حزب الله والإستراتيجيا الدفاعية

ليس سرًّا وقوف الولايات المتحدة الأميركية خلف الهجمة التي تتعرض لها المنطقة، وهو الأمر الذي بدأ مع انتقال ملف المنطقة من فرنسا وبريطانيا العام 1957 بعد انتهاء مفاعيل العدوان الثلاثي على مصر، حيث بدأ بالتبلور في عهد ايزنهاور ما يسمّى بمشروع كيسينجر او خطّة كيسينجر الهادفة الى اعادة تقسيم المنطقة على اسس مختلفة عن الناتج الذي حصل بموجب اتفاقية سايكس – بيكو التي قسّمت المنطقة الى كيانات سياسية بصيغتها الحالية لضمان أمان كامل ومستمر ومستدام للكيان الصهيوني الذي نشأ عام 1948، في حين أن مخطط كيسينجر جاء بسبب المواقف التي اطلقها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد ثورة الضباط الأحرار في مصر عام 1952 والتي تجاوزت في انطلاقها الواقع المصري الداخلي لتعلن مواقف واضحة من قضية فلسطين بعد مرور اربع سنوات فقط من نشوء الكيان الصهيوني، ولندخل عصرًا جديدًا هو عصر المقاومة بعد ان استطاع الإستعمار اخضاع المنطقة بنتيجة التبدلات الناشئة عن الحربين العالميتين الأولى والثانية.

النموذج الأول لثلاثية الجيش والشعب والمقاومة في عصر المقاومة العربية ما بعد نشوء الكيان الصهيوني بدأ في مصر بعد بدء العدوان الثلاثي عام 1956، حيث كنا امام تلاحم كبير تمثل في مشاركة الجيش المصري القتال مع مجموعات المقاومة الشعبية المدعومة من عموم الشعب المصري.




واذا تتبعنا مسار المواجهات منذ ما بعد تطبيق اتفاقية سايكس بيكو، لوجدنا ان الجيوش العربية لم تستطع مواجهة الهجمات الناتجة عن الغزو الخارجي لأسباب مختلفة وعانت من الهزائم المستمرة لأسباب مختلفة ايضًا لا مجال لذكرها هنا، وهي اسباب معروفة للباحثين والمهتمين ولعموم الناس ايضًا وعنوانها الأساس هو تبعية انظمة بعض هذه الدول وكونها اصلًا كيانات وظيفية ارتبطت وظيفة نشوئها بتأمين الأمان للكيان الصهيوني، في حين ان المحطات التي تشاركت فيها حركات المقاومة مع الجيوش واتّسمت باحتضان غالبية قطاعات الشعب كان ناتجها مشرّفًا وترك بصمة مضيئة في تاريخ العمل المقاوم وخصوصًا في لبنان دون تجاهل دور الحركات الفلسطينية المقاوِمة بمختلف مراحلها.

في لبنان، ودون تجاهل الدور الذي لعبته جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية الذي شكّل لسنوات رأس حربة في مواجهة الغزو الصهيوني وأخرج جيش الكيان من بيروت ومناطق متعددة من لبنان، إلّا ان تجربة المقاومة الإسلامية المنبثقة من حزب الله، وهو الحزب الذي تأسس بعد اجتياح الجيش الصهيوني للبنان عام 1982، كانت التجربة المستمرة والأكثر نجاحًا لتصل هذه الأيام حد توصيفها بالمدرسة المتكاملة في بعديها المجتمعي والعسكري.

تمايز تجربة حزب الله كان حول قدرة الحزب وضع معاييرغاية في المرونة لمواكبة المراحل والقدرات الكبيرة في استيعاب الدروس والتعلم السريع من التجارب اليومية واعادة تكييفها بما يؤمن اعلى مستويات الصلابة والقدرة على تحقيق الأهداف، وهو ما يرتبط في الحقيقة حول قدرة الحزب على بناء مجتمع مقاومة وليس مجرد بيئة حاضنة، اضافة الى قدرته على الإنفتاح على باقي قوى الشعب اللبناني حيث يمكن القول وفي ظروف مختلفة متباينة ان من يناصر الحزب هم شعب المقاومة، مع التذكير ان من دعم يمثل شريحة كبيرة من الشعب اللبناني وليس عموم الشعب اللبناني ولكن هذه الشريحة تمثل في بعدها المباشر شعب المقاومة الذي نعنيه عندما نتكلم عن ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة.

حتى 25 ايار عام 2000 يوم خروج آخر جندي صهيوني من لبنان، يجب علينا ان لا ننسى ان “اسرائيل” استطاعت بناء ما يسمى بـ”جيش لبنان الجنوبي” الذي انيط به دور حماية الحزام العازل الذي كانت “اسرائيل” تعول عليه كثيرًا، ولكنه تهاوى مع تهاوي جنودها وعملائها تحت ضربات المقاومة المتلاحقة التي استمرت 18 عامًا اعتمدت خلالها انماطًا مختلفة من القتال اوجعت جيش العدو وأجبرته على الخروج ذليلًا.

حينها كما اليوم كنا امام فئة رفضت اي شكل من اشكال المقاومة ونادت ولا تزال بمقولة “قوة لبنان في ضعفه”، وهي المقولة التي لم تُنتج إلّا الكوارث للبنان وسيادته، حيث كنا دائمًا امام سيادة منقوصة.

