السلفية الجهادية في سطور (1) + (2) / محمد مختار قنديل
محمد مختار قنديل ( الخميس ) 19/3/2015 م …
برزت السلفية الجهادية بناء على مزج بين الفكر الوهابي والمنظومة الأصولية القطبية في «الإخوان المسلمين»، وظهر هذا في بعض الأمثلة كالسلفية السرورية نسبة لمحمد سرور بن نايف زين العابدين. ففي الحقبة الناصرية والساداتية فرّ الكثير من المصريين والسوريين إلى المملكة العربية السعودية، عندئذ برز اتجاه يسعى للتوفيق بين عقيدة محمد بن عبدالوهاب السلفية وبين الأفكار القطبية الحاكمية، وركز في تلك النقطة على عقيدة الولاء والبراء واستبدالها بالحاكمية التي لم تختف بل بقيت كفكرة، ويُعنى هنا بالولاء الولاء للمسلمين ككل والبراء البراء من المشركين كافة.
تلك الحركة تبلورت فعلياً في شكلين. أحدهما تيار فكري تبنى السلفية الجهادية نظرياً وآخر ظهر كتيار حركي متمثل في تيارات السلفية الجهادية بدءاً بجماعة «الجهاد» في مصر وصولاً لأكثرها بلوغاً في الحرب الأفغانية، ومروراً بتنظيم «القاعدة» ونشأة تنظيم «الدولة».
ويخلط البعض في الكثير من الأحيان بين السلفية والأصولية. لكنْ ثمة عامل زمني أساسي، يضع خطاً فاصلاً بينهما. فالأولى تهتم بالحاضر وتسعى لتخليصه من الشوائب استناداً إلى منهج السلف الصالح وأفعالهم. أما الثانية فتنطلق إلى المستقبل من ركاب الحاضر، حيث تتبنى فكرة مفادها أن المجتمع الإسلامي القديم قد زال، وشغل مكانه التحديث والتخريب والكفر، وعليه لابد من التصدي لذلك لإقامة المجتمع الإسلامي والشريعة الإلهية.
الأساس الفكري للجماعات الجهادية يتلخص في «الحكم بما أنزل الله»
. تلك الحجة التي ينطلق منها الجهادي ويضع تصوّراته عما يلقبه بالشريعة. والتي تترادف بشكل كامل مع مفهوم الفقة لديه. وارتبطت إسنادات الحكم بما أنزل الله في الفكر الجهادي المعاصر بالمقولات القطبية الإخوانية ومبدأ الحاكمية التي نقح بها قطب أنواع التوحيد لدى ابن تيمية. فإضافة إلى توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات و «توحيد الألوهية»، ظهر توحيد التشريع ومنه استقت الجماعات الجهادية فكرها بداية من الأب الروحي للجماعات الجهادية عبدالله عزام.
وتنطلق فكرة «الحكم بما أنزل الله» بداية من الإقرار بتكفير الحكام الذين يحكمون بالقوانين الوضعية، وعليه يصبح الموالون وغير المكفرين لهم كفاراً في نظر تلك الجماعات. ومن هنا تتعالى الصيحات التي تفيد بغياب الإسلام وتفشي الردة. ومن ثم لابد وأن يكون الجهاد محور تلك المرحلة. وعليه تأتي المرحلة الثانية غير المحسوبة لكن الواجبة. وهي الخروج على هؤلاء الحكام من قبل المجاهدين وقتالهم. ومن ثم تأتي المرحلة الثالثة التي تفيد بعدم جواز إمامة هؤلاء الحاكم وتجاهل شرعيته وختاماً تأتي المرحلة الرابعة التي تطبق فيها الحدود الإسلامية ويُقام فيها شرع الله وينصّب الخليفة على المسلمين. ومن تلك التدريجات جاءت فكرة تقسيم المجتمعات بين دار إسلام ودار كفر.
