ما لا يبوح به الآخرون : قضية فلسطينية أم مشكلة اسرائيلية ؟ ( الجزء الأول ) / د. لبيب قمحاوي
د.لبيب قمحاوي ( الأردن ) الثلاثاء 3/10/2017 م …
القليل مما نحن بصدده يُقال و الكثير منه لا يُقال إما عن جهل أو خوف أو لؤم . و الخطر الأكبر هو في الأفكار التي يحملها البعض ولا يتم البوح بها أو الافصاح عنها ولكنها مع ذلك تتسلل خِلْسَة على مسرح الأحداث تؤثر بها وتتفاعل معها إلى أن نَصْحوا ذات يوم ونراها جزءاً أسوداً من حياتنا ومن واقعنا ومصيرنا السياسي .
لقد حان الوقت لأن يتم التعامل مع القضية الفلسطينية من منظور مختلف يعترف بوجود أطراف أخرى مؤثرة على طبيعة هذه القضية وعلى مسارها ومستقبلها ، وإن كان هذا الاعتراف لا يعني بالضرورة القبول أو التسليم بأحقية تلك الأطراف . إن النظر بموضوعية الى قضية بدأت تنزلق الى أعماق سحيقة بحكم فشل القيادات الفلسطينية بالاضافة الى الانهيار و التشتت و الفرقة العربية في الوقت الذي ابتدأ فيه المجتمع الشبابي الغربي و العالمي في التعبير المتواصل عن رفضه للإجرام الاسرائيلي و التمييز العنصري الجائر بحق الشعب الفلسطيني جَعَلَ من هذه التطورات سبباً لضرورة إعادة النظر في مجمل القراءة الفلسطينية و العربية لطبيعة القضية الفلسطينية و مستقبل الصراع العربي-الاسرائيلي . ويبقى التساؤل ، هل تجاهل البعض المتَعَمَّد أو العفوي لوجود اسرائيل كقوة إقليمية تحتل كامل الأرض الفلسطينية امراً يعكس وطنية متشددة أم سذاجة أم رفضاً لحقائق مرفوضة ومؤلمة ولكنها موجودة ؟ قد تكون الإجابة في مجموع تلك التساؤلات ، ولكن الهدف في النهاية هو التوصل الى طريق للعمل تخدم الهدف الوطني الفلسطيني .
يتعاملُ معظم العرب مع القضية الفلسطينية من المنظور الفلسطيني و العربي متجاهلين أن هنالك طرفاً آخََرَ مباشراً في هذه المعادلة الشائكة وهو الإحتلال الاسرائيلي . القضية الفلسطينية هي قضية المُطَالَبٍِة بوجود فلسطين العربية و القضية الإسرائيلية هي قضية وجود اسرائيل كأمر واقع . البعض يختار ان يتعامل معها من المنظور الفلسطيني باعتبار أن هذه القضية هي قضية الحقوق العادلة للشعب الفلسطيني وحقه في أرضه و وطنه و دولته وحق الشعب الفلسطيني في الإستقلال الناجز و الحرية ، أما الآخرون ومنهم العديد من دول العالم الغربي و أمريكا و الدول المؤيدة لإسرائيل فإن القضية هي أمن اسرائيل و مستقبلها كدولة يهودية ليهود العالم . إن كيفية الاستجابة لتلك المطالب من هذا المنظور أو ذاك هو ما يشكل أرضية التعامل مع هذه القضية باعتبارها إما قضية فلسطينية أو قضية اسرائيلية . بحديث آخر ؛ مانحن بصدده الآن هو عنوانان لمشكلة واحدة : القضية الفلسطينية أم المشكلة الاسرائيلية ؟
دعونا نقترب من هذا الموضوع الدقيق و الحساس بوضوح و أفق مفتوح وبمنهجية علمية قد تساعد على ايجاد رؤيا جديدة أو مدخلاً جديداً لهذه المشكلة القديمة المتجددة و التي يَنْظر اليها العالم بوجهين مختلفين متضادين يزدادان تعقيداً يوما بعد يوم ، وعلى أن يكون كل ذلك ضمن الرؤيا الوطنية وثوابتها. ويبقى السؤال ، هل نحن و العالم معنا بصدد حل القضية الفلسطينية أم حل المشكلة الاسرائيلية ؟
عند الحديث عن القضية الفلسطينية أو المشكلة الاسرائيلية علينا أن نعترف بوجود مجتمعين متباينين على أرض فلسطين العربية التاريخية : المجتمع العربي الفلسطيني و المجتمع اليهودي الاسرائيلي .
