ثلاثون عاما على استشهاد ناجي العلي آن الأوان لكشف الحقائق

 

 

عاطف سلامة ( فلسطين ) الأحد 23/7/2017 م …

ثلاثون عاما على استشهاد ناجي العلي آن الأوان لكشف الحقائق

قدم ناجي العلي (1937-1987)الكثير، ليس للكاريكاتير الفلسطيني فحسب؛ بل للعربي والعالمي، فقد عبّر الفنان عن مخزون الذاكرة وتمسك بالموروث الثقافي ليضيء حقيقة ورثها عن أجداده وتوج بها رؤيته التاريخية، فرسوم ناجي الكاريكاتيرية تجمع بينها رؤية متكاملة، و”حنظلة” الشاهد (الختم) يجسد قيمة أخلاقية ثورية في الحياة اليومية، من خلال سعيه المستمر إلى احتلال مكانة غير المحايد في المشهد التراجيكوميدي، ومن ثم تعميمه على المتلقي.

للوهلة الأولى قد تبـدو المواقف والشخوص في كاريكاتير ناجي ساذجة وعفوية، إلا أنها تخضع دائما لبناء منطــقي عقلاني؛ قائم على حسابات دقيقة، قادر على إيصال الفكرة بطريقة استنتاجية، وهــذا القالب القائم على البساطة، يترك “للمتلقي” أن يجتهد ضمنه كما يشاء أن يقرأ ويفهم ما يشــاء، وأن يستــخلص الموقـــف وأن يحــل العقدة (اللغز) كما يشاء.

ناجي، من أقدم رسامي الكاريكاتير في العالم العربي، ومن أشهرهم في العصر الحديث ويعتبر الأب الروحي لهذا الفن. تميز بالنقد اللاذع ويعتبر من أهم الفنانين الذين عملوا على ريادة التغيّر السياسي باستخدام الفن.

حياة مضطربة

تعرض العلي للاعتقال بعد هجرته إلى المخيم حيث ألقت القوات الإسرائيلية القبض عليه بسبب أنشطته المعادية للاحتلال لكنه قضى أوقات اعتقاله بالرسم على جدران الزنزانة، كما اعتقلته قوات الجيش اللبناني أكثر من مرة ولم يكف عن الرسم على جدران السجن.

مقولة عرفت عن صاحب الشخصية الأبرز في تاريخ الكاريكاتير العربي والتي صارت رمزا للقضية الفلسطينية “حنظله”: اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله ميت”..

ناجي العلي ابن قرية الشجرة الواقعة بين طبريا والناصرة، والتي فارقها بعد النكبة الفلسطينية حيث توجهت عائلته إلى مخيم عين الحلوة جنوب لبنان، وكان عمره نحو 10 سنوات.

تعلم الابتدائية بمدارس لبنان، وانقطع عن التعليم النظامي بسبب الصعوبات التي واجهته، فانضم إلى مدرسة مهنية في مدينة طرابلس شمال لبنان لدراسة ميكانيكا السيارات، ثم التحق بالأكاديمية اللبنانية عام 1960 ودرس الرسم فيها لمدة عام.

تزوج من وداد صالح نصر من بلدة صفورية في فلسطين وأنجب منها أربعة أبناء هم خالد وأسامة وليال وجودي.

كان الأديب الصحفي غسان كنفاني قد شاهد ثلاثة أعمال من رسوم ناجي في زيارة له لمخيم عين الحلوة فنشر له أولى لوحاته وكانت عبارة عن خيمة تعلو قمتها يد تلوّح، ونشرت في مجلة “الحرية” العدد 88 في 25 أيلول 1961.

وعرف العلى بالنقد اللاذع فى رسوماته، واستمرت مسيرته الفنية نحو ثلاثين عاما. رسم خلالها قرابة أربعين ألف كاريكاتير، وكانت ريشته مشرطا يحاول استئصال كل الأورام الخبيثة في الجسم العربي، وتميزت رسومه بالجرأة والصراحة، وملامسة هموم الناس وتوجهات الشارع العربي.

بدأ العمل محرراً ورساماً ومخرجاً صحفياً في صحيفة “الطليعة” الكويتية عام 1963، ثم منذ عام 1969 إلى عام 1974 في جريدة “السياسة” الكويتية، ومنذ بداية عام 1974 في جريدة “السفير” اللبنانية حيث استمر في النشر فيها حتى عام 1983.

في عام 1983 غادر لبنان إلى الكويت مرة أخرى وعمل في جريدة “القبس” الكويتية التي بقي فيها حتى عام 1985 حيث طرد منها لأسباب هو يعلمها جيدا، فانتقل إلى لندن وعمل في جريدة “القبس الدولي” حتى يوم إطلاق النار عليه في لندن 22 يوليو/ تموز 1987 واستشهاده يوم 29 أغسطس/ آب من العام نفسه.

“الثمن المحتوم لنضال ناجي هو أنه كان يدرك أنه سيدفع الثمن في لحظة ما، ومع هذا لم يكن هناك ما يدل على خوفه من دفع الثمن “

في عام 1979 انتخب رئيسا لرابطة الكاريكاتير العربي، واختارته صحيفة “أساهي” اليابانية واحدا من أشهر عشرة رسامي كاريكاتير في العالم، ومنحه الاتحاد الدولي لناشري الصحف جائزة “قلم الحرية الذهبي” في عام 1988، وكان أول رسام كاريكاتير وأول عربي يحصل عليها.

رسومه اخترقت جدران الخوف التي أحاطت الأنظمة العربية بها شعوبَها، فرسم ساخرا من جميع الأنظمة، بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية، وكان يدرك خطورة ذلك.

شخصيات ناجي الكاريكاتيرية

سخرت رسوم ناجي من القادة العرب وشرّحت السياسات الإسرائيلية، اختار العلي لرسومه شخصية “حنظلة” بمثابة التوقيع أو الختم، وفاطمة المرأة الفلسطينية التي ترفض التنازل والناقمة على الأنظمة العربية المتخاذلة بشأن فلسطين، وشخصية زوجها بالإضافة إلى شخصية الرجل السمين التي تمثل القيادات الفلسطينية والعربية وشخصية الجندي إسرائيلي، بالإضافة إلى الشخوص الثانوية في كاريكاتير ناجي العلي، وهي أم عبد الكادر وزوجها المقاول الكبير ” عبد الكريم عبد القادر.

حنظلة.. الشاهد الشهيد

يقول ناجي العلي: “ولد حنظلة في العاشرة من عمره، وسيظل دائماً في العاشرة، ففي تلك السن غادرتُ الوطن، وحين يعود حنظلة سيكون بعد في العاشرة، ثم سيأخذ في الكبر بعد ذلك، قوانين الطبيعة المعروفة لا تنطبق عليه، إنه استثناء لأن فقدان الوطن استثناء، وستصبح الأمور طبيعيةً حين يعود للوطن، لقد رسمته خلافاً لبعض الرسامين الذين يقومون برسم أنفسهم ويأخذون موقع البطل في رسوماتهم، فالطفل يُمثل موقفاً رمزياً ليس بالنسبة لي فقط، بل بالنسبة لحالة جماعية تعيش مثلي وأعيش مثلها، قدمته للقراء وأسميته حنظلة كرمز للمرارة، في البداية قدمته كطفل فلسطيني لكنه مع تطور وعيه أصبح له أفق قومي ثم أفق كوني إنساني.

أما عن سبب إدارة ظهره للقراء فتلك قصة تُروى: في المراحل الأولى رسمتُه ملتقياً وجهاً لوجه مع الناس، وكان يحمل “الكلاشنكوف” وكان أيضاً دائم الحركة وفاعلاً وله دور حقيقي: يناقش باللغة العربية والإنجليزية، بل أكثر من ذلك فقد كان يلعب “الكاراتيه”.

يغني الزجل ويصرخ ويؤذن ويهمس ويبشر بالثورة، وفي بعض الحالات النادرة، وأثناء انتفاضة الضفة الغربية وغزة، كان يحمل الحجارة ويرجم بها الأعداء، وأثناء خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت كان يقبّل يد هذه المدينة الجريحة مثلما كان يقدم الزهور لها. كنت أحرض الناس، بعفوية الطفل الذي عقد يديه خلف ظهره، ولكن بعد حرب أكتوبر 1973 “كتفته” باكراً لأن المنطقة ستشهد عملية تطويع وتطبيع مبكرة قبل رحلة “السادات”، من هنا كان التعبير العفوي لتكتيف الطفل هو رفضه وعدم استعداده للمشاركة في هذه الحلول، وقد يعطى تفسيراً أن لهذا الطفل موقفاً سلبياً ينفي عنه دور الإيجابية، لكنني أقول: إنه عندما يرصد تحركات كل أعداء الأمة، ويكشف كافة المؤامرات التي تحاك ضدها، يبين كم لهذا الطفل من إسهامات إيجابية في الموقف ضد المؤامرة، وهذا هو المعنى الإيجابي، أريده مقاتلاً، مناضلاً، وحقيقة الطفل أنه منحاز للفقراء، لأنني أحمل موقفاً طبقياً، لذلك تأتي رسومي على هذا النحو، والمهم رسم الحالات والوقائع وليس رسم الرؤساء والزعماء.

