إفلاس الاقتصاديين البورجوازيين
الأردن العربي – منقول ( الأربعاء ) 18/3/2015 م …
لقد تشبث الاقتصاديون البورجوازيون بإصرار بالوهم القديم القائل بأن حدوث انهيار اقتصادي عالمي مسألة مستحيلة، وبأنهم تعلموا من دروس الماضي (بالضبط كما يتعلم السكير بعد كل صداع بسبب الكحول). قالوا أن الأزمة الاقتصادية ستبقى محصورة في الولايات المتحدة، وأن الاقتصاد الأمريكي ’سينفصل‘ بطريقة ما عن بقية العالم (مناقضين بهذا القول كل ما سبق أن قالوه عن العولمة)؛ وأن أوروبا والصين سيصبحان القوى المحركة الجديدة للاقتصاد العالمي وما إلى ذلك.
كم تبدو هذه الإدعاءات سخيفة اليوم! أسعار العقار تنهار على الصعيد العالمي. الاقتصاد العالمي يتباطأ. الاقتصاديات الأوروبية بدأت تتباطأ بشكل كبير، وبالنظر إلى حتمية إفلاس المزيد من الأبناك والنقص في الرساميل والقروض، سوف يواصل هذا المسلسل طريقه. صحيح أن ما يسمى بالاقتصاديات الصاعدة لا تزال تواصل نموها، لكن من غير الممكن أن تبقى بمنأى عن الأزمة العامة مع توقف تدفق الرساميل وتراجع أسعار السلع. بالطبع ستحدث هذه العملية مع مرور الوقت وبشكل غير مستو. بعض البلدان ستواجه الأزمة عاجلا، بينما أخرى ستواجهها آجلا. لكنهم في النهاية سوف يجَرٌُون جميعا إلى أتونها.
ليس من المهم في أي بلد ستبدأ الأزمة. الأمر المهم هو أن الأزمة، في ظل الظروف المعاصرة، ستنتقل بشكل حتمي من بلد إلى آخر ومن قارة إلى أخرى. وفي حالتنا هذه بدأت الأزمة في الولايات المتحدة، البلد الذي دفع جنون المضاربات إلى أقصى حدوده. لكن بعد ذلك فورا، وضدا على توقعات الاقتصاديين جميعها، انتقلت الأزمة إلى أيرلندا وإسبانيا وبريطانيا وكل أوروبا. وسوف تصل انعكاساتها إلى أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا. سوف تسقط البلدان الواحدة منها بعد الأخرى مثل حجارة الدومينو. ولن تنجو الصين بدورها، بالرغم من أنها لا تزال لحدود اللحظة تواصل التقدم.
خلال الأزمة يجد الرأسماليون أنفسهم مجبرين على اللجوء إلى اتخاذ إجراءات استثنائية من أجل استعادة جزء من سوق متقلص. يلجئون إلى تخفيض الأسعار وسياسة الإغراق وغيرها من الأساليب من أجل التغلب على منافسيهم. وهم بقيامهم بذلك يعملون على مفاقمة الأزمة من خلال إثارتهم لدورة انكماشية لولبية نازلة. حيث يعمل الناس على تأجيل مشترياتهم انتظارا لأسعار أكثر انخفاضا، وبالتالي يدفعون الأسعار إلى المزيد من الانخفاض. نرى هذه الظاهرة بوضوح أكبر في سوق العقار.
تنتشر العدوى من بلد إلى آخر مثل وباء عصي على التحكم. سوف يبدو واضحا أن جميع البلدان قد صدرت بشكل مفرط (أي أنتجت بشكل مفرط) وكذلك استوردت بشكل مفرط (أفرطت في التجارة). (انظر كتاب الرأسمال، المجلد الثالث، الصفحة 181 [من الطبعة الانجليزية]) سوف يبدو بوضوح أن كل واحدة من تلك البلدان قد اقترضت بشكل مفرط وراكمت نيران التضخم والمضاربات، التي يجب الآن أن يتم إطفائها، مهما كان الثمن. أي أنها ليست مسألة خاصة بهذا البلد أو ذاك، ولا هذا البنك أو ذاك أو هذا المضارب أو ذاك، بل هي قضية النظام نفسه. صحيح أنه ليس هناك من كساد دائم إلى ما لانهاية. إذ على المدى البعيد سوف يتم تحقيق توازن جديد، وستستقر الأسعار وستستعاد الربحية وستبدأ دورة جديدة. لكن هذا ليس في المدى المنظور. فالسقوط لم ينتهي بعد، إنه قد بدأ للتو. ولا أحد يعلم كم من الوقت سيستمر. وعلى كل حال، كما سبق لكينز أن قال: “على المدى البعيد سنكون جميعنا في عداد الأموات”
من السهل أن يكون المرء حكيما بعد وقوع الحدث. الاقتصاديون البرجوازيون بارعون في توقع الأشياء بعد أن تكون قد حدثت بالفعل. إنهم يشبهون في هذا مؤلفي كتاب العهد القديم، الذين توقعوا بدقة فائقة أحداثا تاريخية كانت قد حدثت قبل عدة مئات من السنين. الناس السذج، من أمثال شهود يهوه، يتأثرون بشدة بهذا، حيث يستشهدون به كدليل على قدسية الكتاب المقدس. بينما يقابل الآخرون، من أصحاب الرؤية الأكثر علمية والأكثر نقدية، هذه ’التنبؤات‘ بالقهقهات العالية. نفس الأشخاص الذين سخروا منا، نحن الماركسيون، وأكدوا لنا أنه لن تكون هناك أية أزمات، هاهم الآن ينوحون ويفركون أياديهم. يخبروننا أننا نعيش أسوء أزمة منذ الثلاثينات، ويأملون أن لا يلاحظ أي أحد التناقض الفاضح بين ما يقولونه اليوم وبين ما كانوا يقولونه بالأمس فقط.
