البحث عن الحقيقة : خطايا النظام و ذنوب الأردنيين / د.لبيب قمحاوي

 د.لبيب قمحاوي ( الأردن ) الخميس 14/9/2017 م …




أصبحت السياسة في الأردن وفي معظم أقطار العالم العربي أمراً يبعث على القلق ، بل و أصبحت الحياة السياسية نفسها  أمراً يبعث عن الملل . فما يُسمى بالنخبة السياسية في الأردن ، و كما هو الحال في معظم الأقطار العربية ، ليست نُخْبَة بالمعنى العلمي المتدَاوَل للكلمة ، ولكنها في أغلب الأحيان عبارة عن مجموعة من البشر وقع عليهمُ اختيار الحاكم لشغر مناصب مختلفة لأوقات محددة و لأسباب لا تعود الى مؤهلاتهم أو تاريخهم السياسي أو قاعدتهم الجماهيرية بقدر ما تعود لظروف و أسباب تتعلق بالحاكم نفسه وتتناسب مع مزاجه أو متطلباته و قدرة أولئك المختارين على خدمة تلك المطالب دون أي اعتراض أو احتجاج أو حتى تساؤل . ومن هنا فإن تعيين أحد ما في منصب ما أو إقالته منه يُجابَه في معظم الأحيان بالاستغراب نظراً لغياب الأسس العلمية أو السياسية لمثل ذلك التعيين أو تلك الإقالة . ومن هنا فإن ارتباط التعيين أو الاقالة برغبات الحاكم أو أجهزته يجعل من الشعب عموماً رهينة لتلك المِنْحَة المقتصرة على الحاكم و الرغبة الدفينة في الحصول عليها من قبل المحكوم . إن هذه المعادلة تشكل نواة الخلل الحقيقي في العلاقة بين النظام و الشعب من خلال احتكار النظام لسلطة منح وحجب الألقاب و المناصب و رغبة الآخرين في الحصول عليها .

يعاني الشعب الأردني من وَلَعٍ مُفرطٍ بالألقاب و المناصب الى الحد الذي أصبح فيه هذا الوَلَعْ صفة ملازمة للأردنَييّنَ و أحد السُّماتِ التي يُعْرَفون بها لدى الشعوب الأخرى . فاللقب أو المنصب المرتبط باللقب أصبح من أغلى أمنيات العديد من الأردنيين ، و الدافع الرئيسي لطموحاتهم . ومع مرور السنين ، أصبحت هوية المواطن الأردني العادي ناقصة لا تكتمل إلا بعد حصوله على لقب ما يُؤَكِد من خلاله ذَاتَه و أنه قد نجح في حياته وفي مسعاه للوصول الى المنصب أو الحصول على اللقب أو كليهما   معاً . والضعف الذي يعاني منه الأردنيون تجاه الألقاب و المناصب ربما يعود في أصوله الى ارتباط كليهما بمفهوم الدولة و الاستقلال اللذين رافقا بداية الحكم الهاشمي لما أصبح يدعى بإمارة شرق الأردن ومن ثم المملكة الأردنية الهاشمية . وكان النظام في بداياته فقيراً غير قادر على شراء الذمم و الولاآت بالمال ، فإبتدأ بمنح الالقاب مثل لقب “الباشا” بدلاً عن المال وكان من الضروري أن يعمل النظام على إعطاء تلك الألقاب ما يلزم من الفخامة و الأهمية لتعزيز قيمتها . و هكذا ابتدأ المسار و استمر و تفاقم حتى بعد أن أصبح النظام قادراً مالياً على شراء الذمم و الولاآت . وابتدأ شغف الأردينين باللقب يطغى على أي شئ أخر و اصبح جزأ رئيساً من طموحاتهم .

لقد بَرِعَ نظام الحكم في الأردن في استغلال حب الأردنيين للألقاب وضَعْفِهمِ أمام المنصب العام ، و قام بإستغلال ذلك من أجل فرض إرادته  على الراغبين أو الطامحين و التلاعب بهم من خلال التلاعب بعواطفهم و دغدغة طموحاتهم و أطماعهم الشخصية و بما يؤدي الى خلق القناعة بأن مَنْحِ اللقب أو اعطاء المنصب يرتبط بقدرة المستفيد على خدمة النظام بالتزام كامل و دون معارضة أو حتى تساؤل ، مما يجعل من ذلك ممارسة أقرب الى الرشوة أو الإبتزاز .  ومن هنا أصبح من الضروري تداول هذه المناصب باستمرار و بشكل مكثف يسمح للنظام بإرضاء أكبر عدد ممكن من البشر الطامحين من خلال إعطائهم المنصب أو اللقب أو معاقبتهم من خلال حرمانهم من ذلك . و هكذا تحول المنصب من أمرٍ محكومٍ بالكفاءة والمؤهلات و القدرة ، الى وسيلة لتداول المنفعة بشكل يستجيب لشهية الآخرين و يجعل من السعي إلى المنصب ، وبالتالي اللقب ، أمراً ممكناً و مفتوحاً للتداول و التناوب مما يستدعي ضرورة التسابق على إبداء الولاء أو الامتناع عن نقد أو معارضة الحكم تجنباً للحرمان من المنصب أو اللقب .

