مقاطع من نصوص حنظلة “إلى ناجي العلي” / المتوكل طه

 

 

المتوكل طه ( فلسطين ) السبت 7/3/2015 م …

*****

هذي مظلوميةُ حنظلةَ،

وريثِ الأشجارِ

وأسطورةِ ناصرةِ الشهداء.

ناجي الكنعانيُّ المخلوعُ

من الجنّات إلى الظمأ الدهريّ،

كأنَّ به خيطاً نبويّاً يجري

في دمه الحُرّ من الزهراء.

هو الذهبيّ المذبوحُ من الأخوة والأعداء.

وحنظلةُ العتمةَ زاحمها

بأصابعهِ الناريةِ،

فتثورُ كوابيسُ الثورة،

من نجمتهِ،

ويجَّنُّ الثوّارُ الأمراء.

ويشرب سيّدهُم كأسَ اليأسِ

وتأمرهُ “سالومي” أنْ يقطعَ رأسَ المبعوثِ،

لترقصَ حول جدائله المائيةِ،

في الأنحاء.

ويكشفُ موتُ اللاجيِء،

في لندن،

أنَّ الثورةَ من أسماء الظُلمةِ

حين تضيق على الإيحاء.

ولو أنَّ فلسطينَ تصيرُ على شكلِ الإنسانِ

لكانت حنظلةَ المصبوبَ حليباً

في الأثداء.

نحتاجكَ يا ناجي الآن،

هنا، بالضبطِ هنا،

في الأرضِ المخفوقةِ بالطَوْطَمِ

والريحِ السوداء،

وفوق شقائقها المهروسةِ،

من خطوات العسكر،

وهي تَخبُّ لقمعِ لهيبِ الحبق،

وموقدة الأحياء،

وتعتقلُ جنازاتِ الشغفِ الطائرِ

فوقَ الأكتافِ الأعلى

من غيم العلياء.

نحتاجك لتَضمَّ الدوريَّ الزائغ

من دولاب الضّديّن،

الكارِهِ نايَ الرعيان

ونرجسَ شهوتنا البيضاء.

نحتاجك لترى كيف تحوّلت الكلماتُ

من الجوريّ إلى التبريرِ،

وكيف قَبِلنا أن تُصبح هذي الأرملةُ العصماءُ

فلسطينُ مُجَزّأةً؛

هذي دولتُنَا القادمةُ،

إذا شاءَ العاَلمُ !

– والعالمُ سيّدةٌ عمياء-

وتلك لهم من رأس الثلجِ إلى القدمِ الرمليّة!

مَنْ يقبلُ هذي القسمةَ

غيرُ التجّارِ

وبعضُ أحبّتنا الشعراء؟

يا ناجي !

اللحظةُ كالنار المجنونةِ

تأكل قُدسَ الله وعكا

وبُراقَ المعراجِ

وموجةَ يافا والعذراءَ،

ونخلَتها الباقيةَ

وليمونةَ غزةَ،

وقناديلَ العنب المنحورِ،

ورمّانَ السّهلِ الثاكلِ،

واللوزاتِ على التلّ المحروقِ،

وبيّاراتِ الزعترِ والحنّاء.

ورضينا يا ناجي أن ننجوَ بالذلّ،

وأن نرفعَ رمزين على الشبرِ الممنوحِ،

فضاق بمَنْ فيه،

وحُوصرنا قلباً وثياباً،

وصرخنا من  زنزانةِ هذا الصُّلح الوهميّ،

فمَنْ أدخلنا في السّرِ المفضوحِ،

ومَنْ أطبق فوق الشفتين الخَرَسَ،

ومَنْ أعطى الشرعيةَ للأشباحِ الدمويةِ؟

الجاني يا ناجي الأهلُ،

وأعمامُ الصمتِ،

ودُنيا القَتْلِ المأخوذةُ بالعنقاء.

فَمات الأرغولُ المسحورُ

ومات الثوبُ

وليلُ السامرِ

والسَّقّاء.

.. ويومَ العيد، وكان ربيعاً في الأرجاء،

رأيتكَ في الميدانِ تمورُ،

وساحةِ تحرير البسطاء،

رأيتُكَ ترفعُ رَسْمَ الشمسِ

وتَعْدو بالفَرَسِ الشقراء.

***

هذي غزلانُ النار البريّةِ

ترعى في قلبكَ،

فافتحْ قمصانَ التوتِ،

ولا تغلقْ أبوابَ النسيان،

وَدَعْها في الجمرِ،

لتأخذَ فُخارةَ صدرِكَ،

وتَصُبَّ على الوهجِ الزيتَ لكي

تتأجّجَ ألْسِنةُ النيرانْ.

وتمحوَ ما انحفَرَ على الكاحلِ

من قيدِ السجّانْ.