الحقيقة البسيطة هي ما يلي: إن الاقتصاديين البرجوازيين لم يتعلموا أي شيء من العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة، ولم يتوقعوا أي شيء ولم يستبقوا أي شيء. لقد كانوا عاجزين عن أن يتوقعوا لا سواء فترات الازدهار ولا فترات الركود. لقد قضوا عقودا وهم يحاولون إقناعنا أن الدورة الاقتصادية قد اختفت، وأن البطالة الجماهيرية صارت مسألة من الماضي، وأن وحش التضخم قد تم تدجينه، وهكذا دواليك. جميع السياسيين الإصلاحيين قبلوا، بطبيعة الحال، هذا الهراء وكأنه حقيقة ثابتة. في بريطانيا افتخر غوردون براون قائلا: “إن دورة الازدهار والانحسار الاقتصادية قد اختفت”. وقد ترك الآن لكي يبتلع كلماته بينما يغرق الاقتصاد البريطاني في الركود. كل هذا يبين أن الاقتصاديين البرجوازيين لا يصلحون لشيء ما عدا تبرير نظام منحط ومفلس.
ما الذي توقعناه نحن
دعونا نقارن منظورات الماركسيين بمنظورات البرجوازيين. فعلى طرف النقيض مع الاقتصاديين البرجوازيين الذين ارتكبوا خطأ تصديق دعايتهم الخاصة، شرح التيار الماركسي حقيقة الوضع. ففي وثيقة: On a Knife’s Edge: Perspectives for the world economy الذي كتب سنة 1999، أكدنا ما يلي:
«في الماضي كان يقال أن دور الاحتياطي الفدرالي هو أن يضمن التوازنات عندما تكون الحفلة في أوجها. لكن الوضع لم يعد كذلك. ففي نفس الوقت الذي كان فيه آلان غرينسبان يعلن تأييده للاستقامة والتقشف، كان مستعدا لتقبل خلق أكبر عاصفة مضاربات مالية في التاريخ، بالرغم من أنه يعلم بالمخاطر المصاحبة لها. إنه يشبه الإمبراطور نيرون الذي كان يتسلى بينما روما تحترق. من خلال رفعه لمعدل الفائدة بربع نقطة لم يعمل، في الواقع، سوى على صب الزيت على نار المضاربات. وبهذه الطريقة تبين صدق الحكمة القديمة القائلة: “من تريد الآلهة تدميره تجعله مجنونا”.»
ونقرأ في نفس الوثيقة:
«العائقان الرئيسيان أمام تطور القوى المنتجة في العصر الحالي هما׃ الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والدولة القومية. لكن الرأسمالية تتمكن لفترة محددة من الالتفاف حول هذه الحدود عبر سلسلة من الإجراءات، من قبيل تطوير التجارة العالمية ونشر القروض. لقد سبق لماركس أن شرح منذ وقت بعيد دور القروض في النظام الرأسمالي. إنها وسيلة يتمكن من خلالها السوق من الوصول إلى ما أبعد من حدوده الطبيعية. وبالطريقة نفسها، يمكن لتوسيع مجال التجارة العالمية أن يوفر مخرجا لمدة معينة، لكن فقط على حساب تحضير الشروط لحدوث أزمات أكثر كارثية في المستقبل:
«”الإنتاج الرأسمالي منشغل دائما بمحاولة التغلب على هذه الحدود الملازمة له، لكنه يتغلب عليها فقط بوسائل تضع هي أيضا نفس الحدود في طريقه بأحجام أكثر ضخامة.
«”إن الحدود الحقيقية التي تقف في وجه الإنتاج الرأسمالي هي الرأسمال نفسه” (ماركس، الرأسمال، المجلد 3، 15؛ 2-3 [من الطبعة الإنجليزية])
«تعتمد دورة الإنتاج الرأسمالية، من بين ما تعتمد عليه، على القروض. إن قوة إحدى حلقات السلسلة رهينة بقوة الحلقة الأخرى. يمكن للسلسلة أن تنقطع في العديد من النقاط. عاجلا أو آجلا سيتوجب أداء الدين نقدا. غالبا ما يتم نسيان هذه الحقيقة من طرف الذين اقترضوا خلال فترة الازدهار الرأسمالي. في المرحلة الأولى للتوسع الرأسمالي، تلعب القروض دور محفز للإنتاج: “يتقوى تطور عملية الإنتاج بفضل القروض، وتؤدي القروض إلى توسع العمليات الصناعية والتجارية” (ماركس، الرأسمال، المجلد 3، ص: 470 [الطبعة الإنجليزية])
«إلا أن هذا ليس سوى أحد وجوه العملة. التوسع السريع للقروض والاستدانة يدفعان الأسواق إلى ما أبعد من حدودها الطبيعية، لكن، وعند نقطة معينة، تعود هذه إلى وضعها الأصلي. خلال الازدهار، تبدو القروض وكأنها بدون نهاية. لكن وبمجرد ما تبدأ الأزمة، ينقشع الوهم. العائدات تتأخر والسلع لا تباع في الأسواق، وتنهار الأسعار. إن تطور السوق العالمية لا يقضي على هذه العملية الجوهرية، بل يعطيها فقط إطارا ضخما جدا لتعبر فيه عن نفسها. إن تراكم الديون في آخر المطاف يجعل الأزمة أكثر عمقا وأطول عمرا مما كانت ستكون عليه في حالة أخرى. تاريخ اليابان مؤخرا دليل كاف للبرهنة على ذلك. فبعد عقد من الازدهار الذي تميز بارتفاع سريع لأسعار الأصول والأسهم، انتهت الفقاعة بأن انفجرت بسبب ارتفاع حاد لمعدلات الفائدة. كان الوضع جد مشابه للوضع الذي تعيشه الولايات المتحدة اليوم. يوم 25 دجنبر من سنة 1989، رفع بنك اليابان معدل الفائدة، مما تسبب في سقوط حاد في أسواق الأسهم، لكن وبسبب استمرار أسعار الأرض في الارتفاع، كان من الضروري القيام برفع جديد لمعدل الفائدة. في النهاية ارتفعت معدلات الفائدة إلى 6% ومع نهاية العام سقطت أسعار الأسهم بشكل حاد بـ 40%. وبالرغم من كل شيء حافظ بنك اليابان على معدل الفائدة مرتفعا. آنذاك هنئ الاقتصاديون بنك اليابان على تسييره الحكيم للاقتصاد. لكن النتيجة كانت هي إطالة مدة الكساد عقدا من الزمن.