إن “حنظلة” شاهد العصر الذي لا يموت، الشاهد الذي دخل الحياة عنوة ولن يغادرها أبداً، إنه الشاهد الأسطورة، وهذه هي الشخصية غير القابلة للموت، ولدت لتحيا، وتحدت لتستمر، “هذا المخلوق الذي ابتدعته لن ينتهي من بعدي، بالتأكيد، وربما لا أبالغ إذا قلت أني قد أستمر به بعد موتي”، هذا هو فهم ناجي العلي لـ : “حنظلة” ودوره في الأحداث من خلال رسوماته فــ “حنظلة” الذي انطلق حاملاً “كلاشينكوفاً” ثم عقد يديه مديراً ظهره ما بعد عام 1973، هو الوجه الأساسي لناجي العلي في قراءته السياسية للواقع العربي، وفي ترصده لهذا الواقع والإعلان عنه، ولربما تسنت لــ”حنظلة” فرصتان اثنتان كان خلالهما الحديث اليومي للشارع العربي و”بارومتر” تذبذب السياسة العربية. وهما الخطوة الأوضح التي قادها “انور السادات” باتجاه إسرائيل والصلح معها وفق اتفاقيات كامب ديفيد حيث أخذ “حنظلة” على عاتقه الوقوف بوجه هذا الماستر السياسي، والخطوة الثانية: هي دخول المفاوض الفلسطيني حلبة الصلح مع “إسرائيل والتراجع عن برنامج التحرير” وعلى هذا المفترق أحس “حنظلة” باقتراب الخطر، ليقف وحيدا على خط المواجهة، فظهرت في لوحات ناجي العلي رؤوس متعددة لـ “حنظلة” وظهرت في الرسومات المتأخرة لناجي العلي علامات النبوءة بحتمية الرصاصة الغادرة، فأطلق “حنظلة” ليصرخ معلناً صريحاً بأن كاتم الصوت يقترب من رأسه المدور.

وعندما سئل ناجي العلي عن موعد رؤية وجه حنظلة أجاب: “عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته”.

رمز الهوية الفلسطينية

اسأل أي فلسطيني عن “حنظلة” سيخبرك بالتأكيد، اسأله منذ متى تعرفت إليه، غالبًا ستجد ملامح الحيرة بادية على وجهه،”حنظلة” الأيقونة الخالدة التي كان يوقع بها رسام الكاريكاتير الفلسطيني “ناجي العلي” تجاوزت كونها توقيعًا لرسامٍ أو أيقونة خالدة وأصبح “حنظلة” هوية تحدد فلسطينية المرء، حالها حال الكوفية الفلسطينية تمامًا، “حنظلة” لا يفارق الكثيرين، كونهم اختاروا أن يكون هو ومفتاح بيتهم في ميدالية واحدة، حتى لا ينسون هذا الصغير الذي يعطي الجميع ظهره للجميع، في انتظار انتصارٍ ما، كي يفك عقدة يديه ويستدير لنراه مجددًا.

فاطمة الصابرة المثابرة

المرأة كما الرجل حاضرة دائماً في رؤية ناجي المركزية للصراع بين الأمة العربية وأعدائها، فهي لا تغيب ضمن شخوص كاريكاتور ناجي في كافة المجالات وعلى مختلف الأصعدة، وهي ليست فاطمة العربية الفلسطينية فحسب، بل تتعدى ذلك عندما يصور ناجي الوطن أو الشعب أو الأرض أو المخيم.. إلخ.. بإمرأة.. فالمرأة هي فلسطين وهي مصر وهي لبنان وهي “عين الحلوة” و”صبرا” و”صور” و”صيدا” والجنوب والإنتفاضة في الأراضي العربية المحتلة، كل ذلك في الدالة على العطاء والخصب والحب والتضحية، هذه هي المرأة في فن ناجي العلي.. أما الشخصية الأساسية الثابتة للمرأة في رسوم ناجي العلي فهي “فاطمة” الفلسطينية المكافحة “فاطمة” العربية الصابرة المثابرة، ففاطمة ذات الإزار الطويل والمنديل والوجه المستدير الطيب والعينين السوداوين الشرقيتين، هي الرمز، رمز العربيات المناضلات بكافة أشكال النضال.

هي أولاً المرأة الولادة المعطاءة التي تشبه خصوبتها خصوبة الأرض وبعطاءها ترفد الوطن بالمناضلين والمبدعين، وهي أم الشهداء الذين سقطوا ولا زالوا يسقطون من أجل الوطن وهي ثانياً المرأة الصلبة كصلابة حجارة الوطن، لا تلين لها قناة أمام شظف العيش ومحنة التشرد، تتجول حافية القدمين وهي باسمة دامعة محتضنة طفلها الرضيع الذي ترضعه حب الوطن ممزوجاً بحنانها وحبها وسط أكوام الركام والدمار ووسط أزيز القذائف والرصاص ليكبر ويحمل البندقية ويتابع الطريق الذي سبقه إليه أبناؤها الآخرون.. إنها تزرع فلسطين في دمائه مع كل جرعه رضاعة ومع كل لمسة حنان وكل كلمة حب، تدفع زوجها وأولادها إلى متابعة التحرير والاستشهاد “فاطمة” لم تقف في فن ناجي العلي عند حدود المرأة الولادة والصلبة والمعطاءة، بل تعدت ذلك لتكون المشاركة في الحوار والموقف والشريكة في الموت والمصير، فهي بوصلة الأمان لزوجها “الرجل الطيب” في اقترابه وابتعاده من المسار الصحيح في الحكم على الأمور.

أدوار كثيرة ومتعددة ومختلفة لفاطمة في معظم لوحات ناجي العلي تختزل صبر ومعاناة المرأة الفلسطينية العربية المناضلة وعطاءها وصلابتها ووعيها وحضورها الدائم في مختلف المجالات ومشاركتها الإيجابية في الحوارات والمواقف.

وعلى العكس من “فاطمة” ذات القوام المتناسق والإزار الطويل والمنديل “فاطمة” البسيطة الطيبة الواعية والصلبة، نجد في الشخوص الثانوية في كاريكاتير ناجي العلي، “أم عبد الكادر” المقصود “أم عبد القادر” ولكن تخفف القاف إلى كاف وباللهجة الفلسطينية كما ورد على لسان شخوص كاريكاتير ناجي، زوجة المقاول الكبير “عبد الكريم عبد القادر”، تلك المرأة التي تصنف نفسها من سيدات المجتمع الراقي، فهي مبطونة متكرشة، لا تلبس المنديل وتقص شعرها وتصففه وفق الموضة وتلبس على الموضة “الميني جوب” والأحذية ذات الكعب العالي، وتتزين بالخواتم والعقود والاساور الذهبية وتشرب الخمر، وتدخن التبغ، وتهتم بالمظاهر وبإبراز صورتها، وتدعو صديقاتها في بيتها الفاخر لتناول “المناقيش”… فقط !!

ورد على لسانها في إحدى لوحات ناجي العلي هي “أم عبد الكادر” التي تسافر إلى باريس ولندن وأمركيا، ويدرس أولادها في سويسرا ولندن وأمريكا..

إنها النقيض تماماً “لفاطمة” في مختلف صورها، إنها رمز الجشع والطمع والانحلال والتفسخ، تمثل جوهر حياة المستغلين والمتسلقين والإنتهازيين الذين يعيشون في قصور فخمة، يلبسون الملابس الفاخرة، ويجمعون الذهب يحبون السهر والحفلات والرقص، ويدرسون أبناءهم في أمريكا.. لا علاقة لهم بالوطن ولا علاقة لهم بــ “الرجل الطيب”، ولا بــ “فاطمة” المكافحين المناضلين اللذين يقدمان أبناءهما شهداء من أجل الوطن الشهيد تلو الشهيد واقفين بشموخ حافيي القدمين أمام القصف والدمار يمسحان دمعة أو يلسمان جرحاً، هذا هو انحياز ناجي العلي في فنه.

ناجي العلي منحاز، يكمن انحيازه للجماهير الكادحة، للفقراء، للمناضلين، للشهداء للوطن، وفي رفضه للفساد السياسي والاجتماعي ولكافة مظاهر البذخ والترف.

الرجل الطيب.. انتماء ووفاء

اسميناه “الرجل الطيب” لأنه بلا اسم ثابت محدد، فمرة يدعى العم عباس ومرة أبو حسين ومرة أبو إلياس ومرة أبو جاسم ومرة أبو حمد ومرة مارون ومرة محمد.. إلخ.

إنه صورة واحدة وشخصية واحدة لأسماء عديدة من مختلف أنحاء الوطن العربي، شخصية تعلن انتماءها ووفاءها للوطن والشعب والأمة، وتمقت وتدين الطوائف والطائفية والمذهبية، تماماً كما ترفض الاعتراف بالحدود المصطنعة بين الأقطار الغربية وتتمنى زوالها لأنها تدفع من حريتها وكرامتها وحياتها بسبب هذه الحدود.

إنه الفلسطيني المشرد والمقهور والمناضل والمعتقل والمغدور والمقتول، وهو اللبناني المشرد في وطنه والفقير المكافح والقتيل، وهو المصري الكادح المحب لمصر والعروبة، وهو الخليجي والسوداني والعراقي والانتماء الوطني والوعي القومي.

هو القتيل مع أبناء المخيم في “صبرا” و”شاتيلا” نحو شاخصة ممنوع الوقوف.. وهو أيضاً أبو إلياس الذ ي رفض القتال مع الكتائب والجيش العميل في الشريط الحدودي في الجنوب.. وهو الفدائي المحتج على تعدد التنظيمات، إنه الشهيد في العديد من لوحات ناجي العلي الذي يتم اغتياله بسبب الشعارات الوطنية والقومية التي يكتبها ويصرخ بها، فمرة بالرصاص من الخلف، ومرة تحت المرساة الأمريكية التي تحطم الزورق المرموز به للخليج وتقتل “الرجل الطيب” الذي يظهر جزءاً من جثته بارزاً مع الحطام، ومرة بالقصف الصهيوني وأخرى بالاقتتال الداخلي بين الطوائف والأحزاب المتعددة في لبنان.

إنه رمز الصبر والصمود والنضال والأمل في العودة لدى شريحة اجتماعية واسعة من جماهير أمتنا العربية.

“الرجل الطيب” بشكله وصفاته وحياته وممارساته النقيض التام لــ “ابو باصم” ذلك المتكرش المبطون الذي يلبس ربطة العنق والطقم الغربي ويعيش في الفنادق الفخمة ويشرب السيجار ويحتسي الخمر، ويحاول الاتصال هاتفياً مع “فاطمة” في مخيم “برج البراجنة” من تونس، فيكون أبلغ رد منها إغلاق الخط في وجهه.

هو “أبو باصم” الجشع، الطماع، صاحب الأموال المتنقل بين الدول الأوروبية والولايات الأمريكية طالباً الاستجمام.

