الحكومة الأردنية عالقة بين ليونة التكنوقراط وتكلفة الزعامات السياسية

الثلاثاء 5/9/2017 م …




الأردن العربي – يمكن بناء استنتاجات عدة عند التورط بأي محاولة لفهم المشهد السياسي الأردني الداخلي انطلاقاً من السؤال التالي: أيهما منتج أكثر.. الانتقال إلى مستوى الحكومات السياسية الوطنية أم البقاء في دائرة وزارة التكنوقراط التي لا ترسم أصلاً سياسات؟

يبدو السؤال في حالة طرحه معزولًا عن البيئة التي تتحرك وسطها البوصلة السياسية الأردنية جنوحًا نحو المناكفة والشّغب. وعندما يتعلق الأمر بالسعي إلى فهم الأولويات فقط، يبدو أن طرح مثل هذا السؤال يؤشر إلى أن الدولة الأردنية نفسها بحاجة إلى إجابة علمية وموضوعية عليه، بعد سلسلة طويلة من تجارب التكنوقراط التي أحسنت وأنتجت في معالجة بعض القطاعات والمساحات واخفقت كثيراً بوضوح في مجالات أخرى.

طرح السؤال نفسه انطلاقاً من رؤية وطنية حريصة على البقاء في دائرة الولاء، يعني مواجهة استحقاقات نمط التفكير في مرحلة ما بعد الربيع العربي حيث تمت المجازفة والمغامرة بالكثير من قواعد اللعبة المعروفة والمعتادة لمصلحة خيارات تكنوقراطية مغرقة بالجانب الفني ولا تنطلق من مشروع سياسي من أي نوع.

هذا الحديث يشغل صناع القرار وأوساط النخب تنطلق من المحاولة المحمومة والساخنة مرحليًا لـ «تصنيف» ليس الخيارات. ولكن الحكومة الحالية بقيادة تكنوقراطي صلب وفي حالة يقظة فنية لكنه سيئ الحظ سياسياً وسريع الإيقاع من طراز الدكتور هاني الملقي.

في قياسات خبراء أساسيين ثمة همسٌ عميق بأن عمر الحكومات التي تنشغل في صناعة السياسة ويقودها سياسي كبير أقصر بوضوح من عمر حكومات التكنوقراط. وعلى نحو أو آخر تبدو أساليب وتقنيات ممارسة الإدارة العليا على الأقل بالنسبة لمن يجلس في كرسي رئاسة الحكومة واضحة المعالم حيث معادلة مرسومة بدقة تقول بأن الجنوح للمزاحمة في رسم السياسة بدلاً من الانشغال في الفنيات مكلف لأي رئيس وزراء، لأنه ببساطة ينتهي إلى صراع مع أقطاب أساسيين ومراكز قوة شريكة في المؤسسات السيادية والأساسية.

في هذه الحالة المنافسة قد لا تكون عادلة لأن الحكومة التي تقرر رسم السياسة سرعان ما تواجه حدة الاستقطاب وتضطر للمغادرة سريعاً، فيما نخبة التكنوقراط تستطيع العبور بين الألغام وتجنب الصراع بمعناه السياسي وترضي مراكز القوى في الأثناء وبالتالي تعمر أكثر.

وفي الصورتين ثمة مكاسب ومخاسر. فعندما يتعلق الأمر بتسهيلات وتنازلات التكنوقراط الواقعيعن مبدأ الولاية العامة تمر المشروعات والاتجاهات والقوانين بشكل أنعم وأسرع وتتقلص مساحة الاجتهاد عند الشخص الذي / أو / الفرد الذي يكرسه الدستور رجلاً ثانيًا في المملكة والنظام، وهو حصرياً رئيس الوزراء، على اعتبار أن الحكومة تحصل على الثقة من البرلمان، وبالتالي فهي حكومة تحظى بمباركة ممثلي الشعب، حتى وإن لم تمثله مباشرة.

وفي هذا السياق يجتهد بعض المنظرين بالإشارة إلى أن تكريس حكومات التكنوقراط خطوة ضرورية ومهمة، ليس بسبب انتاجيتها على الصعيد الفني فقط. لكن؛ أيضا بسبب ظروف الإقليم والصراعات فيه التي يجب أن تجعل أداء الحكومات منضبطًا حتى لا تُصاب السلطة بالغرور فتغرد خارج السرب مستثمرة في صلاحياتها الدستورية.

تلك وجهة نظر في كل حال تقابلها وجهة نظر أخرى، ترى أن البلاد والعباد محرومان منذ سنوات من حكومات قوية قادرة على المبادرة والمناورة ويمكنها فعلاً تحمّل العبء عن المؤسسة المرجعية، كما أن الأردنيين محرومون بالنتيجة من حكومات كاملة الدسم من دون آلية دستورية تسمح لممثلي الشعب بإسقاطها.

في «المخاسر» صحيح أن رئيس الوزراء التكنوقراطي أكثر ليونة في التعايش مع بقية مراكز القوى سواء كانت السياسية في هرم الدولة أو تلك الجالسة في المستوى الأمني. لكن الصحيح أيضاً في التشخيص الوطني العام أن الكثير من المشكلات وفي كل الاتجاهات تراكمت بسبب منظومة حكومات الظل التي تبتز نخبة التكنوقراط أصلاً، وتتكاثر كالفطر بين الحين والآخر مستغلة غياب زعامات وطنية في إدارة الحكومة.

والصحيح في التشخيص ذاته تلك الخلاصة التي تقول: إن غياب الحكومات السياسية الطابع ــ توظّف التكنوقراط وتستثمرهم بعلاقة عمودية، لا أفقية ــ ساهم بالتوازي في تحول مشكلات كثيرة يمكن معالجتها إلى ملفات مستعصية أو مزمنة وعلى قاعدة: إن المصالح العميقة والجوهرية كي تدوم أصلاً وتتحول إلى وقائع على الأرض تحتاج إلى تجربة مستحدثة عنوانها إخضاع التكنوقراطي والأمني إلى منطق البرنامج السياسي، الأمر الذي يبدو أنه لم يحصل ويقصد أن لا يحصل منذ سنوات طوال في الحالة الأردنية.

أيهما أولى بالخضوع إلى الآخر.. التكنوقراط… المنطق الأمني.. المرجعية السياسية للحكومة؟.. هذا سؤال مستنسخ عن ذلك السؤال المرجعي وسط متوالية هندسية تفرضها وقائع خريطة النخب اليوم لأن كل رئيس حكومة يريد أن يعمر أكثر يحتاج إلى تفاهمات تُخضِعه إلى تدخلات قوى أخرى تعمل في الظل، وفي بعض الأحيان تتحدث أو تزعم أنها تتحدث باسم المرجعية، علمًا أن الجميع ابتداء بالقصر المَلِكِي مرورًا بالبرلمان والشارع يحاكمون ويحاسبون الحكومة القائمة لا وزارة الظل.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.