«مع العولمة، وإلغاء التقييدات على القروض والمضاربات المالية، صار حجم التوسع كبيرا إلى درجة غير مسبوقة على الإطلاق، وكذالك الحال مع إمكانية انهيار اقتصادي عالمي. إلا أن الأزمة لا تنتج عن الرساميل الوهمية ولا عن احتيال الأسواق المالية ولا عن الاستعمال المفرط للقروض. سبق لماركس أن شرح في الجزء الثالث من كتابه الرأسمال:
«”سنغض النظر أيضا عن هذه المضاربات والمعاملات التجارية المخجلة، التي يفضلها نظام الاقتراض. لن يمكن تفسير الأزمة إلا كنتيجة لتفاوت الإنتاج بين استهلاك الرأسماليين ومراكمتهم. إن تعويض الرأسمال المستثمر في الإنتاج معتمد بشكل كبير على القدرة الاستهلاكية لدى الطبقات الغير منتجة؛ بينما قوة العمال الاستهلاكية محدودة، بسبب قانون الأجور من جهة، ومن جهة أخرى بواقع أنهم لا يُستخدمون إلا إذا كان استخدامهم مربحا للطبقة الرأسمالية. السبب الرئيسي لجميع الأزمات الحقيقية يتمثل دائما في الفقر والاستهلاك المنخفض لدى الجماهير أمام ميل الإنتاج الرأسمالي إلى تطوير القوى المنتجة كما لو أن هناك قوة استهلاكية مطلقة لدى المجتمع لا نهاية لها.” (ماركس، الرأسمال، الجزء 3. ص. 472 [ط إ])
«توسع التجارة العالمية وانفتاح أسواق جديدة في آسيا يشكلان أيضا محركا مؤقتا، لكن فقط على حساب التسبب في انهيار أكثر ضخامة.»
لقد كُتبت هذه الأسطر قبل حوالي عقد من الزمان، عندما كانت الأغلبية الساحقة من الاقتصاديين البرجوازيين لا تزال تنكر إمكانية حدوث ركود عالمي. لدينا الحق في طرح السؤال التالي: من فهم سيرورات الاقتصاد العالمي أفضل من الآخر، ومن طرح التوقعات الصحيحة، هل الاقتصاديون البرجوازيون أم الماركسيون؟
هل يمكن للصين أن تنقذ العالم؟
هناك حكمة قديمة تقول أن الغريق يتشبث بقشة. البرجوازيون ومبررو نظامهم، الذين أثار عمق الأزمة مخاوفهم، يبحثون حولهم عن قشة تنقذهم من الغرق أكثر. وإلى حدود وقت قريب تركزت آمالهم على آسيا، والصين على وجه الخصوص. لكن الاقتصاد الصيني الآن مرتبط بقوة بالسوق العالمية وستعكس كل تقلباتها. نشرت الفاينانشل تايمز مؤخرا مقالا لجيوف دير، حمل عنوانا معبرا: Beijing’s burden: A slowing China bodes ill for the world economy.. [عبئ بيجين: بطأ الاقتصاد الصيني نذير شؤم على الاقتصاد العالمي]
بالرغم من الركود الحاصل في الولايات المتحدة فإن الصادرات استمرت في النمو بقوة، حيث توسعت بـ 22 % خلال الثمانية أشهر الأولى من 2008. يرجع ذلك جزئيا إلى أن الشركات الصينية واصلت إيجاد أسواق جديدة لمنتجاتها في اقتصاديات مزدهرة ناشئة أخرى. لكن هذا لا يعمل سوى على تأجيل القدر المحتوم. بعد الأزمة التي ضربت وول ستريت والكساد الذي تعرفه أوروبا واليابان، بدأ المستثمرون يتساءلون عن احتمال دخول الصين في أزمة. فبعد خمسة سنوات من النمو السريع، بدأ الاقتصاد الصيني منذ الآن يظهر مؤشرات واضحة عن التباطؤ. إن أية نسبة نمو أقل من 8 % سيكون لها عواقب وخيمة على الصين وعلى الاقتصاد العالمي. والاقتصاديون قلقون أيضا بخصوص القطاع البنكي في الصين.
هناك منذ الآن مؤشرات على المشاكل في سوق التصدير. فصناعة الملابس في غوانغدونغ تعاني من إجهاد حاد. حسب الإحصائيات الإقليمية، سقطت صادارت الملبوسات والملحقات، ما بين يناير ويوليوز، بـ 31 % مقارنة مع نفس الفترة من السنة الماضية إلى 13,3 مليار دولار (7,2 مليار جنيه استرليني، 9,1 مليار اورو). صادرات السلع البلاستيكية والألعاب والمصابيح راكدة هي أيضا أو هي في انهيار. وقد تزامن هذا مع ضعف الطلب من جانب الولايات المتحدة، حيث تراجعت مبيعات التقسيط خلال يوليوز وأيضا خلال غشت. تراجعت صادرات غوانغدونغ إلى الولايات المتحدة بـ 6,3 % خلال السبعة أشهر الأولى من هذه السنة. لا يمكن أن يكون هذا مجرد صدفة.
الأورو القوي وارتفاع صادرات غوانغدونغ إلى أوروبا بـ 27%، عوضا ضعف الدولار وتقلص السوق الأمريكية. لكن هناك أدلة متزايدة على انكماش حاد في أوروبا، التي تعتبر بدورها أحد أكبر أسواق الصادرات الصينية. سوف ينتهي هذا حتما بالانعكاس على الصادرات الصينية. “يمكن لهذا أن يكون الهدوء الذي يسبق العاصفة” كما قال الاقتصادي في ستاندارد تشارترد في شنغهاي، ستيفان غرين.