عندما نتحدث عن المصادر الفقية والفتاوى الجهادية عقب مبدأ الحاكمية، فإننا بالضرورة والتفرد نعود إلى «الدعوة النجدية» مع بعض الاجتهادات. و «الدعوة النجدية» أو دعوة منطقة نجد تتمثل في إرث أئمة تلك الدعوة، بدءاً من إين تيمية وصولاً لمحمد بن إبراهيم، الذين كفروا كل من سن القوانين الوضعية، بل ذهبوا إلى وجوبية ترك البلاد التي يشرع فيها بالقوانين الوضعية لأنها خرجت من معسكر دار الإسلام إلى معسكر دار الكفر.
وثمة مرحلتان مرتبطتان تشرح الجذور الإيدولوجية للجماعات الجهادية، نتناول منها المرحلة الأولى هنا، متمثلة بعبد الله عزام والجهاد الأفغاني.
وعبدالله عزام اسم عالق في الإرث الجهادي. فهو منظر الجهاد الأممي أو ما يُطلق عليه الجهاد المهاجر، أول مراحل ظهور التنظيمات الجهادية في الثمانينيات من القرن الماضي، إثر دعوته العرب والمسلمين للحشد في أفغانستان لتحريرها من السوفيات، ومن ثم اعتبارها نقطة لانطلاق تحرير المسلمين والتحرك نحو القدس وتغيير الأنظمة العربية التي لا تحكم بشريعة الله ولا تطبق حكمه. والجدير بالذكر أن دعوة عزام لمواجهة السوفيات في أفغانستان كانت متوافقة مع سياسات أميركا والسعودية وباكستان آنذاك، الرافضة للتمدد السوفياتي في أفغانستان. ولعل هذا ما سقى فكرة إنشاء أميركا لتنظيم «القاعدة». فقد لبى أسامة بن لادن دعوة عزام وأيّد دعم الحركة الوهابية للجهاد في أفغانستان. وكذلك أتت بعض العناصر المرتبطة بجماعة «الإخوان المسلمين» فكرياً، خصوصاً مع تعالي الصيحات التي تفيد بعدم وضوح منهج «الإخوان» في سعيهم لتطبيق شرع الله، وكذلك لبّى النداء بعض الأفراد المنتمين لجماعات جهادية قديمة كـ «الجهاد» و «الجماعة الإسلامية» المصريتين وجماعة أبو يعلي بالجزائر. وعليه كان المجاهدون في أفغانستان عبارة عن خليط من جماعات مختلفة، وإن كان هدفها واحداً، الإ أن السياق الثقافي والفكري لإنشائها مختلف ومن ثم كان لابد من وضع «عقد» لإدارة العملية الجهادية في أفغانستان.
…………………………
السلفية الجهادية في سطور (2) / محمد مختار قنديل
انتهينا في المقالة السابقة عند المرحلة الأولى التي تشرح الجذور الإيديولوجية للجماعات الجهادية التي تتحدث عن عبدالله عزام والجهاد الأفغاني. ونكمل في هذه المقالة المرحلة الثانية، إلى جانب الوقوف على تأثير كلٍ من ابن تيمية وسيد قطب في عقول الجماعات الجهادية.
المرحلة الثانية: مرحلة عالمية الجهاد
تنطلق هذه المرحلة من العام 1989 باغتيال عبدالله عزام وانسحاب السوفيات من أفغانستان، في العام ذاته، وسقوط مشروعهم في 1992. وعليه، فقد كان الهدف من الحشد قد أنجز مهمته الأولى (تحرير أفغانستان) وبدأ الجهاد في الانتقال إلى أكثر من نقطة مشتعلة، كما كان في البوسنة والهرسك والشيشان وأفعال العشرية السوداء في الجزائر وغيرها، ما أوجس الأنظمة في البلدان المختلفة من انتشار الفكر الجهادي. برز في تلك المرحلة خلاف واضح بين إسامة بن لادن وكل من السعودية وأميركا. انتهى الأول بسحب الجنسية السعودية من بن لادن، واستمر الثاني في الملاحقة الأميركية لبن لادن حتى اغتياله. وبعد استقرار بن لادن فترة في السودان ـ فترة خلافه مع السعودية ـ عاد مرة أخرى إلى أفغانستان ليتحالف مع الملا عمر أمير دولة طالبان آنذاك. وفي 2001 سقطت كابول كعاصمة للجهاد الأممي، واتبعها في العام 2003 دخول الأميركيين العراق، الأمر الذي شفى لهيب الجماعات الجهادية في صراعها مع أميركا. ولعل أهم ما ميز تلك المرحلة هو التالي:
تنظيميا:
1ـ تولي «القاعدة» التنظيم في الفكر الجهادي.
