الاتحاد السوفييتي في سنوات ستالين الأخيرة – الذكرى المئوية لثورة أكتوبر / د. ماهر الشريف

    د. ماهر الشريف ( الإثنين ) 4/9/2017 م …




    الاتحاد السوفييتي في سنوات ستالين الأخيرة

خرج الاتحاد السوفييتي من الحرب العالمية الثانية منتصراً ومدمراً في آن معاً. فمن جهة، كان وضعه الجيو-سياسي جيداً إذ كان الجيش الأحمر، الذي قدم المساهمة الرئيسية في انتصار الحلفاء على ألمانيا النازية ، يحتل ثلث أراضي أوروبا خارج حدود بلاده، وكانت هيبة الاتحاد السوفييتي كبيرة، إذ أظهرت شعوبه أمام العالم، من خلال مقاومتها البطولية، حقدها على النازية ووطنيتها بل وحتى وفاءها للنظام الشيوعي.

وبينما كانت ألمانيا مسحوقة، وإيطاليا مهزومة، وبريطانيا وفرنسا ضعيفتين، واقتصاد أوروبا منهار، كانت الأحزاب الشيوعية، التي أنعشها الانتصار السوفييتي، في ذروة نفوذها. ومن جهة أخرى، كان الاتحاد السوفييتي ينزف بشدة نتيجة خسائره البشرية والمادية الهائلة، وتراجع ناتجه الوطني الإجمالي إلى ثلث ما كان عليه قبل الحرب، وكانت مناطقه الغربية المتطورة، كأوكرانيا وروسيا البيضاء، هي التي أصابها الدمار الأكبر خلال الحرب. أما الدولة التي خرجت من الحرب أكثر قوة، فكانت الولايات المتحدة الأميركية التي ضاعفت إنتاجها الصناعي، وكانت تحوز وحدها 45 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي. وكان حضورها قوياً في أوروبا على الصعد العسكرية والاقتصادية والسياسية، وتحتكر السلاح النووي، وتشكّل تالياً على المستوى الأوروبي المنافس الوحيد للاتحاد السوفييتي.

الأوضاع الاقتصادية في الاتحاد السوفييتي بعد الحرب

كانت مهمة إعادة بناء ما دمرته الحرب على رأس جدول أعمال قيادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، التي برز في داخلها اتجاهان بشأن النهج الذي ينبغي انتهاجه لتحقيق هذه المهمة: الأول، دعا إلى اتّباع سياسة اقتصادية تحافظ على التنازلات التي قدمتها الدولة خلال سنوات الحرب، وخصوصاً إلى الفلاحين، والسير على طريق تنمية متوازنة تساعد على تطوّر صناعة المواد الاستهلاكية؛ بينما دعا الثاني إلى اتبّاع الطرائق نفسها التي كانت متبعة قبل اندلاع الحرب، أي سيطرة الدولة الكاملة على الاقتصاد، والتخطيط المركزي ومنح الأولوية للصناعة الثقيلة. وكان يقبع في خلفية الخلاف بين هذين الاتجاهين تقديران متباينان لآفاق تطوّر الوضع الدولي: ففي حين قدّر أنصار الاتجاه الأول أن العالم الغربي، المنقسم على نفسه بين”إمبرياليات” عديدة، ويواجه أزمة اقتصادية وسياسية كبيرة لن يكون قادراً على التوحد في مواجهة الاتحاد السوفييتي وتهديده؛ قدّر أنصار الاتجاه الثاني أنه ستتشكّل، بعد الحرب، جبهة غربية موحدة في مواجهة الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي يفرض على هذا الأخير أن يعمل بسرعة من أجل إعادة بناء قوته العسكرية-الصناعية. ومنذ خريف سنة 1946، بدا أن الغلبة كانت من نصيب الاتجاه الثاني، داخل قيادة الحزب، الذي حظي بدعم ستالين.

وعليه، أكدت الخطة الخمسية الرابعة ما بين عامَي 1946 و 1950 أهمية الصناعة الثقيلة التي استحوذت على 85 في المئة من الاستثمارات، وركزت على إنتاج الكهرباء، والحديد، والفولاذ، والاسمنت، والخشب، والآلات الزراعية، والتصنيع العسكري، وخصوصاً في المجالين النووي والفضائي. وأدى تسريح أكثر من عشرة ملايين فرد من أفراد الجيش الأحمر إلى زيادة حجم اليد العاملة. بيد أن الخطة الخمسية الرابعة، لم تكتفِ بإعادة البناء، بل سعت إلى زيادة حجم الصناعة الثقيلة ومستوى إنتاجيتها؛ ولوحظ ارتفاع في مستوى حياة السكان في المدن، وإعادة توزيع للدخل لصالح الفئات الاجتماعية الفقيرة. وساعد على تنفيذ تلك الخطة التعويضات التي حصل عليها الاتحاد السوفييتي من ألمانيا وحلفائها في الحرب، التي اتخذت أحياناً شكل مصانع كاملة تمّ تفكيكها ثم إعادة تركيبها في الاتحاد السوفييتي.