هناك قلق أكبر بخصوص سوق المنقولات، الذي كان أحد أهم عناصر ازدهار الاستثمار الذي قاد الاقتصاد الصيني خلال السنوات القليلة الماضية. المبيعات انهارت وتراجعت الأراضي قيد الإنشاء خلال شهر غشت، بينما إنتاج الصلب والإسمنت ومكيفات الهواء ضلت بدون تغيير أو تراجعت خلال الشهر، الشيء الذي يعتبر مؤشرا آخر على ضعف النشاط. يقول المحللون أن الموافقة على الرهن تراجعت بدورها بحدة خلال الأشهر القليلة. قال جيري لو، المحلل في مورغان ستانلي بشنغهاي: “نعتقد أن هناك احتمال كبير لحدوث كارثة في قطاع السكن في الصين”
إذا ما انهار سوق المنازل بحدة خلال السنة المقبلة، سيكون لذلك عواقب خطيرة على القطاع البنكي. إذا ما تراجع الناتج الداخلي الخام إلى أقل بكثير من 8 % خلال السنة المقبلة، سوف يتسبب هذا في سقوط أكثر حدة لأسعار العقار، وسيصاحبه انهيار للاستثمارات الخاصة. وسوف تكون العواقب الاجتماعية والسياسية هائلة.
هناك مؤشرات تحذيرية في جوانب أخرى من الاقتصاد. كان للانهيار الذي عرفته سوق البورصة تأثير سلبي على ثقة المستهلكين. لقد هبطت نسبة الزيادة في المداخيل المدينية بحدة هذه السنة. سقطت مبيعات السيارات خلال الستة أشهر الماضية بـ 6 % وعرفت الرحلات الجوية انخفاضا كبيرا خلال هذا الصيف. صرحت شركة Gome، التي تعتبر أكبر بائع للأجهزة الالكترونية في البلد، أن مبيعاتها لكل متر مربع في دكاكينها قد هبطت بـ 3 % خلال الربع الثاني.
خفضت الحكومة معدل الفائدة، مما يبين أنها تخشى حدوث أزمة. لكن هامش المناورة المتوفر لها فيما يخص السياسة المالية محدود بسبب الخوف من إشعال نار التضخم، الذي بلغ 8,7 % خلال شهر فبراير قبل أن يتراجع إلى 4,9 % خلال شهر غشت. قال رئيس البنك المركزي، زو كسياوشون (Zhou Xiaochuan)، في تصريح له هذا الشهر: “لقد تباطأ التضخم بالفعل خلال البضع أشهر الماضية، إلا أنه لا يمكننا الاطمئنان لأنه يمكن لمعدل التضخم أن يعود للارتفاع.”
حدوث ركود في الصين، أو حتى تباطؤ جدي في النمو سيكون له تأثير جد كبير على السوق العالمية، بدءا بالبلدان المنتجة للمواد الخام في إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. أسعار النحاس، على سبيل المثال، تراجعت بـ 23 % خلال الشهرين الماضيين، جزئيا بسبب الخوف بخصوص استهلاك الصين للمعدن، الذي تراجع بأكثر من النصف هذه السنة.
حول المخادعين والمضاربين
هناك مزاج من الغضب المتصاعد والعداء ضد “السوق”، أي ضد الرأسمالية. وفي مواجهة هذا الغضب يحاول الساسة البرجوازيون من أمثال أليك سالموند، من الحزب الوطني الاسكتلندي، أن يبعدوا الغضب الشعبي عن الرأسمالية نفسها ويوجهونه ضد قطاع محدد من الطبقة السائدة: ’المخادعين والمضاربين‘.
فجأة صار من المعتاد لدى السياسيين أن يعملوا على إدانة هؤلاء الأشخاص الغامضين الذين أضروا بمؤسسات موقرة من قبيل بنك اسكتلندا. قيل لنا أن هذا السيد الجليل استمر في الوجود طيلة ثلاثة قرون وأنه نجا من الحروب النابليونية وانهيار وول ستريت والحربين العالميتين الأولى والثانية، ولم يقضي عليه سوى عصابة من أسماك القرش الجشعة التي ترتدي البذل الأنيقة والنظارات السوداء. إن هذا النوع من ’التفسيرات‘ لا يفسر شيئا على الإطلاق. كيف يمكن لحفنة من الأفراد الجشعين أن يمتلكوا كل هذه القدرة الهائلة؟ من هم هؤلاء الأشخاص؟ ما هي أسماؤهم؟ أي يقطنون؟ لا أحد يدري. إلا أنه من المفيد دائما خلال الأزمات إيجاد شخص لإلقاء اللوم عليه، وإذا ما تصادف أن كان ذلك الشخص مجهولا وغير قابل للتحديد فذلك أفضل بكثير.