في العام 2006 ومع بدء العدوان الصهيوني على لبنان، كان الإنقسام حول المقاومة في أوجِه خصوصًا بعد المرحلة التحريضية على المقاومة وسوريا التي تلَت اغتيال الرئيس رفيق الحريري وظهور الموقف السعودي من المقاومة الى العلن، حيث تم اتهام المقاومة بالفئة المغامِرة وحيث اعلنت كونداليزا رايس من لبنان وبحضور رئيس الحكومة اللبنانية انذاك فؤاد السنيورة وشخصيات 14 آذار “الشرق الأوسط الجديد” الذي يتساقط هذه الأيام كمشروع هيمنة تحت ضربات المقاومة ببنيتها المختلفة سواء كانت جيوشًا او حركات مقاومة.

مع بدء الهجمة على سوريا وفشل العدوان على لبنان وفيما بعد على غزةـ اوجبت الظروف مشاركة المقاومة اللبنانية الدفاع عن سوريا في معركة استباقية تهدف لحماية لبنان، خصوصًا بعد ظهور الحركات التكفيرية الى العلن واعلانها عن مشاريعها المذهبية التي تخدم المشروع الأميركي علنًا وفي سياق واضح المسارات.

وحتى لا نطيل، من المعروف موقف قوى في لبنان كانت ولا تزال جزءًا من مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، جيّشت ولا تزال تحت عناوين السيادة ضد المقاومة في ابعاد مختلفة منها سلاح المذهبية الذي بدأ يفقد قدرته خصوصًا بعد الإنجازات الكبيرة التي حققتها المقاومة في سوريا ولبنان.

علاقة المقاومة بالجيش اللبناني بدأت تأخذ شكلها المميز في عهد الرئيس العماد اميل لحود وخصوصًا خلال عدوان تموز 2006، حيث تبلورت علاقة ضمنية تكاملية ادّت دورها في حماية لبنان، وكان للعماد ميشال عون حينها دور كبير في صياغة ثالوث الجيش والشعب والمقاومة طبعًا مع شخصيات وطنية كثيرة من مختلف الفئات.

المهم في تجربة المقاومة المزدوجة بمحاربة الكيان الصهيوني والإرهاب التكفيري هو النتائج التي وصلنا اليها بما يرتبط بحماية لبنان والمنطقة.

في الجانب المرتبط بلبنان، قاتلت المقاومة كوحدات نظامية كبيرة كان مفاجئًا فيها ظهور العتاد والآليات والسلاح المختلف بشكل فجائي في مسرح العمليات، وهو ظهور يرتبط بمحاربة الإرهاب ولا علاقة للوحدات التي شاركت فيه بمحاربة جيش الكيان الصهيوني حيث لا احد يستطيع تحديد اماكن المقاومة ولا مرابضها ولا اسلحتها ولا اي شيء يرتبط بقوتها، وهو العامل الأهم والأخطر على الكيان المذعور هذه الأيام من نتائج عمليات المقاومة وقدراتها.

الكلام عن استراتيجيا دفاعية ليس عيبًا ولكنه يصبح شبهة عندما تتم المطالبة بالتخلي عن مكامن القوة التي تملكها المقاومة ودمجها بالجيش اللبناني الذي يمكنه ان يحارب الإرهاب بكفاءة عالية اثبتتها التجارب، ولكنه للأسف لا يستطيع كجيش نظامي بعدده وعدته وتسليحه ان يواجه الجيش الصهيوني وهو أمر تتحمل مسؤوليته اميركا ودول الغرب منذ عقود حيث الحظر المستمر على تسليح الجيش وتجهيزه.

وفي حين ان تجربة محاربة الإرهاب في سوريا والعراق لم تؤدِّ الغرض منها إلّا بتكاتف الجيوش والقوات الرديفة الناشئة بسبب الحرب، سواء من خلال تجربة الحشد الشعبي العراقي او من خلال وحدات الدفاع الوطني واللجان الشعبية في سوريا، وهو الأمر المطلوب تعميمه وتنظيمه في لبنان لا العمل على إلغائه، وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد شكلت التجربة المتمثلة في نشوء وحدات الحرس الشعبي في رأس بعلبك والقاع مثالًا على الضرورة التي تحتّم العمل على الحفاظ على اي مكمن للقوة يضيف للبنان المناعة والصمود في وجه اي تحدٍ سواء كان العدو الصهيوني او التكفيري او اي شكل من اشكال الخطر.

لهذا، فإن اي بحث بالإستراتيجيا الدفاعية لا ينطلق من تعزيز مكامن القوة للبنان هو طرح مشبوه هدفه إلحاق لبنان بمشروع الغرب وتقديم خدمات مجانية للعدو الصهيوني وللإرهاب كأداة من ادوات الغرب، وحتى يحين الوقت للكلام الجدي عن الأمر فإنّ الكثير من الإستراتيجيا الدفاعية تتم ترجمته عملانيًا في الشراكة الضمنية بين الجيش والمقاومة ومن خلفهما شعب المقاومة الذي يضم الغالبية من شعب لبنان، وهو ما يدل عليه ميزان القوى المتبدل صعودًا لمصلحة مشروع المقاومة على حساب مشروع الهيمنة والتبعية.

(*) كاتب وباحث في الشؤون العسكرية.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.