وبتعبئة موارده، نجح الاتحاد السوفييتي في إطار الخطة الخمسية الرابعة بتحقيق معدلات نمو مرتفعة نسبياً. كما نجح في الوصول بسرعة إلى توازن مع الولايات المتحدة الأميركية في المجال النووي، فأجرى أول تجربة لقنبلة نووية في سنة 1949 ولقنبلة هيدروجينية في سنة 1954. ولم تختلف الخطة الخمسية الخامسة ما بين 1951 و 1955 عن سابقتها، إذ حققت بدورها نجاحات كبيرة في قطاعات معقدة مثل التسلح، والفضاء، والطاقة النووية، وفي مشاريع كبرى مثل قناة فولغا-دون. بيد أن متطلبات إعادة البناء الهائلة فرضت على العمال شروطاً قاسية لزيادة إنتاجية عملهم، وأخضعتهم لنظام انضباط حديدي، وهو ما كان يخلق حركات احتجاج بين صفوفهم وحتى داخل منظمات الحزب الشيوعي.

أما الزراعة فقد بقيت متعثرة وصعبة التسيير، وتعاني من موجات جفاف شديدة كانت تتسبب بمجاعات قاتلة. فبعد أن كانت الحرب قد أدّت إلى تخفيف حدة القواعد الصارمة المتبعة في الكولخوزات (المزارع التعاونية) وسمحت لأعضائها بالعودة إلى الاستثمار الفردي، أو بزيادة مساحة الأراضي الواقعة تحت تصرفهم على حساب الأراضي الجماعية، استعادت السلطات السوفيتية، بعد انتهاء الحرب، الأراضي التي صار الفلاحون يتصرفون بها خلال سنوات الحرب وأعادت فرض قواعد الانضباط الصارم عليهم، وأفقدهم الإصلاح النقدي الذي أقر في سنة 1946 الفوائد الشخصية التي جنوها في تلك الفترة. ففي 1 أيلول 1947، تم نزع نحو 5600000 هيكتار من اسثمارات الفلاحين الفردية، وإعادتها إلى الملكية الجماعية، ثم اتخذ المكتب السياسي للحزب الشيوعي قراراً بتوسيع مساحات الكولخوزات، ونجحت السلطات في تجميع نحو 250000 استثمار كولخوزي في أقل من 100000 استثمار كولخوزي. ثم أطلق نيكيتا خروتشوف، الذي أصبح مسؤولاً عن الزراعة في قيادة الحزب، مشروعاً لجمع الفلاحين في مدن زراعية تنهي التمييز بين المدينة والريف وبين العامل والفلاح ، تبين سريعاً أنه مشروع غير واقعي وتمّ انتقاده والتخلي عنه. وعلى الرغم من جميع الجهود الحزبية والحكومية التي بذلت لتطوير الإنتاج الزراعي، فإن نقص هذا الإنتاج بقي نقطة ضعف رئيسية في الاقتصاد السوفييتي، كما اعترف بذلك خروتشوف نفسه بعد وفاة ستالين.

    الأوضاع الإدارية والسياسية

عندما غزت قوات ألمانيا النازية أراضيه، فقد الاتحاد السوفييتي خمس جمهوريات اتحادية من جمهورياته هي ليتوانيا، ولاتفيا، وأستونيا، ومولدافيا وجمهورية كاريلو-الفنلندية. ومع استعادة الجيش الأحمر زمام المبادرة وتقدمه نحو الغرب، راحت الحكومة السوفيتية تستعيد السيطرة على هذه الجمهوريات وبات الاتحاد يضم، عند نهاية الحرب، 16 جمهورية اتحادية، قبل أن يتقرر إعادة جمهورية كاريلو-الفنلندية إلى وضعها السابق بصفتها جمهورية حكم ذاتي في إطار جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفيتية. وفي الوقت نفسه، اتخذت الحكومة السوفيتية، بعد الحرب، قراراً بتفكيك خمس جمهوريات من جمهوريات الحكم الذاتي هي: جمهورية ألمان الفولغا ذات الحكم الذاتي، وأربع جمهوريات في منطقة القرم، في شمال القوقاز، وفي المناطق المجاورة، وذلك بحجة أن سكانها تعاطفوا مع المحتلين الألمان أو تعاونوا معهم.