فجأة بدأ هؤلاء ’المخادعون والمضاربون‘ يلعبون في الاقتصاد نفس الدور الذي تلعبه منظمة القاعدة في السياسة الدولية. في الواقع جميع أصحاب الأبناك والرأسماليين مخادعون ومضاربون. ويجب عليهم أن يكونوا كذالك لأن النظام الرأسمالي مبني على أساس الخداع والمضاربات. وهو مبني أيضا على الجشع. إن إنكار الجشع يعني إنكار آليات اشتغال اقتصاد السوق، المبني على أساس السعي نحو الربح، أي على الجشع. إن الجشع للربح هو ما يحرك في نهاية المطاف النظام الرأسمالي وهو الذي شكل دافعه منذ ظهوره. نعم لقد صاروا أكثر جشعا وصاروا يربحون أكثر! هذا ما قاله دافيد وولكر، رئيس مؤسسة بيتر. ج. بيترسون ومديرها التنفيذي والمراقب العام السابق للولايات المتحدة:
«هل هناك دروس يمكن استخلاصها من أزمة الرهون العقارية العالية المخاطر الأمريكية (sub prime mortgage)؟ الجواب هو نعم. كان من الضروري اتخاذ الإجراءات الأخيرة لأن الحكومة فشلت في إقامة بنية تحتية منظمة في العلاقة مع الرهونات والاشتقاقات وغيرها من السندات. كان الجشع مفرطا. شركتا فاني ماي وفريدي ماك ابتعدتا عن مهمتهما الأصلية وصارتا أكثر تركيزا على الربح والمكسب الشخصي بدل خدمة الصالح العام. الرقابة المتساهلة كانت نتيجة لضغط لوبيات وول ستريت القوية ولوبي فاني ماي وفريدي ماك» (الفاينانشل تايمز، 22 شتنبر 2008)
هذا صحيح جدا. بينما يتلقى العمال العلاوات مقابل النتائج التي يحققونها، فإن الرؤساء يعطون لأنفسهم مكافئات فاحشة سواء حققوا نتائج أم لا. عندما تحقق شركة ما نتائج جيدة يمكن للعمال أن يحصلوا على زيادة محددة في أجورهم أو علاوات، لكن الرؤساء يعطون أنفسهم الملايين كمنح. وعندما تسجل الشركة نتائج سيئة، لا يتلقى العمال أي شيء، لكن الرؤساء يواصلون تقديم المنح العليا لأنفسهم بإسراف. وعندما تصل الشركة إلى نقطة الإفلاس، يتعرض العمال للطرد مقابل تعويضات هزيلة أو بدون تعويضات (غالبا بدون حتى رواتب التقاعد)، بينما يغادر الرؤساء، المسئولون عن تخريب الشركة، ومعهم منح ورواتب تقاعد ضخمة.
إن هذه حقائق معروفة جدا. منذ سنين والعمال يتمتمون تذمرا من الظلم واللامساواة. لكن عندما كان الاقتصاد يتقدم، وعندما بدا وكأن السوق تقدم نتائج للجميع (ولو أنها نتائج جد متفاوتة)، وعندما كانت الجماهير خاضعة لحملة إعلامية مكثفة من طرف الجرائد والتلفزيون، وعندما كان السياسيون من جميع الأحزاب متفقين بإجماع، كان الجميع يقبل المقولة القائلة أن “ما هو جيد لـ’خالقي الثروات‘ (أي أرباب العمل) جيد بالنسبة إلي أيضا.”
غباء براون
لقد تكررت في هذا الجانب من الأطلسي نفس تلك السيرورة التي نراها تحدث في الولايات المتحدة، لكن فقط على شكل كاريكاتير أخرق ومثير للشفقة. ففي كونفرانس حزب العمال اشتكى براون من ’لا مسئولية‘ البورصة وقال أن المكافئات كانت ’غير مقبولة‘ من بعض النواحي. وقد ردد وزير المالية، أليستير دارلينغ، تعليقات رئيس الوزراء. لكن ’هجماتهم‘ تشبه قيام رجل بضرب كركدن بمنفضة من ريش. وقد كانت تصريحاتهم هزيلة جدا مقارنة حتى مع تصريحات ماك كين وباراك أوباما القاسية ضد وول ستريت.
إن الانحناء السهل الذي قام به براون ودارلينغ خلال مؤتمر حزب العمال يبين أنهما قضيا الكثير من الوقت منبطحين أمام بورصة لندن إلى درجة أنهما فقدا القدرة على رفع هاماتهما. في ظل وضع يوجد خلاله مئات آلاف العمال فجأة مهددين بفقدان مناصبهم ومنازلهم ومدخراتهم، يصبح في إمكان حتى أكثر الإصلاحيين تطرفا أن يعرف أن إدانة خداع أصحاب الأبناك وجشعهم مسألة تجلب الشعبية. إن هذا دليل على الإفلاس التام وعلى غباء هؤلاء الذين يطلق عليهم اسم قادة حزب العمال، الغير قادرين حتى على تبني ولو ذلك الهجوم الديماغوجي على كبريات الشركات الذي شنه أوباما وماك كين.
إنهم لم يصلوا حتى إلى درجة راديكالية كنيسة إنجلترا، التي قام إثنان من أشهر وجوهها بإدانة الممارسات الفاسدة التي قام بها المتاجرون الماليون. في مقال نشرته The Spectator، هاجم رئيس أساقفة كانتربري، الدكتور روان ويليامز، «المضاربات الورقية التي ليست لها أية نتيجة ما عدا أرباح المتاجرين فيها». وقال أنه عندما بدأت هذه المعاملات تسير بشكل سيء تسببت في «ضرر حقيقي وشديد».
أثار الدكتور ويليامز الانتباه إلى تجارة القروض، التي قال عنها أنها: «كانت بشكل غير مسئول… محرك الأرباح المالية الفلكية للعديد من الناس خلال السنوات الأخيرة». وقال أن الأزمة المالية الحالية: «تبين عنصر الوهم المتضمن في الوضع، تبين حقيقة توزيع ثروات لا تتصور، بمستويات من الوهم لا تتصور، وأوراق المضاربات بدون أية نتيجة ملموسة ما عدا أرباح المتاجرين». وواصل قائلا: «بالنظر إلى أن الخطر المحدق بالاستقرار الاجتماعي هائل جدا، فإنه لا حاجة إلى الزعم بأنه في إمكان عالم المال أن يتمتع بشكل دائم بالاستثناء من الرقابة والضبط الذي تعود عليه» (التشديد من عندي، آ و)
نجد هنا جوهر المسألة. ممثلو الرأسمالية (بمن فيهم الدينيون) يشعرون بالأرض تهتز تحت أقدامهم. إنهم يخشون من العواقب الاجتماعية والسياسية لهذه الأزمة، التي تشكل خطرا كبيرا على الاستقرار الاجتماعي، ويناشدون الحكومة وأرباب العمل بأن يقوموا بشيء ما قبل أن يفوت الأوان. لكن ماذا يقترح الدكتور ويليامز؟ يقول فقط أن: “إضعاف قبضة النظام المالي” شيء ضروري لتشجيع الشركات وخلق الثروة من أجل “تخليص كل السكان من الفقر”. إن هذا تطلع نبيل، لكنه مستحيل التطبيق على هذه الأرض الشريرة.