فهي اللهبُ ووديانُ الويلِ

وغيظُ تميّزهِا الفوّارُ،

وغلظتُها المسعورةُ والحَرْقُ

وَجَذْوَتُها البركانْ.

وهي الطاهرةُ الندّاهةُ

مَنْ يَعْدِلُ في الدنيا الميزان،

ومَنْ يُعلي الحقَّ

ويقضي بالَعْدل على الغيلانِ،

ومَنْ يُرجِعُ أرضَ الشِّعرِ

إلى حُلمِ النرجسِ،

ويزوّجُ أعراسَ النّهر إلى بيسانْ،

وهي النارُ / الثوراتُ

ربيعُ شعوبِ الأرضِ المقهورةِ،

والشهواتُ المذبوحةُ في الكّرز الريّان،

هي النارُ ضميرُ النوّارِ

المنعوفِ على الحيطانِ،

وما كانت تعرفُ غيرَ سجونِ الذلَِّ،

وآنَ لها الوقتُ

لينقلبَ السحرُ على الساحرِ،

أو يُأكلَ ما يرمي الفرعونُ

إلى الثعبانْ.

يا مُهْرَ الَبْرقِ المغدورِ

ثلاثاً من إخوتِكَ،

تنزّلتِ الأياتُ على شاهدِكَ،

ولم يتبقَ سوى أنْ نعترفَ

بألواحِ الوحي النازل، ثانيةً،

ونقولُ: لنا الآيةُ والعُنوان.

وسيبدأُ عصرُ مساواةِ الناسِ،

فلا عَبْدٌ في سوقِ نخاستهِ

كي يرعى نُوقَ أبي سفيانَ،

ولا ساداتٌ في الخيماتِ لتفعلَ،

ما شاءَ أنو شروانْ.

فَهُنا، بالضبطِ هنا، والآنْ،

الثورةُ خمساً في الآذانْ.

***  

وإنْ قُمْتَ من شارعٍ للرصاصِ،

فقد كَتَبَتْ آخرُ القطراتِ

الطريقَ إلى الدار، هذا الذي

سوف يبقى لمن طلعوا من زوايا الأناء

أو الزّنكِ، وامتشقوا الداليات،

إلى النارِ. هذا هو الرَّسْمُ

فابعثْهُ من أسود الصفحات إلى

أخضر الغارِ. واجعل لحنظلةَ

المستحيلِ الخطوطَ التي لا ترى غير

أرض فلسطين، من بحرها اليافوي إلى

نَهْرها المُسْتثارِ، فقد سرقوها ولكنَّ

ألوانكَ الواضحاتِ تعيد لنا، الآن، كل

البلادِ بأغنيةٍ في الفضاءْ.

رسوماتُك البندقيةُ والحقلُ والثوبُ

والمنجل المحتفي بالسنابل والإغنيات،

وهذي الصحائف من روح جرحك

تمضي إلى وشْمها في الخلود،

وحِبْركَ هذا الذي شفّ،

كالخنجر المستنير هو اسمُ البلادِ

الجديد، ورسْمك في عتمة الغافلين

المَضاء.

وإنْ أطلقوا النار في صدرك المستريح،

فإنَّهُمُ قد أصابوا فلسطينَ في القلب !

لا حزنَ .. لا دمعَ .. لا شاهداً

لا عزاء..

ويا أيها الأنبياء الذين تواروا عن السَّمْعِ

عودوا إلى واجهات البراكين، لا حرف، لا

لونَ لا صوت يبقى إذا لم يكن قد

تسربل بالصلوات التي سجدت للدماءْ،

ولا صورة للحياة التي سوف تمشي على

هَدْي عودتنا للبيوتِ

إذا لم تَفِضْ دفقَةُ الشهداء، وما

خُطبةٌ في الجموع لها وَزْن ريشتها

حين لا تنحني للمآذن شامخةً

في السماءِ. هنا القدس يا حنظلاتُ

التصاوير ! عودوا وهبّوا

فقد حقّت اليوم فينا قيامتكم كاملةً

دون موتٍ، وقد آن أنْ تبزغَ الشمسُ

ساطعةً من أصابعكم للخليقةِ

من صبحها للمساءْ.

***

هنا شجرٌ راقصٌ في الطريقِ،

وشمسٌ على حائطٍ في المساء.

هنا شغفٌ في العقودِ التي ارتفعت

في معاريجِ نجمتها ،كي تنامَ على

أفُق  للبهاء.

هنا زفَّةُ الهادلاتِ على سروةِ العيد،

دربُ النشيد،

وأحداقُ زنبقَةِ الأنبياء.

هنا لا أرى دارَ مَن نَهَبَ الدار،

أو سُورَهُ في المهاوي،

وقَلعَتَهُ في الخَواء.

