى بزر إلى قمة السلطة، بالاحتكار أو بالمشاركة، ثم هوى النجم الساطع انطلاقاً من مصر في منتصف عام 2013.

منذئذ تهيأت الفرصة لإعادة صعود اليسار العربي بديلاً مستطاعاً، ونجماً مؤهلاً للسطوع، ولكن التقاء تيار المحافظة على الوضع القائم Status quo مع تيار محاولة العودة إلى ما مضى، جعل المحافظين والرجعيين على خط واحد مستقيم معاد في جوهره لجدول أعمال اليسار ملخصاً في الشعارات الأساسية لـ«ثورة يناير»2011: حرية، تغيير، عدالة اجتماعية. وكانت محصلة هذا الالتقاء بروز ــ أو «إعادة بروز» ــ التيار المسمى بالليبرالية الجديدة، النيوليبرالية، كما يسميها البعض.

فكيف يمكن استنهاض اليسار؟ ومن أين نبدأ في «نقد الفكر» و«فكر النقد»…؟

وإنّا لنأمل أن تثير هذه الكلمات اهتماماً مستحقاً، وأن تفتح باباً واجباً للحوار بين المعنيين بالأمر من أهل اليسار في مصرنا العربية وفي الوطن العربى الكبير.

وفي الجزء التالي عود على بدء، للبحث في علامات الطريق المفضى إلى «الليبرالية الجديدة» الراهنة فى مصر بالذات، ثم نعرج من بعد في جزء ثالث على نقد «الليبرالية الجديدة»، أننتهي إلى جزء رابع فيه عرض موجز لبنود برنامج اقتصادي مقترح لليسار العربي ـ بما فيه المصري ـ مقابل للبرنامج «النيو ليبرالي» المطروح.

الطريق الطويل إلى «الليبرالية الجديدة» في مصر

اليسار ــ بصفة عامة ــ وجهته الأساسية هي الاشتراكية بأطيافها المتنوعة، وقلبها المركزي العدل التوزيعي للثروات والدخول تأسيساً على بناء قاعدة إنتاجية قابلة للاستمرار زمنياً، وللتعمق موضوعياً من زاوية التصنيع والعلم والتكنولوجيا.

وفي كلمات أخرى، اليسار يتجه أساساً نحو تحقيق التنمية الشاملة، مستخدماً أدوات المنهجية التخطيطية من دون إخلال بمقتضيات السوق إن وجدت.

أما اليمين فوجهته الأساسية إعطاء الأولوية لتطوير مصالح الأقلية الاجتماعية من الشرائح الاجتماعية ذات النصيب الأكبر من الثروة والدخل، في مواجهة الأغلبية الشاسعة الممثلة لنحو 80% من أبناء المجتمع. وفي كلمات أخرى، اليمين يتجه إلى تعزيز الأنشطة الاقتصادية الهامشية نسبياً، مع الاعتماد على إطلاق قوى السوق ــ العرض والطلب ــ من دون تدخل فعّال من جهات الدولة، وذلك سعياً إلى تعظيم عوائد أصحاب الملكية الخاصة الكبيرة والرأسمالية من رجال المال والأعمال، الكبار بصفة أساسية، في مواجهة العاملين والمنتجين المباشرين المجردين إلى حد كبير من تملك رأس المال المادي والمالي والمعرفي.

بعد تصفية التجربة التنموية المصرية ــ بقيادة عبد الناصر ــ والتي اكتسبت في مراحلها الأخيرة، أواسط الستينيات، السمات الاشتراكية، تبلورت منذ مطلع السبعينيات، برعاية السادات ونظامه الانفتاحي التابع للرأسمالية الدولية، نخبة جديدة.

تلك النخبة، كانت تتعيش فئاتها المتنفذة من «رجال المال والأعمال الجدد» على الأنشطة الهامشية لتغذّي الانقسام الطبقي الحاد للمجتمع بين أقلية مؤسرة وأغلبية معسرة من جميع الوجوه، خلال حقبة «الانفتاح» في عقدي السبعينيات والثمانينيات، ثم تحت ظلال ما سمّي «الإصلاح الاقتصادي» ــ وفق «وصفة صندوق النقد الدولي» ــ خلال عقد التسعينيات.