وقد كان زميله، الدكتور سينتامو، رئيس أساقفة يورك، أكثر قسوة منه. أعلن البنك البريطاني الكبير Lloyds TSB خلال الأسبوع الماضي أنه وافق على دفع مبلغ 12,2 مليار جنيه استرليني من أجل الاستيلاء على بنك HBOS بعد هبوط قيمة الأسهم في هذا الأخير. ومنذ إتمام هذا الاستيلاء قام العديد من المعلقين بانتقاد المتاجرين الذين باعوا أسهما مقترضة بسعر أدنى من قيمتها الحالية، مراهنين على أن الأسعار ستهبط أكثر قبل أن يعيدوا شرائها.
صرح الدكتور سينتامو خلال حفل العشاء السنوي للشركة الدولية المبجلة لأصحاب الأبناك: «وجدنا أنفسنا في نظام سوق بدا وكأنه أخذ قوانين التجارة من عالم آليس العجائبي.» وواصل قائلا: «بالنسبة إلى متفرج مثلي، يعتبر هؤلاء الذين حققوا 190 مليون جنيه استرليني من خلال العمل بشكل متعمد على بيع أسهم HBOS بأقل من ثمنها، بالرغم من وجود رأسمال أساسي كبير جدا، ورموا به بين أيدي بنك Lloyds TSB، هم بوضوح لصوص بنوك وسارقو أموال».
مثل هذه اللغة القوية من فم الرجل الرباني كانت جد غير متوقعة ومن الأكيد أنها تسببت في سوء الهضم لدى الشركة المقدسة. كما أن أصحاب الأبناك المجتمعون لم يكونوا سعيدين جدا بسماع تعليقات رئيس الأساقفة حول خطة وزارة المالية الأمريكية القاضية بإنفاق مبلغ 700 مليار دولار(382 مليار جنيه استرليني) لشراء القروض الميئوس منها التي هي في ملكية الأبناك وغيرها من المؤسسات المالية.
تحدث رئيس الأساقفة عن الحاجة إلى أنظمة مالية مستقرة إذا ما أردنا القضاء على الفقر، لكنه أضاف: «أحد سخريات الوضع بخصوص هذه الأزمة المالية هي أنها تبين أن القضاء على الفقر مسألة ممكنة جدا. خمسة ملايير دولار (2,7 مليار جنيه) هي المبلغ الضروري لإنقاذ حياة ستة ملايين طفل. لقد تمكن قادة العالم من أن يجدوا ضعف هذا المبلغ 140 مرة، لفائدة النظام البنكي خلال أسبوع. كيف يمكنهم أن يقولوا لنا أن الأعمال لصالح الفقراء مكلفة جدا؟»
وبينما أنا بصدد كتابة هذا المقال، يجتمع قادة العالم في الولايات المتحدة من أجل تحقيق تقدم في أهداف الألفية، ووضع أهداف لتقليص الفقر العالمي وتحسين مستويات العيش مع حلول سنة 2015. يمكننا أن نضع ثقتنا في الله ونأمل أن يكون لتحذيرات رئيس الأساقفة الصارمة التأثير المطلوب، لكن كل تجاربنا تقودنا إلى الشك في أن الحال سيكون كذلك.
بل حتى الفاينانشل تايمز أشارت:
«حتى خلال أوقات الازدهار، قلة هم الناس الذين يبتسمون بحرارة وهم يقارنون مداخيلهم الهزيلة مع المكافئات الضخمة التي تتلقاها الأقلية المحظوظة.
«الحسد البسيط صار غضبا مبررا الآن، أولا بفعل الضرر الذي سببه الانهيار المالي للأبرياء، والآن بفعل سلسلة الشيكات البيضاء التي أصبح دافع الضرائب مجبرا على توقيعها تحت الإكراه. وقد بدأت تظهر ردود الفعل. من المفيد تمييز العلاوات الضخمة عن الأجور والتي تشجع التهور. إن مسألة أجور القطط السمان لا تعني سوى حاملي الأسهم الذين يؤدون تلك الأجور، لكن مسألة مكافئة التهور مشكلة بالنسبة إلينا جميعا.
«لقد تلقى الكثير من المدراء الاستثماريين أجورا عالية على الإنجازات التي بدت باهرة لكنها كانت تحبل ببذور الكارثة. وهاهي الكارثة قد وصلت، تعرض المستثمرون للإبادة، ودافعوا الضرائب ينتظرون دورهم، لكن المدراء لا يزالون يحتفظون بالعلاوات التي جمعوها خلال سنوات الرخاء.»
لكن ومن أجل تعديل الميزان تضيف:
«علينا أن نعترف للسيد بروان والسيد دارلينغ أنهما لم يركزا على الأجور العليا بل على مخططات الدفع التي تكافئ المقامرين.»
إن حقيقة أن كل من يشترون الأسهم ويبيعونها هم مقامرون وأن المقامرة في البورصة هي شغلهم، مسألة يتم التستر عليها ببراعة.
يواصل صحفيو الفايننشل تايمز (الذين يتمكنون بطريقة ما من الاحتفاظ بمظهر الجدية) قائلين:
«تتوقف الخطوة التالية الآن على سلطات الخدمات المالية، على مراقبة بورصة لندن، لكن اكتشاف المشكلة أسهل من حلها. التحدي الآن هو مكافئة المدراء الاستثماريين على إنجازاتهم الحقيقية. لو أن هذا كان سهلا، لكان حملة الأسهم يقومون به بشكل دوري. ومن بين المقاربات الخاطئة تحديد العلاوات على أساس الانجازات البعيدة المدى، تأجيل الأداء إلى حين انقشاع الغبار، أو الإصرار على أن يغامر المدراء بجزء من ثروتهم. لكن من الصعب تخيل قواعد صارمة وسريعة.