المجتمع اليهودي الاسرائيلي لا يملك كمجتمع أي صفات حقيقية جامعة تميزه سوى امتلاكه لناصية القوة العسكرية التي توفر الاطار و الوعاء لصهر مكوناته من المجموعات البشرية المبعثرة هنا وهناك والتي تنتمي الى عوالم ولغات و ثقافات مختلفة و التي أصبحت ملمومةً في الزمان و المكان تحت مسمى المجتمع اليهودي الاسرائيلي في كيان واحد يجمعها دين واحد و مصلحة واحدة في استعمار فلسطين ولا شئ آخر؛ في حين أن الشعب الفلسطيني الذي كان موحداً على أرضه وفي وطنه أصبح الآن وبحكم الاحتلال مبعثراً مشتتاً في عوالم ومجتمعات مختلفة إستهلكت جزأً من خصائصه الفلسطينية كما كانت قبل الشتات ، و حولته من شعب واحد و مجتمع كامل التعريف الى شعب مكون من مجموعات بشرية متمايزة و مختلفة ولكن بقي يجمعها بالرغم من كل ذلك إنتماء فلسطيني عام وواضح و رغبة أكيدة في العودة أو التحرير وهي رغبة تلبي حقاً طبيعياً وغريزة انسانية يتشارك فيها كل أبناء فلسطين . الواقع الديموغرافي و ظروفه أثرتَّ إذاً على الفلسطينيين سلباً من خلال الشتات و التهجير من فلسطين، و كذلك على الاسرائليين من خلال الهجرات المتعددة الى فلسطين . وهكذا وبالرغم من تعارض الأسباب وتعاكسها فإن النتيجة كانت واحدة ، و السبب أنه في كلا الحالتين فإن ما جرى لم يكن أمراً طبيعياً و في سياقة التاريخي بل كان أمراً مفروضاً و مصطنعاً بحكم أحداث غير طبيعية فَرَضَتْ على البشر المعنيين سلوكاً غير طبيعي و أَدّت في معظم الاحيان الى نتائج غير طبيعية مقارنة بالنتائج فيما لو سارت الأمور في سياقها التاريخي الطبيعي .
ان اتجاه المجتمع الاسرائيلي المضطرد نحو اليمين و التعصب و الانغلاق الإقصائي قد يعود جزئياً الى أن ذلك المجتمع قد ابتدأ يصبح اسرائيلياً اصولياً مغلقاً أكثر من كونه صهيونياً ليبرالياً منفتحاً على اليهود الآخرين ، إذ كلما ازدادت إسرائيلية ذلك المجتمع ضعفت صهيونيته بمعنى تأثيرها على صفة المجتمع و أولوياته . فعلاقة المجتمع اليهودي الآن بالصهيونية العالمية أقرب ما تكون الى “الحبل السري” الذي يفقد أهميته عندما يتطور الجنين الى مولود قادر على القيام بوظائفه الحيوية بمعزل عن الأم . وهكذا حال المجتمع الاسرائيلي الذي أصبحت حاجته للمهاجرين أقل كلما اكتملت مسيرته في استعمار الأرض الفلسطينية والى الحد الذي يصبح فيه تدفق مزيد من المهاجرين اليهود عبأً أكثر منه حبل نجاة . ولكن و بالرغم من ذلك يبقى إصرار اسرائيل على الادعاء بتمثيل يهود العالم أمراً هاماً لتعزيز قدرتها على الاستمرار في استدرار عطف يهود العالم ونفوذهم لدعم اسرائيل كدولة يهودية ليهود العالم حتى لو كان ذلك الادعاء نظرياً. و الشعار المطروح الآن بأن اسرائيل هي دولة يهودية ليهود العالم انما المقصود به الفلسطينيون وإلغاء حقهم في فلسطين . المجتمع الاسرائيلي يسبح الآن في فضائه الخاص به بشكل متزايد و أصبح بالتالي يُرَكَّز على إسرائيلية المجتمع اكثر من صهيونية المجتمع ، بالاضافة الى أن التفوق العسكري الاسرائيلي و التفتت العربي أعطى المجتمع الإسرائيلي شعوراً متزايداً بالثقة وبأن هذا التفوق مبني على تضحيات المجتمع الاسرائيلي وليس على إنجازات الحركة الصهيونية.