هنا بيتُ عمّي وخالي،

صخورُ الرّعودِ، ونرجسَةُ الدفتَرِ الطّفلِ،

بئْرُ شقيقي،

وعتْمَتُهُ في الخلاء.

هنا يبدأُ الصوتُ حتى الفناءَ،

ويبقى، إلى أن يعودَ، النّداء.

***

ولم يكتشفْ يُتْمَه حينما كنتُ ألتاعُ في العيدِ،

لم يَفْرُك الزَّهرَ في حضرةِ الصّمتِ،

هذا حَمامي الأليفُ،

الذي حَلِمَتْ في جَناحَيْهِ لَيمونةُ الدارِ ..

قالت له أُمُّهُ : قد وُلِدْتَ مع المَغْرِبِ الساحليَّ

في شَهرِ إعصار،

كان المحاربُ  في أوَّلِ النَّحْرِ،

والدمعُ في أوّلِ الجَمْرِ

والدّمُ في مَوْقِدِ الانتظار.

وقد جاءَ يَحْلُمُ، بالسِّجنِ واللّونِ،

مثلَ أبيهِ الذي قَدَّ عُمْراً طويلاً،

وراءَ العَقاربِ حتى يرى في الليالي النهار.

وما زال يَحُلُمُ عَكْسَ أبيهِ المُعَفَّرِ بالقَهْرِ،

كي يَشْهَدَ الشمسَ في بَهْجَةِ الإنتصار.

وأَسْأَلُه: كيفَ عشقُكَ؟

يضحكُ ثم يقولُ:

إذا مسّني ريحُها هبَّتَ النارُ في النارِ!

يا صاحبي! إنها امرأةٌ من دموع الصلاةِ

وبرقِ القلوب ونار المجرّاتِ …

هذي، إذاً،  ليست امرأةً

إنها كلُ هذي الحياة!

لهذا، أخافُ من الموت أن

يستريح طويلاً على برزخ الظلمات،

وألاّ أراها هناك على قمّة الغيمِ

تمشي وتتبعها في الجنان عيوني،

وأندهُهَا، بعد عُمرٍ طويلٍ: لماذا تأخَرتِ

أين ذهبتِ، فتأتي ..

كأنْ لم تغب ساعةً في السُّبات.

***

وإنْ نِمْتُ يُشْعِلُ أجراسَهُ في الكؤوسِ،

ويُعْشي عُيوني دُخَاناً أليماً،

فأصحو على دَمْعَتيْنِ،

يشيحُ بِمُخْضَلِّ جفنيهِ عنّي،

ويندسُّ في الصُّوفِ،

أصحو أنا كي أرى طَيْفَ مَنْ جاءَهُ في المنَامِ،

فألقى ملاكاً جريحاً،

يُغَسِّلُ قُمْصَانَهُ في مآقيهِ،

يَعْدو إلى بَيْتهِ خَالِصَ الثّلجِ،

ألقى رفوفَ العصافيرِ،

وهي تُدَرِّجُ أبناءَها فوقَ جبهَتهِ،

أو أرى دمعَ مِنْديلِ أُمّي على فَمِهِ،

مُطْبقِاً كالغَمام.

فأُوقِظُهُ مِن جَديدٍ،

فَيشْتمُني دُونَ سُوءٍ،

وَيأْمُرنُي أنْ أنامَ،

وَيَستَأنِفُ القَوْلَ بالسُّخْطِ،

ثم يقولُ: أنا مثلُ مَنْ ماتَ باللَّحْظِ ،

لكنني أَقْرَبُ الآنَ مِن صدر قاتلتي..

سوف أودِعُها الطيرَ

حتى يكون له برجُه في الرخام.

***

في فمي دَمُهُ،

بَلَّ حَلْقِي بفِضَّةِ أقمارِهِ الظامئاتِ،

وَأوْرَثني ما يُؤَثِّثُ هذا المدى بالنّشِيجِ

ولَمْعَةِ جُثَّتِهِ في القَتامِ،

فكيف أرى ما يُمَزّق عينيهِ،

في مَشْهَدِ الانكسار العنيفِ،

وما بدّدَ الصوتَ في صَرْخَةٍ للكَلام؟

وإنْ جاءَ بَيْتي،

سَيَحْمِلُ شُعْلتَهُ للشموعِ،

ويفتحُ نافذةً في الجدارِ، لأَنظرَ مِنها؛

أرى مُدُناً قَطعوا رأسَها في جَنازَةِ أبنائِها،

شَعْبَهُ في هيولى الدّماءِ،

نياشينَ مَنْ باعَ أرْضاً بِوَهْمٍ،

وَشُرَّدَ في كلِ فجٍّ عميقٍ،

.. وَلي أنْ أرى لَيْلَةَ العيدِ،

أو رايةً في الظَلام.