أما على الصعيد السياسي، فقد كان ستالين يقرر كل شيء، إذ لم تجتمع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي سوى مرة واحدة خلال سنوات الحرب، ثم صارت تجتمع بصورة نادرة حتى سنة 1951، بينما لم ينعقد مؤتمر الحزب قبل سنة 1952. وفي آذار 1946، أدخلت تغييرات على تركيبة المكتب السياسي وسكرتارية اللجنة المركزية. وبرز أندريا جدانوف، الذي كان قائد الحزب في لينينغراد خلال حصارها من قبل القوات الألمانية الغازية، بصفته الساعد الأيمن لستالين منذ سنة 1946 حتى وفاته في آب 1948. وفتح موت جدانوف أبواب الخلافة على مصراعيها، إذ كان ستالين يحيط نفسه بقادة كبار في السن مثل فاتيسلاف مولوتوف، والماريشال كليمنت فوروشيلوف، ولازار كاغانوفيتش، وأنستاس ميكويان، ومن قادة أكثر شباباً مثل لافرينتي بيريا، ونيكيتا خروتشوف، وجورجي مالينكوف، وهذا الأخير كانت تزداد أهميته ويظهر وكأنه الخليفة الأكثر احتمالاً لستالين.

وكان ستالين وقيادة الحزب الشيوعي قد توجها، بعد الانفتاح النسبي خلال سنوات الحرب، نحو العودة إلى النظام السياسي الذي كان سائداً في الثلاثينيات. فتقرر، بعد استعادة السيطرة على دول البلطيق، وأوكرانيا وبولونيا الشرقية ومولدافيا في سنة 1945، ترحيل عدد كبير من سكان هذه المناطق إلى معسكرات العمل بتهمة التعاون مع الألمان، علاوة على أعداد كبيرة من الجنود السوفييت الذين اتهموا بالتخاذل خلال المعارك، ومئات الآلاف من سجناء الحرب الألمان واليابانيين الذين لم يفرج عنهم سوى في منتصف الخمسينيات. كما انطلقت في سنة 1948-1949 موجة واسعة من الاعتقالات. وتجلت ظاهرة عبادة الشخصية بأسطع صورها لدى الاحتفال بالعيد السبعيني لجوزيف ستالين، في 21 كانون الأول 1949. بيد أن حملات التطهير الكبرى التي شهدتها فترة ما قبل الحرب لم تتكرر، وهو ما دل على استقرار حقيقي للنظام. وفي سنة 1946، تحولت مفوضيات الشعب إلى وزارات وجرى تقليص عددها.

    الاتحاد السوفييتي والحرب الباردة

تمكن الاتحاد السوفييتي وحلفاؤه الغربيون، قبل القطيعة التي وقعت بينهم، من تطبيق اتفاقهم بشأن تقاسم ألمانيا وإدارتها، وتقديم الزعماء النازيين الرئيسيين لمحكمة نورمبرغ الدولية في سنة 1946. وفي شباط 1947، وقع المنتصرون معاهدات سلام مع إيطاليا ورومانيا، وهنغاريا، وبلغاريا وفنلندا. وحصل الاتحاد السوفييتي على تعويضات مجزية عن الخسائر الفادحة التي لحقت به خلال سنوات الحرب. بيد أن التعاون بين الاتحاد السوفييتي والقوى الغربية انتهى سريعاً، إذ لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأن الرقابة الدولية على الطاقة النووية، ونشأت أزمة كبيرة، في سنة 1946، بينه وبين القوى الغربية قبل أن يقرر سحب قواته من إيران.

والواقع، أن القوى الغربية هي المسؤولة الأولى عن اندلاع الحرب الباردة وعن تشكّل الكتلتين في سنة 1947. فمنذ 5 آذار 1946، تحدث ونستون تشرتشل، الذي لم يكن يشغل في ذلك الحين منصباً رسمياً، في خطاب ألقاه في ولاية “ميسوري” الأميركية عن “الستار الحديدي” الذي أقامه الاتحاد السوفييتي في أوروبا، وأدان الخطر الذي يمثله “التوسع الشيوعي” على الديمقراطية، مؤذناً بانطلاق الحرب الإيديولوجية بين الشرق والغرب. واستُخدم تعبير “الحرب الباردة” للمرة الأولى في هيئة الأمم المتحدة في 13 آذار 1947 من جانب برنارد باروخ، مستشار الرئيس الأميركي هاري ترومان، الذي قال: “لا يتوجب أن نخدع أنفسنا، فنحن اليوم في وسط حرب باردة”. أما جورج كينان، القائم بالأعمال في السفارة الأميركية في موسكو، فقد ذكر أن الزعماء السوفييت “يخشون دوماً التغلغل الأجنبي والاتصال المباشر مع العالم الغربي”، وأن حاجتهم إلى الأمن “تتطلب التوسع اللامحدود للنفوذ السوفييتي في العالم”، داعياً إلى “كبح”  تقدم الشيوعية باللجوء إلى جميع الوسائل إلى أن تضعفها تناقضاتها الداخلية وتفضي إلى تغييرها.