“أبو باصم” الذي لم تعرف معاناة “الرجل الطيب” وعذاباته طريقاً إليه.. إنه النموذج المنسلخ عن وطنيته وأهله وشعبه وقضيته، وهو الشريحة ذات المصالح الخاصة التي لا تتحقق إلا على حساب الوطن والمواطن، على حساب “حنظلة ” و”فاطمة” و”الرجل الطيب”.

المتكرش.. صفات غير آدمية

هي شخوص أساسية في كاريكاتير ناجي العلي، نجدها في مواقف متعددة لتعبر عن البعد الآخر غير الإيجابي في الموضوع المطروح، وهي شخصيات تمثل البعض السياسي والحاكم، والتاجر، والانتهازي، والمستغل “بكسر الغين”.

ونجدها دائماً شخصيات مترهلة، متكرشة، متسطحة الملامح بلا رقبة ولا أقدام (على الأغلب)، غبية، خالية من معاني الادراك والوعي، جشعها يتضح في بطونها والدوائر التي تشكلها.

إنها رمز لكل ماهو متعفن في حياتنا العربية عموماً، ولعل ناجي العلي برسمه تلك الشخصيات على هذه الصورة بدون رقبة ولا أقدام، يريد أن يؤكد أنها شخصيات تنقصها ركائز الاستمرار لأنها شخصيات طارئة وزوالها محتوم كونها بلا جذور وبعيدة عن الأصالة الشعبية، وربما كان ذلك ماجعل ناجي يصورها في صور تكاد تكون غريبة عن الصفات الآدمية الحقيقية في محاولة منه لنفي إنسانيتها وإبراز مضمونها اللاانساني واللاأخلاقي.

وفي كل الحالات نجد تلك الشخصيات حاقدة على “حنظلة” و”الرجل الطيب” و”فاطمة” ومساومة عليهم وعلى حقوقهم جميعاً

شخصية الجندي الصهيوني..

جسد ناجي العلي شخصية الجندي الصهيوني بأنها شخصية قاسية ومهزوزة في نفس الوقت، لا تعرف الرحمة، غير مبالية، تلبس القبعة اليهودية، أو الزي العسكري، أو كلاهما، وعلى القبعة النجمة السداسية، شخصية تمتاز بطول الأنف، دائما مدججة بالسلاح، لكنها في أغلب الحالات تكون مرتبكة أمام حجارة الأطفال

ناجي العلي.. قوة الحياة والحق

ناجي العلي هو الفنان الذي كسب الرهان، لأنه راهن على الشعب، والشعب الذي ما زال في الميدان يبدع ويمضي ويقدم ويتقدم رغم الموت والسجون والجوع والاضطهاد، العلي فنان ساهم على قوة الحياة والحق، وفلسطين بالنسبة له هي الحق والحياة وروح الأمة وسؤالها، لذا اختار الصائب الصعب الفاجع، فنان تجاوز الحدود الموهومة بالخطوط التي ترسم الحدود الحرة، حدود الحرية بلا ضفاف، حرية الوطن.

أهم ما يميز الفنان ناجي العلي غزارة الإنتاج والقدرة الفائقة على متابعة الأحداث السياسية، وجرائم الاحتلال الصهيوني، والتقاط المفارقات وترجمتها إلى رسومات كاريكاتيرية بأسلوب بسيط وواضح بعيدا عن التعقيد، مركزا على الفكرة أكثر من الشكل. فرسومه دائما تخضع لبناء منطقي عقلاني؛ قائم على حسابات دقيقة، قادر على إيصال الفكرة بطريقة استنتاجيه، وهذا القالب القائم على البساطة، يترك “للمتلقي” أن يجتهد ضمنه كما يشاء، أن يقرأ ويفهم ما يشاء، وأن يستخلص الموقف وأن يحل العقدة (اللغز) كما يشاء. واستخدم ناجي العلي القضاء القاسي في رسوماته، وهما اللونين الأسود والأبيض، فاللون الأسود في معظم رسوماته احتل الخلفية القاتمة المعبرة عن القضاء المأساوي فهو بمثابة مقياس الزمن (المصيبة)، أما اللون الأبيض فهو المدى التعبيري لعفوية الالتصاق بالمكان غالباً؛ فكان ناجي يرتاح إلى تعبئة ثلثي المساحة باللون الأسود وإلى تركيز الفكرة الأساسية في الوسط؛ وتوزيع عناصر الحركة على الأطراف، ومن ناحية الرسم فقد أنتج ناجي خطاً تجسيدياً أكثر تعبيراً في منحاه الفني؛ لإيجاد الانسجام والتوافق في العلاقة بين الجزء والشكل؛ أي بين الخط في انسيابه ورقته وليونته والظلال في حركتها المتوترة.

مسيرة لا تعرف الخوف ولا تخشى الموت

في مسيرته الفنية يعكس ناجي العلي في لوحاته الفذة حقيقة معرفة المثقف الملتزم عدم قدرته على الانصياع لأي سلطة، ولذا نرى إبداعاته في حالة صدام دائم مع “السلطة” فالإبداع يندلع فقط في غياب القيود عليها، وعلى السلطة أن تقبل بهذه الحقيقة أو أن تصطدم بطليعة شعبها كما تجلى ذلك في نهاية ناجي العلي.

ناجي العلي رأى أن من أول واجباته الوطنية القومية نقد السلطة والأنظمة العربية، من دون ذكر أسماء تاركا للقارئ تحديد المقصود، وهجاؤهما بريشته السحرية على لسان كل من الطفل حنظلة الذي أبدعه في عام 1969 وصار ملازما لرسومه جميعها، والعربي الفقير الذي لا اسم له، القومي بامتياز، والمؤمن بعروبة بلاده.

كثيرة هي الموضوعات التي شكلت لناجي مادة دسمة للنقد بدءا من الساحة الفلسطينية بكل ما حوته من تناقضات الصدام مع الكيان الصهيوني، ومسار قيادتها للتسوية معه، إضافة إلى ممارساتها في كل أمكنة وجودها، من أخلاقيات العمل الوطني وغيره، وصولا إلى القضايا العربية، العلي كان صادقا، لأنه لم تكن لديه مسافة بين النظرية والممارسة!. كان دوما على خصام مع السلطة (مطلق سلطة)، فرفضها مرارا، واختار السير معاكسا عبر ريشته، التي تتهكم وتسخر من كل عقلية سياسية لا ترحب بالنقد، بل تمقته وتكرهه، وتجهد لقطع الأصابع التي تكتبه، وقص الألسن التي تنطق به.

لم يكن لناجي العلي أصدقاء في أي سلطة ذلك أنه لم يحاول إرضاءها أيا كانت، لذا نراه يتنقل في بلاد الله الواسعة وراء لقمة العيش، باحثا عن فضاء يتقبل فنه الكاريكاتيري الرفيع، ففن ناجي العلي، بحسب محمد الأسعد “يعيد المرء إلى وجوده، إلى معاشه اليومي وحياته، وينقذه من المصائد والخدع وكل أساليب الغش، وربما بسبب ذلك أثار غيظ السحرة والمشعوذين”.

نعم، مات صحفيون ومثقفون اغتيالاً واعتقالاً، لكن اللوحة الكاريكاتيرية باتت أكثر مَدْعَاةً للتأمل من قراءة التعليق السياسي والتنظير الإنشائي في الصحافة العربية، وإذا كان الصحفيون أكثر صخباً في الضرب على صدورهم كلما أصابهم مكروه أو ظلم، فلا بد أيضاً من الاعتراف بأن زملاءهم الرسامين تعرضوا صامتين أيضاً للطرد والمنع والملاحقة، بل مات أبرزهم اغتيالاً.

الواقع أن ناجي العلي بلغ في الجرأة حد المغالاة في التعبير الكاريكاتيري عن آيديولوجيا شمولية كان من السهل عليها “تخوين” كل من يقف على الرصيف المضاد لها.

محاولات إصدار مطبوعة خاصة بالكاريكاتير

أدرك ناجي بحسه السياسي المرهف الحاجة إلى إصدار صحيفة أو مجلة كاريكاتيرية عربية، وقد فاتح زميله “بهجاتوس” وهو “فنان الكاريكاتير المصري الشهير بهجت عثمان” كما غيره، في أمر إصدارها في لندن.

بهجاتوس كان يعرف ناجي جيدا، ويعلم كم هو قاس وساخر، ولا يعترف بشيء بالخطوط الحمراء.

قال بهجت: “أصبحت أوضاعنا أكثر إضحاكاً من قدرتنا على التعبير عنها، انه ضحك كالبكاء،

حتى الكاريكاتير عاجز عن مواكبة ما يجري”.

وربما لهذا العجز رفض “بهجاتوس” مشاركة “حنظلة”، وربما كان الرفض أيضاً لخوفه من تشدد ناجي وسخريته السوداء، فلم ير مشروع ناجي النور بعد هروب بهجت عثمان وتهرب غيره..

ريشة ناجي العلي بسيطة، لكنها معبرة عن نفسية رسام كان مسيساً من النخاع إلى قدمي حنظلة العاريتين. والسواد الصامت في لوحاته ينطوي على يأس يوحي بالتشاؤم بقدر ما يثير من سخرية وحقد على العجز العربي.

ناجي العلي ظاهرة فريدة في الكاريكاتير العربي، ولا شك انه ترك وراءه مدرسة لها روادها وأساتذتها. وعلي فرزات استمرار لناجي العلي في السخرية السوداء الصامتة وفي حركة الريشة، لكن فرزات يعرف حدود المحظور والممنوع، تلك المعرفة التي سمحت له بإصدار صحيفة كاريكاتيرية أسبوعية (الدومري)، وهو ما أخفق فيه ناجي.

من هنا، فهذا الوارث لريشة ناجي العلي لا يخرج عن الدائرة التي تتكرر فيها لوحاته عن الفساد والبيروقراطية ونقد الخطاب السياسي الإنشائي. لكن لوحات فرزات لا تحجب الإعجاب الكبير برسام هو أيضاً ينطوي على خيال واسع وفهم سياسي عميق.