التفوق العسكري الاسرائيلي الساحق على مستوى الاقليم قد أعطى الاسرائيليين الشعور برفاهية القوة التي تسمح لهم بفعل أي شئ قد لا يقدر عليه الآخرون بحكم كونه منافياً للسلوك الإنساني أو للأعراف و المواثيق الدولية . وفي المقابل أعطى الشعور بالضعف العسكري لبعض الفلسطينيين ، و خصوصا قادتهم ، العذر للقبول بما يتعارض و مصالح الشعب الفلسطيني و أهدافه الوطنية . وكلا الأمرين يشتركان في كونهما خارج نطاق المألوف و المقبول في منطق الأمور و طبقاً للمقاييس و الاعراف الدولية و الوطنية للأمم . ولكن وفي ظل غياب القدرة الفلسطينية و العربية على الحسم العسكري أو تحييد التفوق العسكري الاسرائيلي ، وبحكم طول فترة الاحتلال و استمراريتها ، قد يكون الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الأقرب الى فهم العقلية الاسرائيلية و كيفية التعامل معها بل و الأهم من ذلك التعايش معها كأمر واقع وليس كأمر يعترف بشرعيتها . وهذا القبول المبني على مفهوم التعايش ما زال أمراً صعباً ان لم يكن مستحيلاً على معظم العرب و الفلسطينيين في الشتات و الذين يرون في التعامل مع اسرائيل تطبيعاً وتنازلا عن الحقوق العربية في فلسطين . ان هذا التمزق بين الواقعية التي تعكس واقع الاحتلال وقسوته و استمراره ، و الوطنية التي تعكس الحقوق و الأمل في التحرير يشكلان المُعْضلة التي تجابهها كل الأطراف . أين هو الصحيح ؟ هل هو في التعامل مع واقع الاحتلال و محاولة الاستفادة من ذلك التعامل للصمود و البقاء على الأرض ، أم التشبث بالأهداف الوطنية و الأمل في التحرير و رفض القبول بالأمر الواقع مهما كانت النتيجة بالرغم من الضعف و الفرقة العربية و الفلسطينية و التفوق العسكري الاسرائيلي .
واقعية الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال يجب أن لا تعني بالضرورة تنازله عن حقوقه الوطنية ، وفي المقابل فإن أصحاب المواقف العقائدية أو المتخندقة لا تقبل في العادة بفتح أي حوار معها في هذا الخصوص فهي إما مع أو ضد ولا ثالث بينهما . لغة الحوار بين الفلسطينيين تفترض القدرة على التحاور و الإستعداد للقبول بنتائجه . وواقعية الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال لم تأتِ نتيجة تفكير أو حوار وطني بقدر ما جاءت نتيجة لواقع فرضه جبروت الاحتلال و إستمراره و اضطرار المواطنين للتعامل معه بحكم سيطرته على كل شئ و على كافة المقدرات الحياتيه للفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال . و هذا الأمر لا يقبل أو يبرر ما فعلته السلطة الفلسطينية و التي جاء برنامجها السياسي عن سبق اصرار و نتيجة تفكير و تخطيط و قرار من قيادة حركة فتح أُخِذَ عن وعي كامل بطبيعته و نتائجه متناسين الموعظة الخالدة في القصة الكلاسيكية “ليلى و الذئب “. بأن الضعيف لا يستطيع أن يشاطر القوي فراشه ويحتفظ بحياته أو بشرفه ، ولكن السلطة الفلسطينية لا تُريد أن تعلم أو تتعلم .
مشكلة الفلسطينيين الآن هي مع السلطة الفلسطينية كما هي مع الاحتلال الاسرائيلي . فالسلطة هي في الواقع ظِلّ الاحتلال . وكما يؤكد الواقع و المسار الاسرائيلي صعوبة انسحاب اسرائيل سواء سلماً أم حرباً ، فإنه وبالمقدار نفسه ، يؤكد صعوبة التخلص من السلطة الفلسطينية كقيادة للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال ، وهنا تكمن المشكلة . لمن سيلجئ الفلسطينيين ليقودهم في مرحلة ما بعد السلطة الفلسطينية ؟ وهل يمكن للفلسطينيين التخلص من السلطة وهل سيسمح الاحتلال بذلك كون السلطة هي الامتداد الفلسطيني للاحتلال الاسرائيلي نفسه ؟
إن فهم الفلسطينيين تحت الاحتلال للعقلية الاسرائيلية قد مَكَنهم بالنتيجة ، وفي ظل غياب نهج المقاومة من فكر القيادة الفلسطينية و برنامج عملها ، من التعامل مع الاحتلال بنِدَّية تخلو من الخوف أو الاستكانة . وهذه الندية هي ما يميز نضال الفلسطينيين تحت الاحتلال منذ الانتفاضة الأولى وحتى الآن . فأسلوب الكر والفر اختفى لصالح اسلوب الصمود و التحدي الذي يسعى الى مقاومة مستمرة وشبه يومية للمخطط الاسرائيلي الصهيوني في استعمار الأرض دون البشر . و هذا لا يعني عدم وجود عناصر فلسطينية ذات نفوس ضعيفة تتعاون مع الاحتلال ، و لكن الأمور يجب أن لا تقاس من منظورها السلبي فقط ، فالفلسطينيون تحت الاحتلال الجائر و الاستيطان المجنون لايملكون من خيار سوى الرفض والاصرار على استمرار الحياة و التواجد على أرض الوطن بأي وسيلة ومهما كان الثمن وهذا بحد ذاته شكل من أشكال المقاومة ، كون الفَنَاء أو خلق أمة فاشلة هو بالنتيجة الهدف الحقيقي للاحتلال الذي يريد الأرض دون البشر ……. يتبع
التعليقات مغلقة.