وبرز التشدد الأميركي إزاء الاتحاد السوفييتي منذ كانون الثاني 1947 عندما عُيّن عسكري شهير في منصب وزير الخارجية هو الجنرال مارشال. وصارت الولايات المتحدة مقتنعة منذ ذلك الحين بضرورة انتهاج سياسة حازمة إزاء الاتحاد السوفييتي بغية كبح التمدد الشيوعي. ولتحقيق ذلك، تسلحت الولايات المتحدة باحتكارها السلاح النووي، وبقوتها المالية والاقتصادية الكبيرة، وبوكالة مخابرات فاعلة تشكلت للتو. وفي 11 آذار 1947، ألقى الرئيس هاري ترومان خطاباً أمام الكونغرس أعلن فيه أن بلاده ستوفر الحماية لكلٍ من اليونان وتركيا، فيما صار يُعرف باسم “عقيدة ترومان”، وفحواها أن العالم بات منقسماً بين نظامين متعارضين بصورة جذرية ويولدان نمطين مختلفين تماماً من الحياة؛ وأن “العالم الحر” بات في الغرب، بينما “النظام التوتاليتاري” يقبع في الشرق، وأن أمن الولايات المتحدة أصبح مهدداً وتستلزم حمايته تدخلاً أميركيا في كل مكان يتعرض لعدوان شيوعي مباشر أو غير مباشر.

وفي حزيران 1947، تم تبني “مشروع مارشال” الذي هدف إلى إحياء الاقتصادات الأوروبية بغية رفع مستوى حياة السكان والحد من انتشار عدوى الشيوعية، وإطلاق مشروع وحدة أوروبية يعاظم من القدرة على مقاومة الشيوعية في أوروبا، كما هدف إلى السعي إلى القضاء على البطالة وتوفير فرص العمل في الولايات المتحدة الأميركية لإبعاد شبح انفجار أزمة اقتصادية كتلك التي انفجرت سنة 1929. واقترح المشروع تقديم مساعدات اقتصادية لكل الدول التي تحتاجها، قدرت قيمتها بمبلغ 13 ملياراً ونصف المليار دولار تمتد على مدى 4 سنوات. وفي تموز 1947، تشكلت “المنظمة الأوروبية للتعاون الاقتصادي” التي كانت مهمتها توزيع المساعدات الأميركية على الدول المختلفة. وقد نظرت القيادة السوفيتية إلى “مشروع مارشال” باعتباره مناورة إمبريالية ترمي إلى فرض السيطرة الأميركية على الدول الأوروبية التي تتلقى المساعدات، ويؤذن بالتحضير لحرب ضد الاتحاد السوفييتي. وفي أيلول 1947، بلور أندريا جدانوف “عقيدته” التي قامت على أن العالم بات منقسماً إلى معسكرين لا تصالح بينهما: “معسكر إمبريالي، غير ديمقراطي وعدواني” تقوده الولايات المتحدة، و”معسكر مناهض للإمبريالية، ديمقراطي وسلمي”، يقوده الاتحاد السوفييتي. وتشكّل “الكومنفورم” بصفته مكتباً إعلامياً يؤمن الصلات بين الأحزاب الشيوعية المختلفة، ويضم الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية والحزبين الشيوعيين القويين في فرنسا وإيطاليا اللذين استبعدا من الحكومات الائتلافية التي كانت قائمة في بلديهما.