غسان كنفاني وناجي العلي حديث اللقاء الأول

في العام 1962 كان في مخيم عين الحلوة الفلسطيني الواقع في جنوب لبنان احتفال شعبي، حضرته مجموعة من القيادات الفلسطينية في لبنان. وكان على رأسهم غسان كنفاني، أثناء زيارة غسان كنفاني معرض الرسومات (وهو قسم خاص أقيم في خيمة مهترئة)، كان في استقباله ناجي العلي الذي كان مشرفاً على المعرض باعتباره أستاذاً لرسم الأطفال. وجال كنفاني جولة قصيرة، وتحمس كثيراً لكل ما هو معروض، ووجد في هذه الرسومات التي تنادي معظمها بالثأر، أرضاً خصبة لحركة القوميين العرب التي كان ينتمي إليها. وتوقف طويلاً أمام لوحة ملفتة متميزة، كانت تمثل خيمة على شكل هرم ترتفع من رأسه قبضة تطالب بالثأر والتصميم والنصر. وكان الثأر أحد الشعارات الرئيسية لـ «حركة القوميين العرب»: وحدة، تحرر، ثأر، فابتهج كنفاني، وسأل ناجياً عن صاحب هذه اللوحة، فقال له: أنا. فحيا كنفاني العلي وسلّم عليه، وشدّ على يده، وأثنى عليه، وأبدى حماساً شديداً للوحة، وهو يبتسم ابتسامة الرضا والابتهاج. وأحب أن يتحاور معه فسأله: شو إللي خلاك ترسم الخيمة على شكل هرم.. يعني شو علاقة الخيمة بالهرم؟

فردّ العلي وهو يشير بيديه مستعيناً بهما على شرح ما سيقول: فيه علاقات مش بس علاقة واحدة. شوف يا سيدي.. أولاً إحنا الفلسطينيين منتميّز بالخيمة زي ما المصريين بيتميزوا بالهرم. يعني لما تقول خيمة بتقول فلسطين، ولما بتقول هرم بتقول مصر.. يعني هما خِتْمهم الهرم وإحنا خِتْمنا الخيمة.. مزبوط هيك؟

وهزّ كنفاني رأسه علامة القبول، وتابع العلي يقول: ثانياً، الهرم والخيمة مكان للسكنى إلهم وإلنا.. بس هُمه بيسكنوها في موت الحياة يعني علامة للخلود، وإحنا بنسكنها في حياة الموت يعني علامة الإصرار على العودة، وللخلود كمان، وحتى تظل قضيتنا حمرة متل الجمرة ويوم ما إنضُبْ هالخيمة ونلفها، منضُبْ فلسطين وبنلفها كمان، صح هيك ولا لأ؟

غسان: هاي فلسفة كبيرة يا ناجي، منين جبتها؟

فردّ العلي وهو يهتز ابتهاجاً والله من هالدنيا.. هالدنيا علّمتنا إشيا كثيرة. هوه قليل اللي شفناه واللي خبرناه؟ عليم الله يا زلمة اللي شفناه بيعلّم العالم كله، مش بس إحنا!

وكان كنفاني يضع ذقنه في راحته اليمنى، ويغطي فمه بباقي يده، وينصت بانتباه، وقد وقف وقفة نخلة مائلة، ووقف أمامه العلي مقوّس الظهر، والتفّ حولهما رجال وبنات وأطفال من المخيم ومجموعة من المشاركين برسوماتهم ذوي سحنات محفورة بعذاب الشتات.

وتابع العلي كلامه بثقة: ثالثاً: العلاقة بين الهرم والمخيم، يعني ختمنا وختمهم، جاية من إنو مفيش تحرير لفلسطين بدون مصر، يعني بصراحة.. لا نصر من دون مصر!

فرد عليه كنفاني بابتهاج شديد وفرح غامر، وقد مال بجسمه أكثر ناحية العلي، وكأنه يود أن يهمس في أذنه: وبشوفك سياسي كمان؟

ناجي: ما قلنالك يا زلمة، هالدنيا علمتنا كل إشي. عليم الله هاذا المخيم لحاله فيه عِلْم أكثر من الجامعة الأمريكية اللي بيحكوا عنها ببيروت!

وضحكوا جميعاً، ثم تابع العلي يقول مبتهجاً وبحماس بالغ: بعدين يا أستاذ، العلاقة بين الخيمة والهرم إنهم مش ممكن يكونوا إلا في الخلا.. وواضحين تحت السما مباشرة، متل الشجر، هلاّ قول لي، في حدا بيبني خيمة جوّه بيت، ولا هرم جوه بيت، ولا بيزرع شجرة تحت سقيفة؟

ردّ كنفاني بحبور غامر: وبعدين معاك.. إنت ما خليت إلنا إشي نقوله، على مهلك يا زلمة، خلينا نحكي شوي!

وردّ العلي باسماً وعيناه تلتمعان بوهج الحقيقة: واحدة وبس.. ما إنت إللي سألت يا عمي،

وبدنا نجاوبك ع المزبوط! وصمت برهة، وأخذ نفساً وقال بحزم: العلاقة الأخيرة، هي العلاقة بين حجر الهرم وقماش الخيمة!

ولم يفهم كنفاني قصد العلي، فسأله باستحياء وبصوت خافت: شو يعني.. مش فاهم؟

فرد العلي بثقة، وكأنه يختم على وثيقة أمامه: ما بيرجّع فلسطين غير هالحجر! وصَفَق قبضة يده اليمنى ببطن راحته اليسرى علامة الختم، وانحنى، والتقط حجراً من أرض الخيمة، وقال بجدّ وهو يشدّ عضلات وجهه، ويقطب جبينه: وما بيطلع هالحجر إلا من هالخيمة.. لا من قصور ولا من علالي، وسلامة تسلمك! وصفّق له كل من سمعه وكان حوله، وهتفوا بحياة فلسطين والحجر.

وتعانق كنفاني والعلي، وتبادلا الأنفاس، وبديا من الخلف وكأنهما ظهر واحد وكتف واحد.

كان الأديب الصحفي غسان كنفاني قد شاهد ثلاثة أعمال من رسوم ناجي أثناء الزيارة فنشر له أولى لوحاته وكانت عبارة عن خيمة تعلو قمتها يد تلوّح، ونشرت في مجلة “الحرية” العدد 88 في 25 أيلول 1962.

جورج حبش لم يسلم من ريشة ناجي العلي

أنشئت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وبعد أشهر انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة.

أدرك ناجي “القومي” أن ولادة المنظمة ليس إلا صك براءة لذمة الأنظمة العربية كي تتخلى عن مسؤولياتها تجاه ضياع فلسطين.. فبدأ الخلاف، وفي الوقت الذي لم يكن أبدا محميا من أحد، لا من حزب ولا من سلطة أو حتى أي قيادة، علما بأنه كان مقربا من فكر الجبهة الشعبية، إلا أن هذا القرب لم يمنحها صك غفران، فتناولها في رسومه بسخريته اللاذعة، فقد رسم أكثر من لوحة انتقد فيها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وفي إحداها رسم عيادة وكتب فوقها “عيادة الجبهة الشعبية للأمراض التنازلية” وكتب أسفلها “اسأل مجرب ولا تسأل حكيم” وكان هذا بمثابة هجوم مباشر على الأمين العام جورج حبش، فغضب “الحكيم” واتصل به معاتبا وقال له :”هلكتنا يا ناجي” أجابه ناجي “أنت اللي عملت بحالك هيك” بهجومه كان يصرخ بالجميع ليقول لهم إلى أين انتم ذاهبون؟!

محمود درويش وناجي العلي “أنت تكتب وأنا أرسم”

يقول الشاعر الكبير محمود درويش: خطرت لناجي خاطرة، فقال: تعال نعمل معا… أنت تكتب وأنا ارسم، وكنا صديقين دون أن نلتقي كثيرا، لا اعرف عنوانه ولا يعرف عنواني… تكلمنا مرة واحدة حين امتنعت جريدته عن نشر إحدى مقالاتي التي أدافع فيها عن نفسي أمام هجمات إحدى المجلات، قال: سأدافع عن حقك في التعبير وسأتخذ موقفا… قلت له اهدأ، وكنت اكتب.. وكان يرسم… جميع الذين عملوا معه كانوا يقولون انه أصبح جامحا وان النار المشتعلة فيه تلتهم كل شيء، لان قلبه على ريشته ولان ريشته سريعة الانفعال والاشتعال لا تعرف لأي شيء حسابا، ولأنه يحس بأن فلسطين ملكيته الخاصة التي لا يحق لأحد أن يجتهد في تفسير ديانتها، فهي لن تعود بالتقسيط، لن تعود إلا مرة واحدة، مرة واحدة من النهر إلى البحر، وإلا لن يغفر لأحد، وأعلن الخلاف مع الجميع وخدش الجميع بريشة لا ترحم ولا تصغي للأصدقاء الذين قالوا له: “يا ناجي لا تجرح روحك إلى هذا الحد، فالروح جريح” وكان الأعداء يسترقون السمع إلى هذا الخلاف وكانوا يضعون الرصاصة في المسدس، كانوا يصطادون الفرصة.

ناجي العلي والمبعوث الأمريكي فليب حبيب

في سنة 1982 إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان كان المبعوث الأمريكي فيليب جيب يقوم بـــ(جولات مكوكية) في المنطقة، وكان ناجي العلي يرد على جولاته المكوكية العقيمة برسومات مكوكية يُصوِّره فيها بشكلٍ بشع! وفي لقاء للمبعوث الأمريكي مع بعض الصحفيين قال لهم: “أقنعوا ناجي العلي أن يرسمني بشكل ألطف.. فأنا لستُ قبيحاً لهذه الدرجة!”

فرد عليه أحد الحاضرين: “أسهل عليك إخراج إسرائيل من لبنان من إقناع ناجي بتغيير رأيه فيك!”