من اجتماع «الانفتاح» و«الإصلاح» برزت في العقد الأول من القرن الحالي نخبة «الليبرالية الجديدة» التي آمن أعضاؤها بقدسية الأسواق، وباقتصاديات السوق ــ آليات العرض والطلب (العمياء) ــ كآلية منفردة لتسيير الحياة الاقتصادية وفق مصالح الأقلية من المجتمع، المشتغلة ــ كأولوية أولى ــ في الأنشطة الهامشية ذات العائد السريع المرتفع، لا سيما العقارات والاتصالات، بدلاً من الزراعة والصناعة التحويلية والخدمات العلمية ـــ التكنولوجية المتطورة.

وكان أن دفعت نخبة الليبرالية الجديدة بوجوه رجالها إلى سدّة السلطة العليا منذ عام 2004 فيما سمّي بحكومة «رجال الأعمال» تحت رعاية «مشروع التوريث» المعروف، وكان ما كان من تزاوج «السلطة وعالم الأعمال» حتى واقعت الواقعة في 25 يناير 2011.

كانت سياسة «الليبراليين الجدد» خلال العشرية الأولى من هذا القرن نموذجاً نمطياً للسياسة الداعية إلى «انفتاح» الاقتصاد الداخلي على العالم الخارجي دون ضوابط، فأصبح اقتصاداً قائماً على الاستيراد بصفة أساسية وشبه كلية ــ سواء فى ذلك استيراد السلع الغذائية والدوائية الأساسية أو استيراد السلع الإنتاجية من المستلزمات والمدخلات الوسيطة (كالكيماويات والمعادن الأساسية)، ومن الآلات والمعدات وأدوات الورش.

وكان قد قام على «مدماك» الانفتاح الذي بدأ أواسط السبعينيات ــ مدماك آخر سُمّي من طرف دعاته بـ«الإصلاح» وبدأ في أول التسعينيات وفق سياسات موجهة نحو ما أطلق عليه «التثبيت» أو «الاستقرار» عبر استهداف التضخم بواسطة خفض الإنفاق الاجتماعي على الدعم العيني والخدمات الأساسية، من أجل تقليل عجز الموازنة العامة ومن ثم استبعاد الحاجة إلى التوسع في التمويل التضخمي الذي يضخّ السيولة النقدية كرافعة لصعود المستوى العام للأسعار.

ولما أضيفت إلى سياسات «التثبيت» واستهداف التضخم، سياسة للصرف هادفة إلى خفض قيمة العملة المحلية Devaluation مع إزالة الضوابط على حركة رؤوس الأموال نحو الخارج (Capital Controls)، فإن ذلك أدّى في نهاية الأمر ــ مع سياسة رفع أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية ــ إلى تثبيط حركة الاستثمارات المحلية مع ما يتبع ذلك من ركود. هذا من جهة أولى. ومن جهة ثانية، فقد انتقل أثر التضخم الدولى إلى الداخل عبر آليات الاستيراد الحر واقتصاديات السوق الطليقة في الداخل.

وكان أن هزمت سياسة «الإصلاح» نفسها، إذ بدأت باستهداف التضخم فإذا بها تنتهى إلى الوقوع في «جب الركود» ممتزجاً بالتضخم المستورد، وهذه هي حالة السياسات التي تهزم نفسها بنفسها Self-defeating .

وكان هذا أوضح ما يمكن في مطلع القرن الحادي والعشرين، خلال فترة 2000-2003، مع بروز سمات الكساد المقيم.

فوق المدماك المزدوج للانفتاح والإصلاح، وجدت السياسة الاقتصادية نفسها وقد انجرفت تلقائياً إلى المزيد من خدمة مصالح الأقلية في وجه مصلحة الأغلبية تحت راية «الليبرالية الجديدة»، وفق ما أشرنا إليه آنفا، مما مهدّ السبيل سالكاً إلى حدث الثورة العظيم في الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2011.

ومن عجائب الدهر أن فشل «الليبرالية الجديدة» ــ خلال فترة محاولة توريث السلطة (2004 ــ 2010) ــ لم يشكل رادعاً كافياً للنخبة المصرية المتنفّذة بعد الثورة بما يحول دون العودة إلى السياسات الفاشلة نفسها بعد حين. غير أن هذا حديث آخر، نعود إليه في مقالنا التالي، للسؤال عن البديل من واقع بنات أفكار اليسار.

* أستاذ في معهد التخطيط القومي بالقاهرة

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.