قول يا طير: لِنفتح خزائن الذاكرة / د. فيحاء عبد الهادي
د. فيحاء عبد الهادي ( فلسطين ) الإثنين 11/9/2017 م …
هيّا نفتح خزائن الذاكرة، ونحكي؛ منك إليّ ومني إليك،
هيّا نحكي؛ من جيل إلى جيل، ومن مدينة إلى أخرى، ومن قرية إلى قرية، ومن مخيم إلى مخيم.
هيّا نلملم روايتنا الفلسطينية المبعثرة، من أبواب القدس، وجبال الجليل، وسواحل عكا، وحيفا، ويافا، واللد، والرملة، وغزة؛ ليحملها الطير، وينقلها إلى البلاد العربية، ثم إلى بلاد الله الواسعة، بِلغات الدنيا كافة.
رسالة حملها معرض “قول يا طير”، الذي افتتح في دارة الفنون في عمان يوم 11 تموز- 24 أيلول، والذي سوف يفتتح في متحف محمود درويش، في رام الله، يوم 13 – 23 آب 2017.
*****
منذ العام 2012؛ فتحت “مؤسسة الرواة للدراسات والأبحاث” الباب على مصراعيه لتوثيق حكايات تهجير الفلسطينيين العام 1948. وثَّقت حتى الآن مائة وخمس عشرة رواية شفوية، (67 ملفا صوتيا، و48 ملفا مرئيا)، من نساء ورجال (62 من الراويات و53 من الرواة)، عايشوا مرحلة الترحيل القسري من مناطق التجمع الفلسطيني في فلسطين: (الضفة الغربية، وغزة، ومن فلسطينيي الـ 48)، وفي الشتات (الأردن، ولبنان، ومصر، وتشيلي)، وانحدروا من مخيمات اللجوء الفلسطيني، ومن المدن، والقرى الفلسطينية. وما زال الباب مشرعاً لتوثيق المزيد.
ازدان المعرض/ متعدد الأبعاد، بحضور بعض الرواة، وازدان ببعض الباحثات اللواتي قمن بعملية التوثيق، واغتنى بالجمهور الواسع من فلسطين والعالم العربي ومن دول العالم.
زارت المعرض أجيال مخضرمة، منهم من عاش قسوة التهجير، وظروفه اللإنسانية، وكان/كانت شاهد عيان على مقاومة الفلسطينيين للاعتداءات الصهيونية، ومنهم من سمع/سمعت عمّا حدث؛ دون معرفة التفاصيل. كما زارت المعرض أجيال شابّة؛ تعرَّفت لأول مرَّة على روايات الأجداد، وطالبت بأن تعرف المزيد.
*****
حين فتح الرواة خزائن الذاكرة وصناديق الأرشيف – وهي الفكرة الأساسية للمعرض؛ برزت الصور الفوتوغرافية القديمة للمكان وبرزت وجوه سكّانه.
استعادت المدن حيويتها وجمالها، واستعاد الرواة شبابهم، وضجَّت الصور بالحياة. وعبر اللوحة التفاعلية (رحلة التهجير الفلسطيني التي تتمثل بثلاث خرائط: فلسطين قبل العام 1948، وما بين 1948 – 1967، وبعد 2004)؛ أتيح للزوّار متابعة مسيرة حياة عدد من الرواة، والبلاد التي هجِّروا إليها، والتفاعل الشخصي مع اللوحة؛ ليرسم كل منهم/ن رحلة حياته أو رحلة حياة أجداده.
أما الاستماع إلى الشهادات المسجَّلة صوتياً؛ فقد أتاح الاستماع إلى لهجات الرواة ونبرة صوتهم، وأتاح التعرّف إلى تجاربهم الحياتية، التي تشكِّل جزءاً من الحكاية الكلية.
وحين امتزج الصوت بالصورة، من خلال الشهادات المسجَّلة بوساطة الفيديو؛ تمكن الزوّار من معايشة الانفعالات التي ظهرت على وجوه الرواة، وهم يقصّون حكاياتهم، وأحسّوا بأنهم يشاطرونهم جزءاً من تجربتهم.