إنه هذا الثبات الذي أكسب ناجي العلي أعداءً كثيرين، لم يكونوا يستطيعون شراءه، أو مفاوضته، أو رشوته بالمزاح، هذا الثبات نفسه الذي قلب الكثير من الأصدقاء إلى أعداء… وهو هذا الثبات نفسه الذي جعل ناجي العلي هدفاً واضحاً لكل أولئك الأعداء…

بداية التحدى الكبير

بعد طرده من الكويت وصل ناجي العلى إلى لندن فى أواخر عام 1985 ليعمل فى “القبس الدولى” كما تم الاتفاق بينه وبين رئيس التحرير محمد الصقر، تركزت رسوماته على المحاور نفسها التى كانت تتركز عليها أثناء تواجده فى الكويت ولكن بشراسة أكثر وبتحد أكبر، وكان يرسم كل صباح باستماتة من يرسم اللوحة الأخيرة، ويكتب فيها وصيته.

وبدأ يركز أكثر فأكثر على أخطاء منظمة التحرير الفلسطينية وتصرفاتها المالية والإدارية والسياسية وتطلعاتها نحو الحل السياسي ويتصيدها باستمرار.

محمود درويش وناجي العلي “حوار ساخن”

وقع الخلاف الأكبر والمتوقع بين الرسام الذي فضل الانحياز للفقراء والشارع، وبين الشاعر الكبير الذي فضل الانحياز إلى فتح آفاق السلام.

فقد كتب محمود درويش مشجعا الرئيس الراحل ياسر عرفات على التفاوض: “لأنه هو الممكن الوحيد للتفاوض مع المستحيل” وذلك فى افتتاحية “الكرمل” عدد 10، 1983. رسم ناجي العلى لوحة تنتقد درويش تحت عنوان “درويش خيبتنا الأخيرة”.

الكلام المكتوب فى الكاريكاتير: حنضلة يقرأ عنوان الجريدة: محمود درويش يدعو إلى لقاء للشعراء والادباء الاسرائيليين والفلسطينيين

الرجل الطيب الاول يقول: لا يحق للشاعر ما لا يحق لغيرة

الرجل الطيب الثاني يقول: محمود ثم بكلمة كبيرة درويش

الرجل الطيب الثالث يقول: محمود خيبتنا الاخيرة

الرجل الطيب الرابع يقول: بعد ما صار عضو لجنة تنفيسية

نشر الكاريكاتير فى جريدة القبس بتاريخ 15/6/1987.

اتصل بعدها مباشرة درويش بالعلى تليفونيا وهدده، وفضح العلى تفاصيل المكالمة الهاتفية فى حديث مع مجلة “الأزمنة العربية”، فبعد حوار ودى قصير وصل سريعا إلى ما هو متوقع منه قال درويش (مهددا) آه.. بس إنت مش قدى يا ناجى..!

العلى: شو يعنى.. مش فاهم.. الشغلة صارت قدود.. قدك وقد غيرك.. والله أنا لما برسم ما بحسب قد لحدا.. وانت عارف يا محمود..؟!

درويش (بعصبية): بقلك يا ناجى انت مش قدى.. إفهمها..!

العلى (مدعيا عدم الفهم): والله ما انا فاهم إشى.. بطلت أفهم اشى هاليومين.. أسلاكى ضربت.. وصار عندى شورت.. شو يعنى فسر..؟!

درويش (متحديا) إنت بتعرف أنا مين..؟!

العلى: محمود درويش الشاعر على سن ورمح.

درويش (بانفعال): وغير هيك..؟!

العلى (بلا مبالاة): ما بعرف.. (مستدركا) ليش فى إشي جديد هاليومين.. ليكون صرت قائد جيش يا محمود.. وإحنا ما معانا خبر..؟!

درويش (بتحد): هلا مش وقت مزح.. بدى ياك تفهم يا ناجى منيح اليوم.. إنى.. أنا محمود درويش.. اللى قادر يخرجك من لندن فى أية لحظة…!

أووف… والله هاي جديدة يا زلمة.. بالله عليك بتعملها يا محمود؟ وشو هالسطات اللي صارت عندك.. والله أبو رسول (الاسم الحركي لمدير المخابرات الأردنية الأسبق محمد رسول الكيلاني) بزمانه ما قال هالحكي.. ولا صلاح نصر قبله (..) على كل حال انتو يا عمي السلطة.. انتو الدولة والشيلة (..) هاي مش أول مرة بتصير ولا آخر مرة.. بعدين هالشغلة صارت مش فارقة معي هالخد صار معود عاللطم.

هذه المقتطفات من حوار تليفوني جرى بين “ناجي العلي” رسام الكاريكاتير الفلسطيني المعروف أثناء وجوده في العاصمة البريطانية، و”محمود درويش” الشاعر الفلسطيني الأشهر المقيم آنذاك في باريس، وقد روى العلي ملخص الحوار مع درويش في حوار نشرته مجلة الأزمنة العربية (عدد 170/1986/ص14) وجاء هذا الحوار عقب رسم كاريكاتيري للعلي انتقد فيه درويش الذي دعا إلى مد الجسور مع اليسار الإسرائيلي.

الخطر يقترب..

كان ناجي يدرك جيدا الثمن المحتوم، وعرف أنه سيدفعه عاجلا أم آجلا.. في لحظة ما، ومع هذا لم يكن هناك ما يدل على خوفه من دفع الثمن “

فرسومه ازدادت شراسة وسخرية، بل واخترقت المحظور وكل جدران الخوف التي أحاطت الأنظمة العربية فقد كان يخاطب شعوبَها، فرسم ساخرا من جميع الأنظمة، بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك (إسرائيل) وكان يدرك أن الخطر يقترب.

وكانت ريشته مشرطا يحاول استئصال كل الأورام الخبيثة في الجسم العربي، وتميزت في تلك الفترة بالجرأة والصراحة أكثر، وأصبحت ملامسة لهموم الناس أكثر وتوجهات الشارع العربي أكثر وأكثر.

لا لكاتم الصوت؟!

قال ناجي: “حاولوا أن يجعلوني “رسام القبيلة”، مع هذا النظام ضد ذاك.. ولكن كيف أقبل و”حنظلة ” معي دائماً؟ إنه رقيب لا تتصور مدى قسوته، إنه يعلم ما بداخلي، وهو يراقب هذا الداخل كحد السكين، فإذا أردت أن أستريح لكزني، وإذا فكرت في الرفاهية وحسابات البنوك ذكرني بنفسي، بأصلي وبناسي وأهلي وشعبي..

وحين حذروه من تجاوز الخطوط الحمراء.

استفز وقال: “بلا خطوط حمر… بلا خضر… بلا(.. ) شو بدهم؟ يطخوني؟! ولك شو بتسوى هالعيشة؟! ولك لوين رايحين فينا؟!

وقرر أن يتجاوز كل الخطوط مرة تلو الأخرى، ويدخل في تجسيد المحظورات، فبدأ في استشراف مستقبله أولا..

وهكذا فقد دخل فى مواجهة جديدة مع السلطات العليا، فقد كانت هناك كاتبة قصة مصرية تدعى رشيدة مهران ولم تكن معروفة لا فى مصر ولا فى الأوساط الفلسطينية(..) وبهذا قرر تجاوز المحظور.

الرسم الذي كلف ناجي حياته

الأول يسأل الثاني: بتعرف رشيدة مهران؟ الثاني يرد: لا..!، الأول يسأله: سامع فيها ؟ الثاني يجيب: لا..! الأول يقول للثاني: ما بتعرف رشيدة مهران ولا سامع فيها وكيف صرت عضو بالأمانة العامة للكتاب الصحفيين الفلسطينيين؟ لكان مين اللي داعمك بهالمنظمة يا أخو الشليته؟

نشرت جريدة الأوبزيرفر اللندنية الشهيرة (The Observer) هذا الكاريكاتير للشهيد ناجى العلى تحت عنوان: “النكتة التي كلفت الرسام حياته” وذلك بعد اغتياله في لندن في تموز يوليو1987.

حادثة الاغتيال

في 22 يوليو 1987، أطلق شاب مجهول النار على ناجي العلي في لندن فأصابه تحت عينه اليمنى، ومكث في غيبوبة حتى وفاته في 29 أغسطس 1987.

دفن الشهيد ناجي العلي في مقبرة بروك وود الإسلامية في لندن وقبره يحمل الرقم 230190 وهو القبر الوحيد الذي لا يحمل شاهد ولكن يرتفع فوقه العلم الفلسطيني. وللإجابة على السؤال الأساسي والذي لن يموت أبدا هو.. من قتل ناجى العلى..؟!

“قاتل ناجي العلي”

يكتنف الغموض اغتيال رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، ولم تعرف الجهة التي كانت وراء الاغتيال على وجه القطع، ففي اغتياله هناك جهات مسئولة مسؤولية مباشرة، الأولى الموساد الإسرائيلي والثانية أنظمة عربية كونه رسم بعض الرسومات التي تمس القيادات آنذاك وتتهكم على المواقف العربية، والثالثة المخابرات العراقية، إلا أن ما اتفق عليه الجميع أن رأسه كان مطلوبا من كل هؤلاء وأكثر

وتردد أن قضية اغتياله انتهت بفرضية تصفية بعض الأنظمة له، بسبب انتقاده اللاذع لهم، حيث أطلق شاب مجهول النار على ناجي العلي، وبحسب ما أسفرت عنه التحقيقات البريطانية يدعى “بشار سمارة”..

وهو الاسم الحركي لبشار الذي كان منتسبا إلى منظمة التحرير الفلسطينية، ولكنه كان موظفا لدى جهاز الموساد الإسرائيلي، فاستغل فرصة خلافة مع المنظمة كي يحملها المسئولية؛ وتمت عملية التصفية برصاصة واحدة في لندن بتاريخ 22 يوليو عام 1987م، فأصابه تحت عينه اليمنى، ومكث في غيبوبة حتى وفاته في 29 أغسطس 1987، ودفن في لندن.

اختفاء المحقق

لم يستطع “شرلوك هولمز” إلى الآن حل لغز اغتيال الرسام ناجي العلي الذي سقط على رصيف شارع في لندن في عام 1987. وآثر المحقق الانجليزي الشهير أن يتوارى وراء الضباب تاركاً سيف الاتهام متراوحاً فوق رأس “الموساد” و… رؤوس عربية.