وبموازاة احتدام الصراع الإيديولوجي على الصعيد الدولي، بعد اندلاع الحرب الباردة، نظمت قيادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي حملة عقائدية رمت إلى تعزيز التمسك بالعقيدة الشيوعية، والتصدّي لأنصار”النزعات البرجوازية” والمتأثرين بالدعاية الغربية في الداخل، وارتبطت هذه الحملة، التي عرفت في الغرب باسم “الجدانوفية”، بأندريا جدانوف عضو المكتب السياسي للحزب. وفي إطار هذه الحملة، اتخذت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي قرارات تتعلق بالسينما، والمسرح، والأدب، والرسم والموسيقى. ففي 14 آب 1946، أدينت الشاعرة آنا أخمتوفا والكاتب ميخائيل زوشتشينكو بتهمة الابتعاد عن السياسة، وضحالة الأفكار، والنزعة التشاؤمية، وممارسة “الفن للفن” والتذيل للغرب. وأخضع الرسامون والكتاب والفنانون لمنظومة “الواقعية الاشتراكية” المتحجرة. وعلى الصعيد العلمي، طالب تروفيم ليسنكو بإزاحة جميع علماء الوراثة “البرجوازيين” من أنصار أبي علم الوراثة النمساوي غريغور يوهان مندل، داعياً إلى تطوير “علم” وراثة ميكانيكي، إرادوي، قادر على تحويل الطبيعة والإنسان بصورة سريعة. وفي 15 شباط 1947، صادق المكتب السياسي للحزب الشيوعي على مرسوم هيئة رئاسة مجلس السوفييت الأعلى الذي يمنع زواج المواطنين السوفييت بالأجانب، وهو المرسوم الذي ألغي في تشرين الأول 1953. وفي أواخر أيلول 1947، شدّد جدانوف ومالينكوف، في الاجتماع الأول لـ “الكومنفورم” في بولونيا، على ضرورة خوض نضال إيديولوجي ضد الإمبريالية الإنكليزية والأميركية، وعملاء الغرب، الذين يشوهون صورة الاتحاد السوفييتي ويصفونه بأنه “قوة غير ديمقراطية وتوتاليتارية”.

وفي الولايات المتحدة الأميركية، برزت في إطار الصراع الإيديولوجي بين المعسكرين ظاهرة “المكارثية” التي ارتبطت باسم جوزيف مكارثي، عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري من ولاية ويسكنسن، الذي أشاع في سنة 1950 نظرية “المؤامرة الشيوعية” الداخلية، وترأس في سنة 1952 لجنة خاصة صارت تزرع الشكوك لتوجيه اتهامات بالشيوعية إلى عاملين في الإدارة وإلى فنانين من هوليود، ثم إلى عدد من العسكريين الأميركيين الكبار.

تشكّل “الديمقراطيات الشعبية” في أوروبا الشرقية والوسطى

بعد تحرير أراضيها من الاحتلال الألماني، بمساعدة الجيش الأحمر، تشكّلت أنظمة “الديمقراطيات الشعبية” على النمط السوفييتي في بلغاريا في سنة 1947، وفي رومانيا وهنغاريا في سنة 1948، بينما برز في كلٍ من يوغوسلافيا، بزعامة الماريشال جوزيف بروز تيتو، وفي ألبانيا، بزعامة أنور خجا، نظامان شيوعيان غريبان إلى حد ما عن النمط السوفييتي. وما بين عامَي 1947 و 1948، قام نظام “ديمقراطي شعبي” في بولونيا رغماً عن الحلفاء الغربيين الذين بذلوا جهوداً حثيثة لمنع قيامه. وفي تشيكوسلوفاكيا، فاز تحالف شيوعي-اشتراكي في الانتخابات التشريعية التي جرت في شباط 1948، وحصل الشيوعيون فيها على ما يقرب من 38 في المئة من أصوات المقترعين، ودعي قائد الحزب الشيوعي كلمنت غوتوالد لترؤس حكومة إئتلافية. بيد أن الوزراء غير الشيوعيين في هذه الحكومة الائتلافية ما لبثوا أن استقالوا للدفع نحو إجراء انتخابات جديدة، فقام الحزب الشيوعي بتنظيم مظاهرات حاشدة في البلاد، ووافق الرئيس إدوارد بنيس على تشكيل حكومة شيوعية متجانسة خوفاً من انفجار حرب أهلية، ثم استقال من منصبه وانتخب كلمنت غوتوالد رئيساً في حزيران 1948 .

وأمام أحداث تشيكوسلوفاكيا هذه، التي أطلقوا عليها في الغرب اسم “انقلاب براغ” الأحمر، وقفت القوى الغربية عاجزة ومصدومة. ومع الوقت، تبنت “الديمقراطيات الشعبية” الجديدة في أوروبا، التي رفضت “مشروع مارشال”، سياسات التشريك، والتخطيط المركزي ونظام الحزب الواحد، وباتت جيوشها الوطنية على نمط الجيش الأحمر. وتحقق تكامل الاقتصادات الوطنية لهذه “الديمقراطيات الشعبية” مع الاقتصاد السوفييتي بعد تأسيس “مجلس التعاون الاقتصادي المتبادل” (الكوميكون) في سنة 1949، ثم تحقق اندماج بناها العسكرية في إطار “منظمة حلف وارسو” في سنة 1955، وذلك بعد أن كانت القوى الغربية، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، قد أُعلنت في مدينة بروكسل، في 4 نيسان 1949، ولادة “منظمة حلف شمال الأطلسي” بين الدول الواقعة على ضفتي المحيط الأطلسي الشمالي، وهي المنظمة التي انضمت إليها تركيا واليونان في سنة 1952.