لقد إرتكب الأردنيون الذنب الأكبر بسماحهم للنظام أن يَسْتَغلَّهم أبشع إستغلال من خلال أدوات لا معنى حقيقي لها سوى كونها تصنيف اجتماعي شَكْلي فارغ لا يعني في الواقع شيئاً إلا إرضاء غرورٍ سخيف أو نزعة سطحية لتعبئة فراغ حقيقي بأدوات وهمية مثل إضفاء لَقَبٍ ما على هذا الشخص أو ذاك مثل معالي فلان أو عطوفة علان أو الباشا الفلاني أو البيك الفلاني وكلها ألقاب فارغة لاتضيف لحاملها شيئاً سوى إرضاء غروره أو سعيه الى استجلاب اعتراف الاّخرين بأهميته كشخص . لقد ساهم هذا الوضع في تقوية يد النظام في تعامله مع الأردنيين من خلال تشجيع نزعتهم نحو الألقاب من جهة ، و إفهامهم بأن سلطة منح اللقب هي بيد النظام حصراً من جهة أخرى ، و أن كل من لا يحظى برضا النظام و قبوله لن يتمكن في نهاية الأمر من الحصول على اللقب أو المنصب أو كليهما معاً .

لقد نجح النظام فيما فشل فيه الشعب . فالنظام يعلم ما يريد وما لا يريد و يتصرف على هذا الأساس . أما الشعب فقد خلط بين الشخصي و العام و وَضَعَ العام في كَنَف الخاص الشخصي و هكذا أصبح للطموحات الشخصية الأولوية على القضايا العامه و متطلباتها و انسحبت المواطنة لصالح ترتيبات أخرى تحكمها المصالح الشخصية مستغلة بذلك كافة الأطر بما فيها العشائرية و الجَهَوية ، مما شكل نكسة لمستلزمات التطور و التطوير و المؤسسية. وقد ساعد هذا الوضع النظام على فرض إرادته من خلال التحكم بالألقاب و المناصب ، ولم يستطيع الأردنيون حتى الآن التخلي على هذا الضعف الى الدرجة التي سمحت لعضو  في أحد الأجهزة الأمنية أن يتفاخر على شاشة التلفزيون و يُصَرَّحْ ” بأننا (يقصد النظام) نشير بأصبعنا الى أي شخص من المعارضة لتولي أي منصب وهو يركض إلينا ملبياً تلك الاشاره “.  كلام في غاية القسوة ولكنه ، حتى تاريخه ، صحيح إلى حد كبير .

لم يكن لهذا المسار ان يستمر في ظل الأوضاع المتردية السائدة في الأردن و تحت ضغط الظروف الاقتصادية الصعبة و البطالة وتفشي الفساد مما وَجَّهَ ضربة شديدة للنمط  التقليدي القديم الذي يعطي الأولوية لللقب أو المنصب على أي شىْ أخر ، و أًصبحت اهتمامات الأجيال الجديدة من الاردنيين مختلفة عن إهتمامات أجيال آبائها .

تشير الإنتخابات البلدية و مجالس اللامركزية التي جرت مؤخراً إلى أن الأجيال الجديدة من الشباب الأردني تميل الى التخلي عن المقاييس التقليدية و العشائرية لصالح فكر جديد متنور و ذلك تحت ضغوط البطالة و الفقر و القهر و الفساد المرتبطة بالنظام و التي وَقَفَ الإطار العشائري عاجزاً عن تقديم حلول لها كون المشكلة عامة وفي تفاقم مستمر . فبالإضافة الى عزوف الأردنيين بشكل عام عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة وهو بحد ذاته موقفاً سياسياً رافضاً ، جاءت نتائج تلك الانتخابات مؤشراً واضحاً على تقهقر الاقليمية و الجهوية و العشائرية لصالح الفكر التنويري الرافض ، وعلى التحدي السلمي الذي عَبًَرت عنه أوساط الشباب من خلال عدم الاعتماد على دعم العشيرة وعدم التصويت لصالح المرشحين المحسوبين على النظام بالرغم من الجهود التي بذلها النظام و مؤسساته لإنجاح اولئك المرشحين ، و كانت نتائج انتخابات الزرقاء و الكرك و الطفيلة ومؤاب و المزار أمثلة واضحة على ذلك المسار . و هكذا فإن الشباب الذين نجحوا في تلك الانتخابات لم يكونوا مُنْتَجَاً عشائرياً أو حكومياً ، بل كانوا في غالبيتهم مُنْتَجاً للفكر الجديد المستقل المتنور الذي يعكس الرغبة في التغيير و الإصلاح و الابتعاد عن المسار التقليدي المحافظ و الساعي الى الألقاب و المناصب حتى ولو كان ثمنها الإنصياع الأعمى للحكم .

