الليبرالية الدينية في مواجهة السياسات الدينية المحافظة
إبراهيم غرايبة ( الأردن ) الأحد 27/8/2017 م …
تفتح التحولات الليبرالية في فهم الدين وتطبيقه التي تجري في تونس اليوم المجال للتساؤل لماذا هزم الخطاب الديني الليبرالي في الدول والمجتمعات العربية المعاصرة برغم إمكانية هذا الخطاب لاستيعاب حالة التدين القائمة باتجاهات تحمي من التطرف والكراهية؟ العكس فإن هذا الخطاب تعرض لإقصاء رسمي ومواجهة شرسة، ولا بأس في تكرار القول إن التصدي لاتجاهات الاعتدال والتنوير الديني كانت سياسات رسمية منظمة للسلطات السياسية ولم تفعل ذلك فقط الجماعات الدينية السلفية والسياسية. لماذا هيمن الخطاب الديني المحافظ؟
يرتبط الدين بالجدل حول هوية الأمة وتنشئ كل رؤية تفسيراً للدين يؤيدها، ثم تتعدد مناهج تفسير النص الديني، مثل الجدل بين المجاز والحرفية، واستخدام المنطق في الفهم أو عدم استخدامه، ففي النزعة الليبرالية إلى أولوية الضمير الفردي يفسر الدين على أنه شأن خاص وليس عاماً، وتكرس الأفكار التنويرية والتسامح الديني، وفي المقابل فإن التفسيرات الأصولية والمحافظة تميل إلى أن الصواب واحد، وتكون الآراء والتفسيرات الأخرى خطأ وخروجاً على الدين، ويمتد ذلك بطبيعة الحال إلى الجدل على تعريف الأمة.
انتصر النموذج المحافظ في فهم الدين وتطبيقه لأسباب عدة، أهمها غلبة الاتجاه السياسي المحافظ في الدول العربية، فالأفكار السائدة تعبر عن الطبقة السائدة، ولم يكن هذا الفهم المحافظ للدين بكل تطبيقاته الدولتية والجماعاتية والعنفية إلا منتجاً لمؤسسات الدولة المحافظة التعليمية والإرشادية، ونضحك على أنفسنا إذا تجاهلنا هذا السر المعلن! ويضاف إلى ذلك أن الفهم المحافظ للدين يلائم كثيراً محاولات واتجاهات استعادة الهوية والثقافة الوطنية والمحافظة على التراث الوطني والقومي، فالدين هو المكون الأساسي للمشروع الحضاري، وثالثاً في الأهمية جاء صعود التدين في العالم، ولكن كان من الممكن جداً أن يمضي هذا التدين في اتجاهات عدة، ليبرالي وعصري وعقلاني ويساري ومحافظ.
ومن اللافت كما يلاحظ سامي زبيدة، أستاذ علم الاجتماع في جامعة لندن (كتاب الشريعة والسلطة في العالم الإسلامي) أن قضاة القرون الوسطى كانوا أكثر تساهلاً في تطبيق العقوبات وأكثر تسامحاً من المحاكم الإسلامية الحديثة، وهذا الأمر يجعل زبيدة يتمسك بمقولة أن عمليات الدعوة إلى تطبيق الشريعة أو تطبيقها بالفعل هي تعبيرات سياسية واجتماعية متعددة تعبر عن جماعات وقيادات محافظة تسعى الى استرداد السلطة أو التمسك بها، وسلطات سياسية تبحث عن الشرعية، وحركات سياسية معارضة تسعى الى إضعاف السلطات وإحراجها فتزايد تلك عليها، وحركات قومية ووطنية واستقلالية ترى في الشريعة مظلة لمواجهة الاستلاب والغزو والاحتلال وإطاراً للاستقلال وبناء المشروع الحضاري الخاص بالأمة.
ويفسر سكوت هيبارد، أستاذ العلوم السياسية في جامعة دي بول بولاية إلينوي والجامعة الأميركية في القاهرة (كتاب السياسة الدينية والدول العلمانية، مصر والهند والولايات المتحدة) صعود السياسات الدينية المحافظة أن الدين يكرس النمط القائم في العلاقات القومية في الدولة الحديثة، ويوفر الدين أيضاً إطار عمل معيارياً وبالتالي يوفر معنى للسياسة الحديثة من خلال إرشاد الأيديولوجيات الطائفية أو الوطنية، ويحفز القبول الشعبي، ويعتبر الدين قادراً على توفير الإطار الفكري لأيديولوجية الاتحاد في الدولة، وتوفر الأيديولوجية قاعدة فكرية وغالباً انفعالية للسلطة أو للمطالبة بالسلطة، وهكذا تغيّر الأيديولوجيا علاقة السلطة بين الحاكم والمحكوم إلى نظام كامل متناغم من الحقوق والواجبات المقبولة، ومن دون هذا الدعم تكون الدولة آلة للإجبار والقسر، هكذا يتحول الإكراه والاستبداد إلى مطلب ديني يمكن تزيينه للناس.
التعليقات مغلقة.