كان الماريشال  تيتو في يوغوسلافيا هو الوحيد الذي وقف في وجه ستالين، ووقعت القطيعة بين يوغوسلافيا والاتحاد السوفييتي في حزيران 1948، عندما طرح الزعيم اليوغوسلافي مشروعاً لإقامة فيدرالية بلقانية تتشكل نواتها من يوغوسلافيا وبلغاريا، وهو ما عارضه ستالين الذي كان يتخوف من بروز قطب شيوعي آخر. بيد أن الخلافات بين البلدين كانت أبعد من مشروع الفيدرالية البلقانية هذا، وطاولت قضايا حزبية وسياسية واقتصادية.

    المسألة الألمانية وأزمة برلين: 1948-1949

إثر أحداث تشيكوسلوفاكيا ما بين شباط وحزيران 1948، صارت كل أوروبا الوسطى والشرقية تقريباً خاضعة لأنظمة شيوعية، بينما وقفت أوروبا الغربية إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية وسعت إلى الحفاظ على نظامها “الليبرالي الديمقراطي”. أما ألمانيا وإلى حد ما النمسا، المحتلتان من قبل الحلفاء، فقد باتتا سريعاً ساحتين لصراع النفوذ بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. ولم يكن الاتحاد السوفييتي وحده المسؤول عن تقسيم أوروبا، وخصوصاً ألمانيا، إذ كان “الشرق” و”الغرب” يتقاسمان في الواقع المسؤولية عن هذا التقسيم. وكما يذكر إيلينشتاين، كان ستالين، في الخيار الذي اختاره، يريد إقامة عازل أمني في الغرب يحمي حدود الاتحاد السوفييتي الأوروبية، التي كان يصل منها عبر التاريخ الغزاة الأوروبيون الطامحون إلى احتلال روسيا: البولونيون في سنة 1610؛ الفرنسيون في سنة 1812؛ الألمان في سنة 1914 وفي سنة 1941.

قرر الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون تسريع إعادة بناء الاقتصاد في مناطق نفوذهم في غرب ألمانيا ، معتبرين ذلك أفضل وسيلة للحد من تمدد الشيوعية، كما قرروا السير على طريق إقامة دولة ألمانية قابلة للحياة اقتصادياً وسياسياً في مناطق سيطرتهم . وبعد وصول المفاوضات بين ممثليهم وممثلي الاتحاد السوفييتي حول مستقبل ألمانيا إلى طريق مسدود، اجتمع ممثلو الدول الغربية الثلاث في لندن ما بين نيسان وحزيران 1948، واتخذوا قرارات ثلاثة هي: توحيد مناطق نفوذ الدول الثلاث؛ انتخاب جمعية تأسيسة في 7 حزيران 1948؛ طرح “المارك الألماني” في 20 حزيران بصفته عملة نقدية جديدة، وذلك من دون التشاور مع الاتحاد السوفييتي.

كانت مدينة برلين محتلة ومنقسمة إلى أربع مناطق نفوذ، أو بالأحرى إلى منطقتَي نفوذ: منطقة شرقية خاضعة للسيطرة السوفيتية، ومنطقة غربية خاضعة لسيطرة أميركية، وبريطانية وفرنسية، يسكنها مليونا نسمة، وتقع داخل المنطقة السوفيتية وتتصل بالمناطق الخاضعة للغربيين بممرات ثلاثة برية وجوية. ورداً على خطوات الحلفاء الغربيين هذه، فرض ستالين، في 24 حزيران 1948، حصاراً على برلين يغلق منافذ الوصول إلى برلين الغربية كافة، وذلك بغية خنق المدينة وطرد الغربيين منها. فرد الرئيس الأميركي هاري ترومان بإقامة جسر جوي تواصل على مدى 11 شهراً وتمّ عبره إيصال مليونين طناً ونصف المليون من المساعدات. وبعد نحو سنة على فرض الحصار، قرر ستالين رفعه. وفي أيلول 1949، أعلن الحلفاء الغربيون رسمياً قيام “جمهورية ألمانيا الاتحادية” وعاصمتها مدينة بون، بينما أعلن الاتحاد السوفييتي في تشرين الأول من العام نفسه قيام “جمهورية ألمانيا الديمقراطية” بعاصمتها برلين الشرقية.