ان المواقف الجديدة المتطورة للشباب الأردني لم تُجَابَه بمقاومة حقيقية من القوى العشائرية و التقليدية نظراً لفشل تلك القوى أصلاً في ايجاد أي حلول حقيقية لمشاكل الشباب و أهمها البطالة و كذلك فشلها في المشاركة الحقيقية في إدارة الدولة و وضع حد للفساد . وقد كان لنجاح النظام في استغلال القوى التقليدية و المُحافِظَة لخدمة النظام فقط وتقليص دورها و قدرتها على خدمة مجتمعاتها المحلية بإستثناء تقديم بعض الرشاوي أو الخدمات الخاصة لتعزيز نفوذ هذا الشخص أو ذاك ، كان لكل ذلك أثراً كبيراً في الإنحسار المحتوم للنفوذ العشائري و التقليدي المحافظ و الموالي بين أوساط الأجيال الجديدة من الشباب الأردني الذي لم يلمس أي قدرة حقيقية للقيادات العشائرية و التقليدية و الموالية على حل مشاكله و التعامل مع التحديات التي تجابهها الأجيال الجديدة . لقد حاولت القيادات العشائرية و التقليدية أن ترث دور الاحزاب في قيادة مجتمعاتها المحلية ، و بدعم واضح من الدولة ، ولكنها فشلت في القيام بذلك الدور . وهذا الفشل سوف يفتح الباب أمام المجتمع المدني للعب دوره الطبيعي و افراز مؤسسات و قيادات مدنية تنتمي للمجتمع و ليس لعشيرة بعينها ، و بالطبع فإن هذا الأمر لن يمر دون مقاومة من النظام و أجهزته .

إن تدجين القيادات العشائرية و التلاعب بمقدرات الوطن ابتداء من عملية الخصخصة بكل ما إكتنفها من تساؤلات و فساد ، و بعد أن تم تدجين أجيال متتالية من الأردنيين الطامحين لتولي المنصب العام أو تم إقصاءهم ، يعود الأردنيون من خلال جيل الشباب الحالي الى لملمة صفوفهم ومحاولة إعادة بناء مجتمعهم من جديد بمعزل عن التسلط و الظلم و الفساد و الاستسلام الطوعي لإرادة النظام و رغباته . و اذا كان مقدراً لذلك التغيير أن يستغرق وقتاً أطول مما هو لازم ، نظراً لنجاح النظام في ابتزاز ارادة الأردنيين للتغير من خلال ايهامهم بأن أمن الأردن و استقراره مرتبطان بالمحافظة على الوضع القائم status quo)) ، فإن ذلك أمراً لن يستمر لأن واقع الأمور هو غير ذلك و أن التغيير الإيجابي لا يتعارض مع الأمن و الاستقرار حيث أن المواطنة تبقى هي الطريق الأصح و الأسلم للمرحلة المقبلة . فالمواطنة تَجُبّْ الأصول و المنابت و تَجُبّْ ما قبلها . واعادة تشكيل المجتمع على أسس جديدة يتطلب اعتماد مفهوم المواطنة الناجزة كأساس .

المطلوب من الأردنيين أن يتوقفوا عن ابداء أي طموح للحصول على اللقب أو الوصول الى المنصب بأي وسيلة لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف  قدرة الحكم عن الاستمرار في ابتزاز الأردنيين لتقديم التنازلات التي يريدها النظام . فالألقاب لا قيمة لها و هي جزء من تراث الماضي الإقطاعي ، أما المنصب فهو حق للمواطن ضمن منظومة من التنافس الشريف و الشفافية و أولوية الحق وبما لا يجعل أي شاغر لأى منصب محكوماً لمزاج المسؤولين وخاضعاً لضغوطهم . قد يبدو هذا الكلام مثالياً بالنسبة للبعض و لكنه الواقع في العديد من دول العالم ذات المنظومه الديموقراطية التي تعتمد المواطنة الناجزة و تكافؤ الفرصة و الشفافية و المساءلة أساساً لنظامها السياسي.

 

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.