***

ويعجبني أنّه كُلّما مرَّ قُرْبَ الزبرجد

قال: أُحبُ خُواني الذي يطفح الزيتُ فيه

على الجَنَباتِ، لأُكمل قصّتنا السالفة !

(وكانت ملامحة خائفة !)

ثم يمضي إلى رُشْده قائلاً:

وغداً سوف نفردها، عند عودتنا!

(ثمّ تبرق في عينه دمعةٌ ناشفة!)

ثم يمضي إلى رشده سائلاً:

هل نعودُ إلى أرضِ أحلامنا الخاطفة ؟

(وتغلِبُه العاطفة!)

نعم سنعودُ، غداً سنعودُ ..

وكررّها، مثل طفل سيحفظ آياتِهِ

أو أناشيدَ أَمَّتِهِ الوارفة ..

هذا صديقي الذي مَضَّهُ الحِبْرُ

لم يبرح اللعبة النازفة

نام ..

ما نام، سافرَ في الحلمِ ..

قبَّل  كاساتهِ في السرير

فَصَاحت مناديلُها الذارفة

***

صلّى على دمِكِ الورديَ نوّارُ

أمّ غيَّرَتْ طَبْعَها في حبِّكَ النارُ؟

أم البلادُ، وهل أبقوا لنا بلداً

وكلّهم في مزادِ البَيْعِ ثوّارُ؟

أم الشّهيدُ وقدَ ضاقت شواهدُه

فأكملَ الليلَ بعد الموتِ سُمّارُ !

أم البنادقُ والغيماتُ قادحةٌ ..

فكيف تَعْطَشُ في الأمطار أمطارُ

أم الأغاني إذا هاجت وحنَّ لها

من المنافي غريبٌ همُّه الدارُ

وكان قد جعل الحيطانَ تذكرةً

لبلدةٍ.. غابَ عن جيرانها الجارُ

وعلّق الصورةَ الأغلى، وكم شهدت

لصاحب الوجه بلداتٌ وإيثارُ

ولا عزاء سوى أن النهار إذا

تنفّسَ الفجرُ فالإصباحُ قيثارُ

***

أَرَدْتَ أن يستفيقَ النائمون فلا

ظلّوا نياماً ولا قاموا ولا داروا

كأنّهم في كهوف الصمتِ قد رُكِنوا

وأُسْدِلت حولَهم في البُعْدِ أستارُ

فكنتَ وَحْدكَ في عشواء غافلةٍ

في خبْطِ ضوضائهم والوَهْمُ ديّارُ

أنتَ الضميرُ الذي اغتالوه فارتبكت

على فمِ الذُّلّ أشباحٌ وأخبارُ

فارجِعْ إلينا صراخَ القهر ثانيةً

وافتح قميصَكَ فالتاريخُ دوّارُ

سيقتلونك رَسْماً حارقاً ويداً

واسْماً وحِبراً، وفي الأبوابِ أشرارُ

***

أَدَرْتَ وجْهَك يا ناجي وما انتبَهت

أُنثى الثعالبِ أنَّ الظَهْرَ إظْهارُ

وأنَّ بنطالَكَ المرتوقَ قد عرفت

خيوطُه الطُهْرَ فالماضون أطْهارُ

وشوكُ رأسكِ هالاتُ النجوم إذا

كانت، فوجهُكَ في الّليلاتِ أنوارُ

وأنتَ والشهداء الخالدون ومَنْ

ظلّوا على الدرب .. للمبعوثِ أنصارُ

وأنتَ والقابعون الثائرون على

قيْدِ السجون بوجه الريحِ صُبّارُ

وأنتَ والمُثخَنون الصابرون إلى

أن يبرأ الجرحُ، للأقواس أزهارُ

وأنتَ والناسُ في كل البلاد هنا

وفي المنافي إلى الآتين أقْدارُ

سترجعون إلى حنّاء زفَّتِنا

وموجُ عودتنا للدارِ هدّارُ

***

قد كذَّبُوهُ وأصنامُ القَبائلِ في

ساحِ البيوتِ وحَرْفُ القومِ إنكارُ

وصالحوا الأشرمَ الغازي إذا قصدت

أفيالُه الهدمَ، والخوّان خوّارُ

وقدّموا لِفَقيهِ الظُلْمِ طاعتَهم

لأنّه الليلُ للعميانِ أعْذارُ

وطأطأوا قامةَ الخُسرانِ إذ  نطقتْ

مرآةُ كسرى كأنَّ النُطْقَ أمّارُ

خانوا الدماءَ، وضاعَ الأمرُ من يِدِهم

فَخَابَ مَنْ خَانَ، فَلْيَهْنَأ به العارُ

ألقوا الأماناتِ أو باعوا مذاهبَها

وغادروا عَهْدَ مَنْ يعلو به الغارُ

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.