    انتقال الحرب الباردة إلى آسيا واندلاع الحرب الكورية

من أوروبا انتقلت الحرب الباردة بين المعسكرين “الشرقي” و “الغربي” إلى آسيا. ففي تشرين الأول 1949، انتصر الشيوعيون في الصين بقيادة ماوتسي تونغ الذي أعلن قيام جمهورية الصين الشعبية، بينما أقام حزب “الكومينتانغ” القومي في جزيرة تايوان جمهورية الصين الوطنية بحماية الأسطول السابع الأميركي. ومباشرة بعد انتصار الشيوعيين في الصين، وقع الاتحاد السوفييتي معاهدة صداقة وتحالف وتعاون مع جمهورية الصين الشعبية في شباط 1950، وقام بتقديم مساعدات تقنية ومالية لها، وباتت الصين الشعبية تلعب دوراً سياسياً نشطاً في الشرق الأقصى. واندرجت حرب الهند الصينية ما بين 1946 و 1954 ضمن الحرب الباردة. فمنذ سنة 1950، راحت الولايات المتحدة الأميركية تقدم مساعدات إلى فرنسا، بينما قدم الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية مساعدات إلى المقاومين الفيتناميين المنضوين في إطار جبهة “الفييت-مين” بزعامة هوشي منه. وبعد معركة ديان بيان فو، التي دارت ما بين آذار وأيار 1954 وتكبد فيها الفرنسيون خسائر فادحة، وقّع الجانبان اتفاقيات جنيف في تموز 1954 التي أنهت الحرب، ونصت على استقلال لاوس وكمبوديا وأدت إلى تقسيم الفيتنام إلى دولتين: شيوعية في الشمال، وموالية للغرب في الجنوب.

أما كوريا، فكان قسمها الشمالي يخضع منذ شهر آب 1945 لسيطرة الاتحاد السوفييتي، ويخضع قسمها الجنوبي لسيطرة الولايات المتحدة الأميركية، وذلك وفقاً لاتفاقيات بوتسدام. وفي سنة 1948، قامت جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية في الشمال، وجمورية كوريا في الجنوب. وانسحبت القوات السوفيتية من الشمال في كانون الأول 1948، بينما انسحبت القوات الأميركية من الجنوب في حزيران 1949.

في 25 حزيران 1950، قررت حكومة كوريا الشمالية غزو أراضي كوريا الجنوبية. وبعد يومين، استغلت الولايات المتحدة الأميركية غياب المندوب السوفييتي عن اجتماع هيئة الأمم المتحدة ونجحت في استصدار قرار يدين غزو كوريا الشمالية، ويقضي بتشكيل قوات تدخل من 16 دولة ترفع علم هيئة الأمم المتحدة بقيادة أميركية، وأرسلت الولايات المتحدة الأميركية مباشرة إلى شبه الجزيرة الكورية قواتها البحرية المتمركزة في اليابان. وفي البدء، عجزت القوات الدولية عن وقف اندفاع الهجوم الكوري الشمالي، لكنها استطاعت في 28 أيلول 1950 استعادة السيطرة على مدينة سيول عاصمة كوريا الجنوبية. ووجد الرئيس الأميركي هاري ترومان، في ذلك الحين، ان الفرصة باتت مناسبة لتوحيد الكوريتين. وهكذا، واصلت القوات الدولية  توغلها في أراضي كوريا الشمالية ونجحت في الاستيلاء على مدينة بيونغ يانغ العاصمة، الأمر الذي دفع القيادة الصينية إلى التدخل المباشر، بصورة غير رسمية، من خلال إرسال وحدات من المتطوعين الصينيين المجربين، الذين أجبروا القوات الدولية على الانسحاب ووصلوا إلى مدينة سيول، وذلك قبل أن يستقر وضع الجبهة. وعندما فكر القائد العسكري الأميركي الجنرال ماكارثور باللجوء إلى عمليات قصف على نطاق واسع، وحتى إلى استخدام القنبلة النووية إن لزم الأمر، قرر الرئيس ترومان، المتخوف من نشوب صراع مفتوح مع الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، إقالته من منصبه في 11 نيسان 1951. بيد أن كوريا بقيت ساحة للصراع بين المعسكرين، إذ صارت الصين توفر الرجال ويوفر الاتحاد السوفييتي العتاد للكوريين الشماليين، من جهة، بينما توفر الولايات المتحدة الأميركية الرجال والعتاد لقوات الأمم المتحدة وللكوريين الجنوبيين، من جهة ثانية، وذلك إلى أن تقرر في حزيران 1951، بدء مفاوضات، لم تسفر عن اتفاق هدنة سوى في تموز 1953، وهو الاتفاق الذي أبقى كوريا منقسمة إلى دولتين.