«الطريق العملي للتقدم هو أن تدرس سلطات الخدمات المالية خططا محفزة كجزء من تصورها الشامل لاستقرار الشركات المالية. من المثير للتفاؤل توقع الكثير من هذا المجهود، لكن التشريعات بخصوص علاوات بورصة لندن ستكون لها نتائج عكسية تماما. حيث يمكن مراوغة مثل هذه القوانين بسهولة من خلال إخفاء المخاطر أو إرسالها إلى الخارج.»
من الواضح أن سياسات العماليين الجدد تحددها افتتاحيات الفايننشل تايمز الأخيرة.
“الاقتصاد المكثف”
سبق للينين أن أشار إلى أن السياسة هي تكثيف للاقتصاد. وقد بدأت الأزمة الاقتصادية التي تجتاح العالم تمارس تأثيرا هائلا جدا على نفسية جميع الطبقات، بدءا من الرأسماليين أنفسهم. خلال المرحلة التي كانت فيها الرأسمالية تتقدم إلى الأمام، كان ضغط الأفكار البرجوازية على الطبقة العاملة ومنظماتها مضاعفا. في بريطانيا لم يحدث أي كساد اقتصادي جدي منذ أكثر من عقدين. ومن ثم فإن حجج السياسيين والاقتصاديين البرجوازيين (اللذين يشتغلون معا بتعاون وثيق) بخصوص محاسن ’السوق الحرة‘ العجائبية، كانت تجد صدى لها حتى بين صفوف الطبقة العاملة، لكن بوجه خاص بين صفوف قادتها.
كان هذا هو الأساس المادي للانحطاط التام للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية و’الشيوعية‘ في أوروبا وقادة النقابات في كل مكان. وفي بريطانيا، التي كانت في طليعة الثورة المضادة الرأسمالية خلال العقود الثلاثة الماضية، كان ذالك هو الحقل الذي نشأت فيه وازدهرت النزعة العمالية [نسبة إلى حزب العمال -المترجم-] الجديدة في ظل قيادة ريفيراند وأنطوني بلير.
لقد كانت تلك المرحلة بالنسبة لمناضلي حزب العمال، كابوسا بدا وكأنه لن ينتهي. بدا وكأنه ليست هناك من نهاية لانحطاط قادة المنظمات العمالية، وأنه ليس هناك من عمق يعجزون عن النزول إليه، وأنه ليس هناك من عمل حقير يستنكفون عن القيام به لإرضاء الطبقة السائدة والسوق طبعا. يأس المناضلين دفع بهم إلى الخمول وإخلاء المنظمات العمالية التقليدية، التي امتلأت بالوصوليين البرجوازيين الصغار الباحثين عن منصب شغل وعن الارتقاء الاجتماعي. هذا بدوره أدى إلى المزيد من الانحراف نحو اليمين، مما زاد في تعميق نفور العمال. كانت تلك حلقة مفرغة جهنمية تدور حول نفسها واستمرت لحد اللحظة. لكن الآن بدأت الأشياء تتغير بسرعة.
إن الوعي الإنساني محافظ بشكل عام. الناس بطبيعتهم يخشون التغيير ويتشبثون بما هو مألوف لديهم. العادة والروتين والتقاليد تجثم بثقل هائل على وعي الجماهير، التي تتخلف وراء الأحداث. لكن خلال اللحظات الحرجة في التاريخ تتسرع وثيرة الأحداث إلى النقطة الحرجة التي يقفز فيها الوعي من خلال الطفرة. ولقد وصلنا الآن إلى هذه النقطة الحرجة.
ما يصدق على الأمم المصنعة في العالم يصدق عشر مرات على ما يطلق عليه أحيانا اسم ’العالم الثالث‘. عدد البشر الذين يعيشون في ظل الفقر المدقع يتزايدون بشكل سريع في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وفي تقرير صدر مؤخرا عن الأمم المتحدة نجد أن ربع جميع الأطفال في البلدان النامية يعانون من نقص الوزن؛ وأكثر من 500,000 امرأة تموت سنويا أثناء الوضع أو لسبب تعقيدات مرتبطة بالحمل؛ وأن ثلث سكان المدن في البلدان النامية يعيشون في الأحياء الهامشية. وقد حذر تقرير لـ Inter-American Bank صدر هذا الصيف من أن ارتفاع الأسعار سيرمي بـ 26 مليون شخص في أمريكا اللاتينية إلى ظروف من العوز المطلق. هذا هو الحال بعد مرحلة طويلة من النمو الاقتصادي على الصعيد العالمي. هذا هو أفضل ما أمكن للرأسمالية أن تقدمه. ما الذي سيحدث في ظل ظروف الأزمة؟
إننا إذن أمام ظاهرة عالمية حبلى بالإمكانات الثورية. وهكذا فإن العولمة تعبر عن نفسها باعتبارها أزمة عالمية للنظام الرأسمالي.
ما هو الحل؟
يقال أن الأزمة الحالية هي نتاج لفشل نظام الرقابة ضد المغامرات الخطرة للنظام المالي، وخاصة في الولايات المتحدة. كما يقال أنه: “علينا أن نتأكد من عدم تكرار حدوث ذلك مجددا”. إن هذا مضحك فعلا! إذ طيلة العقود الثلاثة الماضية كان الاقتصاديون والسياسيون البرجوازيون يقولون عكس ذلك تماما: كانوا يقولون أن كل رقابة هي مسألة سيئة للاقتصاد ويجب إلغائها (وقد كان ينصح بتطبيق هذا بالنسبة للقطاع المالي خاصة).