كان مؤثراً جلوس الراوية “رشيدة فضيلات” بجانب فيلم الفيديو الذي وثَّق تجربتها، كما كان مؤثراً وقوف الرواة بجانب صورهم شباباً، والتقاطهم صوراً تذكارية توثِّق الحاضر والماضي معاً.
ظلَّلتنا أرواح الرواة الراحلين؛ من خلال الصورة، والصوت، والقول، والحكاية.
حضر “حمدي مطر”، وقريته المدمَّرة قالونيا، التي عاشت في قلبه، وناضل من أجل العودة إليها طيلة حياته.
وحضر “محمد القاضي”، ومعه كوكبا، ومعسكر البريج، وأحراش جرش، وحياة حافلة بالعطاء والتضحية والنضال، وصاحبنا الفنان التشكيلي “محمود طه”، ابن يازور، صاحب الإنتاج الفني المتميز، وابتسمت لنا “عثمانة أسعد”، ولفتا التي عاشت في وجدانها، وفي وجدان “وجيهة يحيي حمودة”، التي عاتبتنا على غياب صورها وحكايتها، ووعدناها بأن تزيِّن صورها وحكايتها المعرض في فلسطين. وطلبت منا “نجاح الجزائري النفيسي” أن نروي عن رحلة تهجيرها القاسية بالباخرة من يافا إلى بيروت.
ومن خلال فيلم الفيديو “ذاكرة حيَّة”؛ أطلَّت علينا “فاطمة حجازي”، وروايتها عن المسمية الكبيرة، التي ردّ أهلها الاعتداءات الصهيونية عن قريتهم ببسالة ورباطة جأش، قبل أن تدمِّرها القوات الصهيونية، وتشرِّد أهلها العام 1948.
*****
كامتداد لفكرة المعرض؛ تضمَّن التخطيط تخصيص زاوية، لمجموعة من مقتنيات الرواة، التي حملوها معهم إبّان التهجير؛ فشكَّلت وسيلة من وسائل التعلق بحلم العودة، والرغبة في تحويله إلى واقع: أوراق ثبوتية، مثل جوازات السفر؛ وأوراق رخص مزاولة المهن؛ وأدوات زراعة، ونجارة؛ وأدوات نحاسية، وبروايز صور، ومناديل للرأس؛ ومفاتيح وأقفال بيوت، وغطاء لسرير؛ ومجوهرات فضية قديمة – سوف يتمّ عرضها في متحف محمود درويش في رام الله -.
كما تمَّ تخصيص زاوية تحتوي على مجموعة من الفضة الفلسطينية، من إنتاج مؤسسة الرواة، بعضها يحاكي الفضة القديمة، وبعضها يستلهم القطع الفضية التراثية، التي جمعت من النساء الفلسطينيات المهجَّرات، ممَّن شاركن بشهاداتهن، في وعي لارتباط الفضة الفلسطينية بذاكرة النساء الفلسطينيات.
هناك العديد ممن هجِّروا، وتركوا بيوتهم، وكل ما يملكون؛ ولم يكن معهم سوى بضع قطع من مصاغ الزوجات أو الأمهات.
ولا شك في أن المصاغ، بالإضافة إلى القيمة التراثية له؛ شكّل عوناً اقتصادياً للفلسطينيين، في تدبر وضعهم الاقتصادي بالغ الصعوبة.
*****
يكمن تفرّد مشروع المعرض، في محاولة الحفاظ على الرواية الفلسطينية طازجة، وإثرائها بشكل فني، يرتكز على تجارب حياتية من روايات المهجَّرين: هنا كانوا، وعاشوا، وعمَّروا؛ قبل اقتلاعهم وترحيلهم؛ وعبر المعرض الفني؛ ينهضون ليكونوا، ويساهموا في كتابة روايتهم، وتحقيق حلم عودتهم.
[email protected]
www.faihaab.com
التعليقات مغلقة.