نماذج من لوحات الفنان ناجي العلي

يشير ناجي العلي في إحدى رسوماته كيف سيكون حال الفلسطينيين بعد الحكم الذاتي، فهذه إحدى أهم اللوحات التي تنبأ وقرأ ناجي العلي بما ستؤدي إليه أوضاع الفلسطينيين في استشراف منه للمستقبل، حيث قسم اللوحة إلى جزأين، في القسم الأول يقترب الفلسطيني من دخول باب مكتوب عليه الحكم الذاتي، فيما يفتح الباب في القسم الثاني من اللوحة ليتفاجأ بالمستوطنات التي جسدها الفنان بحائط مبني يغلق الباب مباشرة.

يريد العلي هنا أن يقول حتى الحكم الذاتي لن تنالوه أيها الفلسطينيون، قفوا وفكروا قبل التوقيع على أي اتفاق أو معاهدة سلام مع الصهاينة الذين لا أمن ولا أمان لهم.

وفي لوحة أخرى يوضح العلي كيف يقوم المستوطنون ببناء المستوطنات ويقتلعون الإنسان الفلسطيني من أرضه، فيما يستمر الفلسطيني في التصدي لجرائم الاحتلال الصهيوني

ويقوم بزراعة الشجر حتى وهو يُقتلع من الأرض، كناية عن الصمود الاسطوري الذي يتمتع به الفلسطيني ومدى تشبثه بأرضه، وفي لوحة أخرى يوضح كيف يتم بناء المستوطنات بمساعدة العرب والمتكرشين.

إن ما يدور اليوم من حفريات تحت المسجد الأقصى وقبة الصخرة وهدم جدار المدينة المقدسة، يجسده العلي في لوحة توضح كيف يخرج الصهيوني من قلب قبة الصخرة المشرفة بعد أن تكسرت وهو يرفع العلم الإسرائيلي، في إشارة إلى عمليات تهويد المدينة المقدسة

وعن الكفاح المسلح للشعب الفلسطيني، والعمل الفدائي، فقد جسد الشهيد ناجي العلي جندي صهيوني وهو مقتول بفعل المقاومة التي تركت بصماتها على ظهره وهي عبارة عن خطوات لأرجـل فدائي فلسطينـي مر من فـوق جثة الصهيوني المقتول، فيما يشير جندي للجثة ويشرح لزميله بأن البصمات الفلسطينية واضحة، فهم من نفذوا عملية التصفية.

وحول قضية الأسرى وما يقوم به الصهاينة من اعتقالات للمناضلين الفلسطينيين فقد جسد الفنان ناجي العلي الفلسطيني المناضل وهو ملقى في زنزانة صغيرة، ويطل عليه الجندي الصهيوني في إشارة إلى الشماتة من المقاومة وأن مصيرها سيكون مثل هذه الزنازين، فيما يحاول العصفور الذي جسده ناجي العلي ضمن لوحته، يحاول أن ينقر القضبان ليعمل فجوة يستطيع من خلالها المناضل الفلسطيني الخروج من الزنزانة، في إشارة إلى أن السجن للرجال ولن يبقى فيه المناضلون إلى الأبد، فالحرية قادمة، وهي بمثابة دعوى للجميع بأن يناضلوا ومهما ضعف الكفاح المسلح فإنه بالتأكيد سيحقق نتيجة فالفرج قادم للأسرى والمعتقلين مهما طال الزمن أو قصر. وفي لوحة أخري تجده يهز جدران المعتقل ويقول: علي وعلى أعدائي.

وفي لوحة أخرى يجسد الزنزانة وقد كتب عليها “الحرية للمعتقلين السياسيين في سجون اسرائيل والعالم العربي”

ورسم في لوحة أخرى كيف يهدي حنظلة وردة لأسير فلسطيني فتكبر شيئا فشيئا لتحطم الحائط ويستطيع المناضل تحطيم السجن والسجان والخروج للحرية.

وفي لوحة أخرى وفي معالجة لقضية اللاجئين، يجسد ناجي العلي الفلسطيني وهو يفتح قميصه ليُرى المشاهد أسماء جميع المخيمات الفلسطينية في الشتات وهي منقوشة على قميصه فيما مكتوب على صدره لا صلح لا مفاوضات لا اعتراف والتوقيع للاجئين 1948، وهي بمثابة رسالة للجميع بأن يأخذوا رأي اللاجئين في أي مباحثات مع الصهاينة، فموقفهم واضح جدا وهو إما كل فلسطين أو لا.

وفي لوحة أخرى يجسد نظرة ثاقبة لفلسطينية وهي تلبس قرطا على شكل قنبلة والشمس ساطعة مكتوب عليها “عائدون”، وفي لوحة أخرى يفتح الفلسطيني الطيب ستارة الشباك ويقول: صباح الخير يا وطني، في اشارة لكل مدن الوطن العربي التي كتبها الفنان بدءا من الشارقة وليس انتهاء بعكا ودرعا والمنامة.

فيما يوضح الفنان العلي في لوحة أخرى أن الانتفاضات ستتوالى، فقد جسد انتفاضة الضفة الغربية، حيث تقوم سيدة فلسطينية بضرب الجندي الصهيوني وطرده من المكان، فيما الأنظمة المستسلمة متواجدة على أرض الواقع ولكنها على شكل بصمات بالأرجل ما يعني موافقة الأنظمة على ما تقترفه إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني من جرائم. واعتداءات على جميع شرائح المجتمع بما فيها الأطفال والنساء.

ناجي العلي والمسيح الثائر

لم يتوان ناجي في فضح جرائم الاحتلال، مع أنه لم يفرق بين الأديان وبين المواطن الفلسطيني وآخيه من الديانات الأخرى، فكان دائما مشدوها إلى الوحدة، فظهرت المسيحية الكفاحية في رسومه بأجمل ما يمكن أن تخطه يد فنان مستلهماً ذلك الجمال من وعيه الذاتي، وهو ما يعطي تفسيراً للوحة التي اتضحت فيها فلسطينية المسيح الثائر والكنيسة المقاومة، فجسد المسيح الفلسطيني وهو ملثم بكوفية فلسطينية، فيما الكنيسة “المرأة الفلسطينية” يعلوها لفظ الجلالة وتزدان وجنتاها باسم النبي محمد “صلعم” والمسيح ابن مريم “عليه السلام” وهي تؤكد تمسكها بكل فلسطين وعدم الرضي بأي وطن بديل.

حين سؤل ناجي عن موطنه، قال: “اسمي ناجي العلي، ولدت حيث ولد المسيح بين طبريا والناصرة في قرية الشجرة بالجليل الشمالي، أخرجوني من هناك بعد 10 سنوات في عام 1948.. (..)..الخ

لذا جاء استخدم ناجي العلي لبيت لحم والمسيح في رسوماته فقد التقى ناجي في فنّه مع هذا الفهم الذي يعيد المسيحية إلى جذورها ومعناها الثوري، دلاله ضد الظلم ومن أجل الوطنية الفلسطينية وحرية الإنسان الفلسطيني “المسيحي والمسلم على حد سواء.

أراد ناجي أن يذكر أن ملاعب طفولته بين الجليل وطبريا هي ذاتها ملاعب طفولة المسيح، علاقته الطبيعية بالأرض وقربه من الناس حلّا له كثيراً من العقد التي يعاني منها من يتورطون مع الأفكار المجرّدة، وما ورود بيت لحم والمسيح في رسومات ناجي إلا لعلاقته وارتباطه بالأرض وبتحدره من قرية الشجرة المختلطة التي جمعت المسيحي والمسلم كجيران متآخين تسود بينهم المجبة والطمأنينة

ولعل ناجي هو أول من رسّخ صورة المسيح فلسطينياً بما لفنّه من طاقة إيصال جماهيرية، فقد عانق ناجي المسيح معانقة الطفل لجدّه، ومن خلال مجموعة من رسوماته ردّ المسيح إلى مسالكه الشرقية، بفهمه المسيحية باعتبارها في الأساس ثورة مشاعية، انطلقت من أرضنا، من فلسطين وتحديدا من مدينة بيت لحم إلى العالم.

ومما يدعو إلى مزيد من الإعجاب أن مسيحية ناجي العلي الأصيلة الثورية الواسعة (وهو ابن العائلة المسلمة) لم تخدشها عنصرية محيطٍ كان مسيحياً بالمعنى الطائفي في سنوات اللجوء بلبنان.

فقد تجاوز وعي ناجي العلي زمنَ الميليشيات “المسيحية” آنذاك، الفاقدة لأي صواب، والتي عرف أذاها مثل باقي اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، العنصرية اللبنانية الموصوفة (والتي مهّدت لمذابح واضطهاد ضد اللاجئين الفلسطينيين)، كل هذا لم يسلب ناجي ذرّة من صوابه السياسي والإنساني، لم ينجر إلى العنصرية والطائفية، بل حاربها بالكاريكاتير وبالسخرية وفضح بؤسها وتعالى عليها، وكشف ارتباط العنصريين بالمستغِلّين، وصنفهم ضمن المتكرشين الخنازير الذين يملئون لوحاته، متجاوزا الطائفية بتخلفها وتشددها وعنصريتها المقيتة.

ناجي العلي، كسر صورة المثقف والفنان العربي العاجز، الشبيه بالسلطات العربية التي يخدمها أو “ينتقدها”، أخذ من الثقافة جوهرها وترك قشورها، تلك القشور التي لا زال الكثيرين يتشبثون بها، سعداء بذلك.

ناجي العلي كان “راديكالياً” في التمّسك بحقوق المستضعفين والدفاع عن حقوق الناس وإنساناً لا حدود لرحابة إنسانيته. الراديكالية كما يعلمنا ناجي هي فائض حب وعطاء واستعداد للفداء ومن هنا جاءت شخصية المسيح في لوحاته الشهيرة، لوحات الحب للمسيح المعطاء المتسامح الفدائي المناضل الذي كان دوما يدا بيد بجانب أخيه المسلم في السراء والضراء

أما اليوم وقد تمرغت منطقة الشرق الأوسط برمتها في كل الرذائل التي كان يرسم ضدّها بدءا من الطغيان والتفريط والتبعية والتناحر الداخلي وإطلاق وحش العنصريات والغرائز الدموية.. وسائر مسمَّيات الهزيمة، وصولا إلى (داعش) والتطرف الديني الإرهابي وما يقدمه من أنموذج سلبي للوحشية من هدم وتدمير ووأد وقتل.

