الدروس من كوريا الشمالية / عبدالستار قاسم

عبدالستار قاسم ( فلسطين ) الأربعاء 13/9/2017 م …




لم يكن في الدول الغربية مَن كان يتوقّع وصول كوريا الشمالية إلى القنبلة الهيدروجينية، وركّز أهل الغرب ومحلّلوهم وسياسيوهم عبر الزمن على هجو كوريا الشمالية على اعتبار أنها دولة استبدادية لا تتيح حرية لشعبها، ويحكمهم رئيسهم بالحديد والنار، ويحيطهم بكل أنواع الرقابة والتحرّي من أجل أن يضمن عدم تمرّدهم. وكم من الضجة كانت تقوم في الإعلام الغربي عندما كان يهرب مواطن من كوريا الشمالية إلى كوريا الجنوبية لاجئاً. وكم عمل الإعلام الغربي، وما زال يعمل حتى الآن، على تشويه صورة كوريا الشمالية والإساءة لقياداتها والتحريض ضدّها. لقد انشغل الغرب كثيراً في الحطّ من قدر كوريا الشمالية وإلصاق التّهم المتواصلة بها بخاصة التّهم الأخلاقية والاستبدادبة. لكن هذا الغرب لم يتحدّث يوماً عن الجهود العلمية والتقنية والتنظيمية التي تبذلها قيادة كوريا الشمالية من أجل الاعتماد على الذات في مختلف مجالات الحياة. ومنذ أن أخذت كوريا تختبر صواريخها وقدراتها النووية لا ينفكّ الغرب عن التهديد والوعيد وهو الأسلوب الذي يلجأ إليه القوي إلى أن يدرك أن رأسه سيكون في الطاحونة فيجلس على الطاولة.

دول نووية تقف ضدّ تطوير كوريا الشمالية لقدرات نووية على اعتبار أنه لا يجوز انتشار السلاح النووي في العالم لما ينطوي عليه ذلك من مخاطر على السلم العالمي.  تعتبر الدول التي تملك السلاح النووي نفسها أمينة على المحافظة عليه وعدم استعماله لتهديد السلام العالمي. في حين أنه لا توجد أدلّة وبراهين على أن هذه الدول تملك من المقوّمات الأخلاقية ما يردعها عن التهديد والوعيد. وقد سبق لقيادة هذه الدول وهي الولايات المتحدة أن استعملت هذا السلاح ضدّ اليابان من دون أي ّرادع أخلاقي. لم يشرح أحد لنا لماذا نأتمن بريطانيا وفرنسا، ولا نأتمن كوريا. دول الغرب دول استعمارية تعتدي على الشعوب والثروات وتعمل على السيطرة والهيمنة على الآخرين، وتعتبر نفسها المجتمع الدولي بالإضافة إلى دولة الاحتلال وهي الكيان الصهيوني. كوريا الشمالية ليست دولة استعمارية، وهي دولة فقيرة بصورة عامة وتعمل جاهدة على توفير لقمة الخبز لأبنائها. وهنا يمكن أن يسأل أحدهم عن سبب عدم توجيه كوريا لقدراتها المادية نحو النمو الاقتصادي وليس نحو التطوير العسكري. وهنا يبرز السؤال الهام والذي يجب أن تجيب عنه كل شعوب الأرض وعلى رأسها الشعب الفلسطيني: أيهما أولى التحصين الأمني أم التحصين الغذائي؟ التحصينان مهمان ويجب العمل على تحقيقهما لكن الغزو الخارجي أكثر إذلالاً وتحقيراً وإهانة. بالإمكان الصبر على الجوع، لكن الهوان أكثر خطورة على الإنسان والشعوب. الجوع يوحّد الناس من خلال تطوير قِيَم العمل الجماعي والتعاون المُتبادل، لكن الذلّ يمزّقها.