وهكذا، وبعد سقوط ملايين القتلى، ووقوع خسائر مادية فادحة، عاد الوضع إلى ما كان عليه قبل اندلاع الحرب. وقد سرّعت حرب كوريا عملية إعادة بناء اليابان، كي تكون قادرة على الوقوف في وجه الصين والاتحاد السوفييتي. وفي تموز 1951، حددت معاهدة سان فرانسيسكو  شروط استقلال اليابان، ثم تمّ، في آب 1953، توقيع معاهدة تعاون عسكري بين الولايات المتحدة الأميركية واليابان.

    نهاية عهد ستالين

في 5 تشرين الأول 1952، افتتحت أعمال المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي برئاسة ستالين، الذي اكتفى بإلقاء كلمة ختامية قصيرة في حدود سبع دقائق، تاركاً لأقرب معاونيه فرصة تقديم التقارير الرئيسية أمام مندوبي المؤتمر. فقدم مالينكوف تقرير اللجنة المركزية للحزب الذي كشف فيه عن امتلاك الاتحاد السوفييتي القنبلة النووية، وأشاد بالنجاحات الاقتصادية التي حققتها الخطة الخمسية الرابعة، لكنه انتقد التجاوزات التي شهدتها عملية تجميع الكولخوزات ومشروع المدن الزراعية الذي طرحه خورتشوف. وفي تقريره الخاص بالتنظيم والنظام الداخلي للحزب، أدان هذا الأخير أشكال التحلل البيروقراطي واللاديمقراطي، وذلك في نقد مبطن لمالينكوف مسؤول سياسة إعداد الكوادر في اللجنة المركزية. وفي ختام أعماله، أقر المؤتمر عدداً من التغييرات على بنى الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي كان ستالين قد اقترحها ، بحيث تختفي من اسمه صفة “البلشفي”، ويستعاض عن المكتب السياسي بمجلس رئاسة موسع ويزداد عدد أعضاء سكرتارية اللجنة المركزية. وخلال الأشهر الأخيرة من عهده، كان ستالين يعقد اجتماعات مصغرة تجمع عموماً مالينكوف وخروتشوف وبيريا وبولغانين، ولم تتح له، قبل وفاته، فرصة دعوة مجلس الرئاسة هذا إلى الانعقاد. وبعد وفاته ، تقلص عدد أعضاء هذا المجلس إلى عشرة، بحيث لم يعد يتمايز عن المكتب السياسي سوى بالاسم.

في 4 آذار 1953، بينما كان التوتر الدولي على أشده، أُعلن في موسكو  أن جوزيف ستالين أصيب، في الأول من الشهر ذاته، بنزيف دماغي. وبعد يومين، أي في 6 آذار، نشرت وكالة تاس خبر وفاته. وقد أثار خبر رحيله هستيريا جماعية داخل الاتحاد السوفييتي، وسجي جثمانه في دار النقابات كي يلقي عليه المواطنون السوفييت النظرة الأخيرة، وذلك قبل أن ينقل الجثمان، في 9 آذار، وسط تدافع جماهيري أدى إلى سقوط مئات القتلى، إلى الضريح الذي يرقد فيه جثمان لينين.

    أهم المصادر:

-إيلنشتاين، جان (Elleinstein, Jean )، من روسيا إلى أخرى: حياة وموت الاتحاد السوفييتي، باريس، المنشورات الاجتماعية، 1992.

إيلينشتاين، جان، ستالين، باريس، فايار، 2001.

دُولين، سابين (Dullin, Sabine )، تاريخ الاتحاد السوفييتي، الطبعة الثالثة، باريس لاديكوفيرت، 2009.

رياسانوفسكي، نيكولا ف. ( Riasanovsky, Nicholas V. )، تاريخ روسيا من الأصول إلى أيامنا هذه، الطبعة الثانية، باريس، منشورات روبير لافون، 1994.

سابير، جاك ( Sapir,Jacques )، عودة إلى الاتحاد السوفييتي: اقتصاد، مجتمع، تاريخ، باريس، لارماتان، 1997.

غرازيوسي، أندريا ( Graziosi, Andrea )، تاريخ الاتحاد السوفييتي، باريس، المنشورات الجامعية في فرنسا، 2010.

ويرث، نيكولا ( Werth, Nicolas )، تاريخ الاتحاد السوفييتي، من الإمبراطورية الروسية إلى رابطة الدول المستقلة (1900-1991)، باريس، المنشورات الجامعية في فرنسا، 2012.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.