وفي حقيقة الأمر أن كل ما حرّضَنا عليه ناجي العلى من خلال لواحاته المميزة التي استشرفت مستقبلنا المأساوي صار أبعد بكثير من الحديث عن فلسطين كقضية أولى للعرب وعن ومشروع التحرّر والعدالة الاجتماعية سواء فلسطينيا أو حتى عربيا وإقليميا.

وما استخدام الرمزين (بيت لحم كرمز لمدينة المحبة والسلام بين جميع الأديان، وشخص المسيح المقاتل والمناضل العنيد ضد الصهيونية والاحتلال ومناصريه، ودعوته للسلام إلا رسالة استشراف من الشهيد ناجي العلي إلى كل من يحمل لواء الطائفية سواء “داعش” أو غيرها من المسميات التي انتشرت في السنوات الأخيرة، بأن: “ليس هكذا تورد الإبل”، بل كونوا قدرا لمواجهة الامبريالية الصهيونية والرجعية العربية ولا تكونوا أدوات تنفيذ، تقومون بما يمليه عليكم أسيادكم، فليس لكم إلا القتال بشراسة ولكن عليكم أن تعرفوا كيف ولمن توجهوا فوهات بنادقكم، فالطائفية والعنصرية سيؤديان بالتأكيد إلى تشتتكم وتشرذمكم، وتدمير بلدانكم وحرف البوصلة عن قضيتكم المركزية، القضية الفلسطينية.

إن حاجتنا اليوم إلى فن ناجي العلي، ملحة، أكثر من أي وقت سابق. ليس لأن فن ناجي العلي قرأ واقعنا مبكرا فحسب، بل لأنه أيضا يثبت راهنية ومستقبلية عجيبة حملت حلولا لما هو آت، وليس لأن مجمل الأفكار والقيم التي ينهض عليها فنّه هي من صميم هذه الحاجة؛ بل لأن قوّة الفن عنده تتيح لهذه القيم والأفكار أن تتحول إلى وعي وضمير وإرادة، وهو ما نحتاج إليه لتجاوز لماضي بما فيه من مآسي والنظر للمستقبل الواعد بدون دماء، وعدم حرف البندقية عن مسارها السليم الواضح الذي حدده ناجي العلي وهو صدر العدو وكل من يقف معه وينفذ قراراته من الرجعيين المتكرشين الذين يزحفون على بطونهم.

حماسة الكلمات وجرئه خطوط ناجي حددت العديد من التحذيرات من خلال الأفكار التي جسدتها لوحاته، ففلسطين لديه من النهر إلى البحر وكرامة الإنسان العربي ومقاومة الاستعمار أساسا جنبا إلى جنب “مسيحي ومسلم” (لا للطائفية) فكان المسيح مقاوما برفقة حنظلة، فقد حثنا على التآخي والمحبة والنضال المشترك، فالكنيسة كانت عند ناجي العلي قلعة وثكنة للمقاتلين والمسجد كان قبلة الفدائيين، ولا فرق بينهما فالعدو واحد ويجب علينا أن نعرف كيف نواجهه، فبوحدتنا وبدون طائفية فقط يمكن معرفة (المتكرش) الذي يلهث خلف العدو ويقوم بدوره في قمع المسلم والمسيحي على حد سواء.

جسد ناجي العلي أشكالا مختلفة وصيغا لا لبس فيها مؤكدا أنها ستؤدي حتما لتصفية القضية الفلسطينية فلم يترك شيئا إلا وحدد منه موقفا (الصهيونية؛ الطائفية، الاحتلال والوصاية، الاستبداد، الأنظمة المنبطحة المتخلفة، التخاذل والخنوع) بالإضافة إلى أهم محدد وهو تدمير مكوّنات الهوية العربية بمجملها، وخصوصاً مكوّنها (المسيحي- المسلم)، الذي وضعه ناجي بكل عفوية في سياقه الثوري الممتد في تاريخ منطقتنا، مُماهياً بين الفدائي والمسيح الفادي، كون مصيرهما واحد في أرض الرسالات السماوية التي انطلقت إلى العالم من بيت لحم

فناجي القومي نبذ دائما قولا وفعلا كل النعرات الطائفية، وهنا نذكر اللوحة الشهيرة التي يسأل بها المتكرش، الرجل الطيب: “أنت مسلم أو مسيحي.. سني أو شيعي.. درزي أو علوي.. قبطي أو ماروني.. روم كاثوليك أو روم أرثـــــ… ” ليقاطعه الرجل الطيب ويجيب:” أنا عربي يا جحش!! “

في فن ناجي العلي يعود المسيح من مسالك اغترابه في “الحضارة الغربية” ويرجع إلى بيته في فلسطين، إلى الأرض التي أنبتته، ومنها وإليها تعود دعوته الأُممية للنضال وتحرير الأرض والإنسان، لذا دعى مسيحيي العالم بأن يقفوا إلى جانب سيدهم المسيح الفلسطيني المضطهد فكانت رسالة قوية مفادها (كلنا مناضلون ضد العنصرية، ضد الاحتلال)

إن تصوير ناجي العلي للمسيح بالثائر يعني الشيء الكثير للمتلقي وكأن ناجي بيننا، فهو بالفعل كان يرى ما يجري حوله وفهم جيدا وحذر من الأخطار القادمة التي تُستهدف فيها مكوّنات الهوية العربية وخصوصاً المكوّن المسيحي.

ناجي العلي كان قد وضع بُعدنا العربي المسيحي في سياقه الثوري الممتد في تاريخ منطقتنا العربية، فبين الفدائي غير الأبه بما يجري حوله من “طبخات سياسية” وأجندات خارجية تعبث بالمنطقة مرجعيتها معروفة، وبين “الفادي” الفدائي الذي يتشبث بفلسطينيته وبعروبيته سواء كان مسلما أو مسيحيا

لذا أعاد ناجي العلي المسيح من غربته إلى بيته في فلسطين، إلى الأرض التي أنبتته ومنها وإليها تعود دعوته الأُممية هذه كانت بمثابة الطلقة التي لفتت أنذار العالم إلى فلسطين السليبة، التي سرقت أرضها، وهودت وما احتلال فلسطين وإقامة وطن قومي لليهود إلا طمسا للهوية الثقافية للفلسطيني المسلم والمسيحي وباقي الأديان.

ففي إحدى لوحاته جسد ناجي العلي البيت الفلسطيني في تعريف واضح كل الوضوح “بيت لحم.. البيت الفلسطيني وشارة الصليب توضح إما أن البيت لأحد المسيحيين الفلسطينيين أو أن بيت لحم هي بيت الفلسطينيين” فيما كان الجندي الصهيوني يقف بباب البيت بعد أن سلبه وصادر ما فيه، ولم يتبق على باب المنزل سوى كومة من العظام، في حين يقف قبالته وهو يضحك ذاك “المتكرش” وحال لسانه يقول: “وما سلبوه” وقد نقش ناجي على مؤخرة الخنزير رقم (242) وهو قرار مجلس الأمن الأرض مقابل السلام. الذي استخدمه كثيرا الشهيد العلي في لوحاته الشهيرة.

يأتي إعجاب المتلقي الفلسطيني لفن الكاريكاتير بشكل عام وبناجي العلي بشكل خاص، كونه علمه كيف يضحك على الوجع، ويتوحد، وكيف يجعل البسمة ضمادة تحمي الجراح من تلوث الكآبة.

وقدمت لوحات ناجي العلي فلسطين للعالم بصورتها الحقيقية كشعب مناضل متآخي مسلميه مع مسيحيه محب للحياة، للضحك، وللألوان، منحاز للقضية الفلسطينية.

ودون كلمات تُذكر، بل بالتهكم والسخرية، قدم ناجي العلي صورة للمسيح المقاتل المناضل بالصورة والضحك المر، كشخصية خامسة ترمز للفداء والظلم والمطاردة، فالسيد المسيح كان ضمن الشخوص شبه الدائمة في لوحات ناجي، إلى جانب فاطمة والرجل الطيب والمتكرش والجندي الصهيوني.

فقد جسد في إحدى لوحاته صورة الفدائي وهو يحمل الصليب يقطع نهر الأردن، وهنا إشارة من ناجي العلي إلى أن الصليب المقدس يحمل على الأكتاف تكريما للسيد المسيح، وإشارة أخرى بأن الفدائي يسير عكس التيار ففي الوقت الذي تصادر المياه الجوفية وتحول مياه نهر الأردن ليستفيد منها الصهيوني، ناجي الفكرة كي تصل للمتلقي بشكل مغاير، ويصر على أن الفدائي بملابسه العسكرية يتحدى المؤامرات ويعبر النهر حاملا الصليب، متحديا كل العقبات، فالصليب بمثابة المدفع أو “أر بي جي” الذي يقاتل به الثائر الفلسطيني.

أخذ الجانب العقائدي في نتاجات ناجي العلي دوره في مهمة خلق الوعي والتنمية السياسية لأن الوازع الديني في اعتقاده يشكل الملامسة الحقيقية لمشاعر الناس وأحاسيسهم، وهو المحرض الأساس لحركة وعيهم تجاه ما يحيق بهم من مخاطر ومؤامرات وهو ما يفسر دوماً الإشارات واللافتات الواردة في بعض رسوماته المشيرة باتجاه بيت المقدس وبيت لحم مهد المسيح، والمدن الفلسطينية المختلفة.

فرسم السيد المسيح فاردا يديه ليستقبل المحبة والسلام ومعلق في رقبته مفتاح العودة، وهنا إشارة إلى عودة اللاجئين إلى فلسطين التاريخية، ولسان حاله يقول: “بيت لحم” أي أهلا وسهلا بكم في فلسطين بمدينة المحبة والسلام.