تُسطّر كوريا الشمالية نموذجاً هاماً للشعوب المُستضعًفة المُهدّدة. بالرغم من شحّ مواردها الاقتصادية، وضعف حالها الاقتصادي واحتياجها أحياناً للمواد الغذائية إلا أنها بقيت صامدة وصابرة ومُصمّمة على الوقوف في وجه الولايات المتحدة وجارتها الجنوبية التي نتمنّى عليها التفاهم مع أختها الشمالية من أجل مستقبل الأمّة الكورية. لقد عملت أميركا على مدى السنوات على شنّ حروب باردة إعلامية وسياسية وتشويهية ضدّ كوريا الشمالية، وعملت على حصارها وخنقها اقتصادياً ومالياً. وبلغ الأمر بأن صنّفها رئيس أميركا بأنها إحدى دول الشر، وهذا تصنيف كان له مغزى عملياً باتجاه تشديد الحصار والخناق على كوريا، وله مغزى آخر وهو أن أميركا من محور الملائكة ولها حق تصنيف الآخرين.

أدركت قيادة كوريا الشمالية منذ انتهاء الحرب الكورية عام 1953 أن المفتاح نحو التقدّم والمِنعة والصيانة الذاتية يكمن في التطوير العلمي والتقني، في الاكتشاف والاختراع، وبناء الإنسان والقدرات بطريقة تؤدّي إلى امتلاك ناصية العِلم والتقنية. لم تكن تفكّر كوريا باستيراد التقنية، وإنما كانت تفكّر بتوطينها وامتلاك الكوريين لأسرارها ووسائل وأساليب إنتاجها. وأدركت أن الآيديولوجا لا قيمة لها في النهاية إلا إذا تمّت ترجمة مبادئها إلى نشاطات عملية. وبالتالي وظّفت إمكاناتها المتواضعة جداً في هذا الاتجاه لتصل إلى الصواريخ العابرة للقارات.

التقنية العسكرية هامة جداً في عمليات التطوير المدني وتحسين الظروف المعيشية. هناك عدّة دول في العالم ركّزت على تطوير التقنية العسكرية أولاً وذلك بهدف حماية نفسها من الاعتداءات الخارجية، لكن هذه التقنية وجدت طريقها بعد ذلك نحو الاحتياجات المدنية، وكان من السهل تكييف هذه التقنية العسكرية لخدمة الإنتاج المدني وتحسين الوضع المعيشي للجمهور.

لكن الإرادة على العمل والإصرار على النجاح أهم بكثير من الموارد. إرادة الإنسان هي التي تصنع ما هو غير متوافر، وهي التي تقوده إلى النجاح إن هو أصرّ عليه. كم من دولة تملك الموارد الوفيرة والثروات، وبقيت عاجزة تستجدي الآخرين لحمايتها ومدّها ببعض المال والغذاء مثل أغلب الدول العربية، وكم من دولة مثل كوبا وإيران وكوريا وقفت شامخة على الرغم من كل الضيق ونجحت في النهاية رغم كل المؤامرات والدسائس والتهديد والوعيد؟ صحيح أن مهمة الفقراء صعبة، لكنها ليست مستحيلة، والسياسة في النهاية هي الإصرار على ما هو ممكن. لقد وظّف مسؤولو كوريا الشمالية أوقاتهم وجهودهم وأموالهم من أجل أن يحافظوا على أنفسهم في منطقة تزدحم بالقوى والأسلحة النووية والأساطيل الحربية. والعرب يبقون أولى الناس في استخلاص الدروس من كوريا الشمالية لأنهم يواجهون التحدّيات العسكرية باستمرار وما زالوا يستعطون السلاح. علينا نحن العرب ألا نخشى تطوير أسلحتنا مهما كلّفنا الأمر، وما دام هناك دولة واحدة في هذا العالم تملك سلاحاً نووياً فإن لكل دول العالم الحق في امتلاك هذا السلاح، وما بالنا إذا كان المالك هو الكيان الصهيوني؟

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.