ليست التصريحات الديماغوجية حول الحاجة إلى الحد من المكافئات المبالغ فيها والرقابة على أجور المدراء التنفيذيين، سوى كلام فارغ. كيف يمكن تحقيق هذه المعجزات؟ بأية آلية؟ لدى أصحاب الأبناك آلاف الطرق لتلافي الرقابة. إنهم يخفون دفاتر الحسابات مما يجعل من المستحيل اكتشاف نشاطاتهم المشبوهة. بل إنه حتى الحكومة الأمريكية تستخدم هذه الألاعيب من أجل التستر على الأبعاد الحقيقية لعجز ميزانيتها.
إن الحجج بخصوص مراقبة أسواق المال سخيفة، كما كان حال قرار الحضر (المؤقت) على ممارسة بيع الأوراق المالية المقترضة “selling short“. لكي يمكن للأسواق أن تشتغل من الضروري للناس أن يبيعوا ويشتروا الأسهم، وعليهم أن يقوموا بذلك على قاعدة التقديرات بخصوص ما إذا كانت أسعار الأسهم سترتفع أو ستنزل. إن الفكرة القائلة بأنه من المسموح شراء الأسهم فقط عندما تكون في ارتفاع هي فكرة شديدة السخافة.
وكالات تقييم أهلية الاقتراض، التي من المفترض فيها أن تميز القروض الجيدة من السيئة، اعتبرت بعض الرهون مضمونة دون النظر إلى ضعف الرهون. وبنفس الطريقة افترض مشترو الدين الأمريكي، الذي أصدرته شركتا فاني ماي وفريدي ماك، بمرح أن الحكومة الأمريكية قد تكفلت به. والنتيجة هي أن دافع الضرائب الأمريكي يقف الآن أمام أكثر من 5,000 مليار دولار من الرهون ولا يزال من السابق لأوانه توقع مبلغ الفاتورة النهائية.
الخلاصة واضحة جدا. إما أن تكون هناك سوق حرة مؤسسة على السعي نحو الربح، أو أن يكون هناك اقتصاد مخطط مؤمم. أما ’ترشيد الرأسمالية‘ فهي عبارة متناقضة. وقد وضعت الفاينانشل تايمز هذه المسألة بشكل واضح، حيث نجد في أحد مقالاتها:
«مهما كانت جرأة الأفكار التي يطرحها السياسيون من أجل كبح الأجور الضخمة المثيرة للجدل، فإن العقول اللامعة في القطاع المالي ستجد طريقة للالتفاف عليها أو أنها ستخرج من الجزء المراقب في الصناعة»
إن ما يلزم هو القضاء على هذا الكازينو الهائل الذي يقرر مصير ملايين البشر وتعويض فوضى الرأسمالية بمجتمع عقلاني مؤسس على الاقتصاد المخطط. يقال أن الإجراءات التي اتخذها بوش وبراون تمثل تأميما. إلا أنه ليس لهذه الإجراءات أية علاقة مع الفكرة الاشتراكية عن التأميم. ليس هدف تلك الإجراءات نزع السلطة الاقتصادية من بين أيدي الطفيليين الأثرياء الذين يمثلون ثقلا هائلا على كاهل المجتمع وعائقا في طريق التقدم. بل على العكس تمثل تلك الإجراءات محاولة لحماية مصالح هؤلاء الطفيليين من خلال منحهم مساعدات ضخمة منتزعة من جيوب الطبقة العاملة والطبقة الوسطى.
يعارض الاشتراكيون بشكل جذري هذه السياسات، التي ليست لها أية علاقة مع التأميم الحقيقي والتي ليست سوى شكل من أشكال رأسمالية الدولة، الهدف منها الحفاظ على النظام الرأسمالي. إنها سياسات تقود حتما إلى احتداد الاحتكار، والتسريحات الجماعية وإغلاق الأبناك وارتفاع أسعار الرهون وغيرها من الإجراءات المعادية للطبقة العاملة. يتلقى أصحاب الأبناك المكافئات على نشاطاتهم الإجرامية، من طرف الدولة التي تشتري منهم كل خسائرهم، وبعد ذلك تنفق المزيد من المبالغ الطائلة من أموال دافعي الضرائب من أجل جعل تلك الشركات مربحة، وعندما يتحقق ذلك يعاد بيعها لأصحاب الأبناك، الذين سيحققون هكذا ربحا مضاعفا على حساب المجتمع. بعد ذلك يمكنهم أن يعودوا مجددا إلى مضارباتهم واحتيالهم.
إن ما يلزم هو نزع زمام الاقتصاد من بين أيدي الخواص عبر تأميم الأبناك وشركات التأمين وكبريات الشركات مقابل أقل ما يمكن من التعويضات على أساس الحاجة فقط. فقط عندما تصير قوى الإنتاج بين أيدي المجتمع، حيث سيصبح من الممكن إقامة مخطط اشتراكي عقلاني للإنتاج، حيث ستتخذ القرارات لصالح المجتمع، وليس لصالح حفنة من الطفيليين الأثرياء والمضاربين.
هذا هو الهدف الرئيسي للاشتراكية. إنها فكرة ستصبح الآن مفهومة ومرحبا بها من طرف ملايين البشر الذين كانوا في السابق يعتبرونها كشيء شاذ وغريب. إن هؤلاء الذين تظاهروا في شوارع نيويورك ضد مخطط بوش لم يكونوا اشتراكيين. وربما كانوا قبل عام من الآن مدافعين عن السوق الحرة. إنهم لم يقرءوا ماركس في حياتهم أبدا ولا بد أنهم يعتبرون أنفسهم أمريكيين وطنيين. لكن الحياة تعلم وفي ظل وضع كهذا يتعلم الناس في أيام قليلة أكثر مما تعلموه طوال حياتهم. إن الطبقة العاملة الأمريكية تتعلم بسرعة. وكما سبق لفيكتور هوغو أن قال: «ليس هناك من جيش أقوى من فكرة حان وقتها.»
التعليقات مغلقة.