لم يتوان ناجي في فضح جرائم الاحتلال، دون أن يفرق بين الأديان وبين المواطن الفلسطيني وآخيه من الديانات الأخرى، فكان دائما مشدوها إلى الوحدة، فظهرت المسيحية الكفاحية في رسومه بأجمل ما يمكن أن تخطه يد فنان مستلهماً ذلك الجمال من وعيه الذاتي، فوردت مدينة بيت لحم كباقي المدن الفلسطينية إن لم يكن أكثر في لوحات ناجي، كونه ابن قرية الشجرة التي كان يعيش فيها المسيحي إلى جانب المسلم، وهو ما يعطي تفسيراً للوحة التي اتضحت فيها فلسطينية المسيح الثائر والكنيسة المقاومة، فجسد المسيح الفلسطيني وهو ملثم بكوفية فلسطينية، فيما الكنيسة “المرأة الفلسطينية” يعلوها لفظ الجلالة وتزدان وجنتاها باسم النبي محمد “صلعم” والمسيح ابن مريم “عليه السلام” وهي تؤكد تمسكها بكل فلسطين وعدم الرضي بأي وطن بديل.

وجسد المرأة الفلسطينية “فاطمة” وهي معلقة على الصليب من ضفريها بالأسلاك الشائكة

فيما يظهر الهلال في سواد اللوحة ليقول: لا بد لليل أن ينجلى..

فالمرأة سواء المسلمة أم المسيحية فهي الأم والأخت والزوجة المناضلة التي تتقدم الصفوف دوما، ولا تخشى أو تهاب أحدا، فرسمها مصلوبة على صليب منقوش عليه “الناصرة” وهنا أراد ناجي أن يذكر بمدينة الناصرة أولا، وثانيا فهي صفة للمرأة الطيبة “فاطمة”، فيما هي ترتدي الزى الفلسطيني”الثوب المطرز” ومعلق في عنقها الصليب، فيما حنظلة يحتضنها وهي رسالة ناجي “للمتلقي” بأننا جميعا نكن كل المحبة والاحترام لهذه السيدة التي تضحي من أجلنا، فهي منجبة الرجال، وهي الصادقة الصابرة المثابرة دوما، التي تفتدي شبابها وتتقدم للتضحية، هي المرأة المسيحية، والمرأة المسلمة على حد سواء.

كذلك جسد ناجي العلي المسيح الفلسطيني المصلوب وهو يركل بقدمه المتحررة من مسمار الصليب الجندي الإسرائيلي مذكراً بدور اليهود في صلب المسيح والوشاية به، أراد بذلك التعبير، توضيح عدوانية الصهاينة تجاه أصحاب الديانات الأخرى وعدم التزامهم بأي عهد أو وعد.

وفي رسومات أخرى جسد المسيح المضحي المعتز بفلسطينيته انطلاقاً من رفضه للوجود الصهيوني فوق الأرض العربية كونه تدنيساً للمقدسات الإسلامية والمسيحية وإهانة للمعتقدات الدينية للمسلمين والمسيحيين.

جعل كذلك من حنظلة “الأيقونة” طفله الشقي محرراً المسيح عن صليبه ليرجم المحتل بحجره، فيما صور أجراس الكنائس المسيحية في الأرض المحتلة رصاصات ثورية، وهي تقبع أسيرة خلف الأسلاك الشائكة، فيما جسدها كبؤرة للثورة المسلحة.

وفي لوحة أخرى فقد جسد الجندي الصهيوني الذي صادر بيت الفلسطيني، وهنا إشارة واضحة للتهويد والمصادرة وانتشار المستوطنين في بيوت الفلسطينيين التي يصادروها عنوة من أهلها، سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين، إذ يفتح نافذته التي تتكون من ضلفتين، وقد رسم على الجهة اليسرى الهلال وفي الجهة الثانية جسد الصليب، فيما يقف حنظلة يراقب المشهد كما هي عادته، ليسجل لنا استشرافا جديدا لناجي العلي، لعلنا نلحظه حتى اليوم، وهو ما يتم مصادرته من أراض وبيوت فلسطينية.

وكان ناجي حريصا كل الحرص على ربط الديانتين “الإسلامية والمسيحية” فقد بينت اللوحة كيف يهم أحد المتكرشين المسافرين إلى “أوسلو” أو “مدريد” حيث يحمل حقيبة مكتوب عليها “المؤتمر الدولي” فيما الرجل الطيب مقطوع اليدين مثبت على صليب مصنوع من إحدى خشبات قطار التسوية، مثبت بمسمارين قويين لن يدعاه يفلت بأي حال من الأحوال، أما المسافر فهو المتكرش ينتظر مرور القطار متجها إلى المؤتمر الدولي، فيما يقول الرجل الطيب: “أحد أحد.. كامل التراب الوطني الفلسطيني” وهنا كان ناجي يعي جيدا أن هذه السكة الحديدية وهذا القطار “التسوية” لن يأتي بكامل التراب الوطني الفلسطيني، فالمسيح الفلسطيني يقبع للتعذيب الوحشي كما “بلال الحبشي” وإخوته المسلمين في بداية نشر الدين الإسلامي، وهذا الموقف لن يتراجعوا عنه مهما حدث من تعذيب، حتى لو أن قطار التسوية داسهم وفرمهم أثناء عبوره، فلا عودة عن كامل التراب الوطني الفلسطيني

وفي لوحة أخرى جسد قبة الصخرة المشرفة كصحن مجوف انتزع جندي صهيوني جزأها الأعلى ووقف بداخلها رافعاً العلم الإسرائيلي، إن خوف ناجي المشروع والظاهر في عدد من لوحاته على الأماكن المقدسة وحريتها، إنما يدلل على وعيه وفهمه لطبيعة العقلية العدوانية الهادفة لاقتلاع المواطن.

اقترب ناجي من أوجاع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال الإسرائيلي وداوى جراحهم وحثهم على الصبر والأمل بفجر الحرية الآتي من غياهب السجون، فشحذ هممهم وأعطاهم بصيص أمل يحطم سلاسلهم، ويصدع جدر زنازينهم لينعموا بالحرية.

يشير ناجي العلي في إحدى رسوماته إلى بناء الجدار العنصري، حيث يقوم الجندي الإسرائيلي بعملية البناء فيما يظهر العربي المتكرش على شاشة وسط الجدار وهو يرفع شارة النصر، مما يظهر الدور العربي الخانع والمتوافق بما تقترفه إسرائيل من جريمة بناء الجدار العنصري، وهنا رسالة واضحة على تنبؤ ناجي العلي واستشراف المستقبل لما يحدث اليوم؛ فيما الأنظمة العربية لا حول لها ولا قوة، مكتوفة الأيدي حيال ما تقوم به إسرائيل من هجمة صهيونية على مصادرة الأراضي وبناء الجدار.

استشرف العلي ما يجري اليوم من مصادرة المياه وتجفيف مصادرها عن الفلسطيني، فجسد الجندي الصهيوني وهو يستحوذ على المياه “عبر الجرة”، فيما يمنعها عن امرأة فلسطينية تحاول أن تأخذ القليل من المياه، وتشير اللوحة إلى مستقبل مياه نهر الأردن التي لن يحصل الفلسطيني على حصته منها، وفي لوحة أخرى يجسد المرأة الفلسطينية الطيبة وهي تسقي الفلسطيني الجريح.

ظاهرة نادرة في الكاريكاتير السياسي

بعد استشهاد ناجي العلي نشرت مجموعة كبيرة من الأعمال النقدية والدراسات عن حياته وأعماله، لكن المؤسسات الفلسطينية “الشعبية جدا” صمتت صمت القبور، مما يعكس حقيقة أنها أضحت جثة هامدة لا تُبعث إلا للتطبيل والتزمير لـ”القائد” وإنجازاته وحكمته.

الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أكدت: “إن جريمة اغتيال الفنان ناجي العلي مبدع الكاريكاتير فضيحة للسطحية والجهل والأنانية والغوغائية.. فحين سقط ناجي العلي جسدا على الرصيف اللندني، سكت ضيقو الأفق والكتاب الخائفون المتصالحون، ثم غمغموا، ولم يدينوا أحدا، فقد كان فنانا لا يساوم، قاسيا على الذين يتقدمون الصفوف ويمشون عوجا، ولا يرضى بأقل من البياض والنصاعة والطهارة التامة للذين ينتحلون تمثيل البسطاء والفقراء والوطن”.

ناجي العلي كان أحد مهندسي المزاج الوطني، وهو أحد انتاجات الإبداع الوطني، هو ابننا وأخونا ورفيق مذابحنا وأحلامنا، وخالق حنظلة الخالد، القادر على أن يسمي هويتنا بتأتأة تضحكنا وتبكينا”.

“الثمن المحتوم لنضال ناجي هو أنه كان يدرك أنه سيدفع الثمن في لحظة ما، ومع هذا لم يكن هناك ما يدل على خوفه من دفع الثمن، بل العكس، ظل يناطح حتى الاستشهاد، كانت الشهادة مرسومة على جبينه منذ أن قرر أن يخوض معركته، معركة الشعب الفلسطيني حتى النصر أو الاستشهاد، لم يتراجع لحظة ولم ينافق لحظة ولم يفكر لحظة في حماية رأسه”.

من غير الممكن وصف إبداعات الفنان الكبير بالكلمات، لكن كل رسم خطته ريشته شكلت برنامجا وطنيا ودليل مناضل، الكثير كتب عن فنه، أما عن قتلته فلم يكتب سوى القليل. لكن صحفا أوربية وأميركية عديدة ذيلت الرسم عن “رشيدة مهران” المرفق بتعليق “الكاريكاتير الذي تسبب في قتل راسمه”، مشيرة بذلك بوضوح إلى وقوف قادة خلف جريمة الاغتيال.

الشرطة البريطانية، التي ادعت معرفة هوية مفجر طائرة البوينغ فوق لوكربي عبر قطعة إلكترونية لا تتجاوز مساحة سطحها مليمترات قليلة، يبدو أنها ميعت القضية ففر القاتل ونجا من أرسله، فشاركت بذلك مباشرة أو عن طريق غير مباشر في جريمة الاغتيال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

• دراسة ستصدر ضمن كتاب “سلطة السخرية والفن المشاغب” تحت الطبع للدكتور عاطف سلامة / باحث ومتخصص في فن الكاريكاتير- فلسطين

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.