2 ـ التركيز بداية في الجهاد على العدو البعيد، «رأس الكفر والشيطان الأعظم الولايات المتحدة الأميركية»، وترك العدو القريب، أي «الأنظمة العربية»، مرحلياً.
3 ـ انشاء فروع لـ «القاعدة» في بلدان مختلفة
فقهيا وتشريعيا:
1ـ إعذار المخالف: ارتبطت فكرة إعذار المخالف بقضية فقيه دائرة حتى وقتنا هذا داخل الجماعات الجهادية، وهي كفر المعين وكفر النوع. ويعني هنا تكفير الفعل وعدم تكفير الفاعل إلا بشروط يجب توفرها، كتكفير «القاعدة» للأنظمة والحكام. ولكنها اختلفت في الإحزاب الإسلامية المعينة لتلك الأنظمة والمخالفة للشرع. ولعل أبرز مثال على ذلك جماعة «الإخوان المسلمين» التي اختارت طريقاً باطلاً ـ في فكرهم ـ وهو طريق الديموقراطية لإقامة الدولة الإسلامية. وعليه، فقد ظهرت فكرة إعذار المخالف حيث لا يجوز أن يُنسب الكفر للأفراد والجماعات حال وجود عذر لهم، وإن كان هناك إختلاف بين حدود موانع الكفر هذه.
2 ـ تنصيب الإمير، وذلك لتجنب التحزب ولإيجاد حاكم شرعي للجماعات الجهادية، يطلق النداء لبدء وإنهاء العملية الجهادية وينظمها.
الجماعات الجهادية ومصادرها الفقهية
إسمان لا يمكن تجاهلهما عند الحديث عن الجماعات الجهادية، ارتبطا بالفكر الجهادي. أولهما شيخ الإسلام «ابن تيمية»، وثانيهما سيد قطب. نسب للأول باطلا أنه مرجع أساسي في تشكيل الوعي لدى الجماعات الجهادية، فيما طور الثاني فكر إبن تيمية وخرج بإرث فكري له، قامت على أساسه العقيدة الأساسية للجماعات الجهادية الرامية إلى الحكم «بما أنزل الله». وما بين هذا وذاك هناك كثر.
أولا: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية، أو الملقب باسم «ابن تيمية» الحنبلي المذهب والتكوين، ولد في بيئة حنبلية حيث كان والده عبدالحليم فقيه الحنبلية حتى 1283 وورثه ابنه «ابن تيمية» في سن 22، وبدأ في اعتلاء منبر المسجد الأموي كل جمعة منذ ذلك العام. ولعل ارتباط إرث إبن تيمية بالجماعات الجهادية يعود لتطوير فكره كما سنتحدث لاحقا من ناحية، وقوله بوجوب قتال التتار بناء على مقولته في الياسة أو الياسق، التي وضعها جنكيز خان كمزيج من الشرائع اليهودية والمسيحية والإسلامية وبعض أقواله وآرائه، والذي استند إليه في ما بعد لتحريم القوانين الوضعية.
ولعل ما يثبت بطلان قيام الجماعات الجهادية بناء على إرث إبن تيمية، يظهر في بدايات ظهور بعض الجماعات الجهادية في التاريخ المعاصر في بيئات فقهية ليست حنبلية ـ كما ذكر سعود المولى في كتابه «الجماعات الإسلامية والعنف» ـ كما كان في جماعة «الجهاد» و «الجماعة الإسلامية» في مصر اللتين ظهرتا في بيئة شافعية ومالكية، وكذلك طالبان الحنيفية المذهب.
ثانيا: سيد قطب، الذي تأثر في حديثه عن «الحاكمية» بالكثير من العلماء، ابرزهم محمد بن ابراهيم آل شيخ، المفتي السعودي سابقا، وركز على أن الشرع وحده هو الفيصل للحكم بين الناس، استناداً إلى قوله تعالى: «إن الحكم إلا لله». وبناء عليه، فقد شن العديد من الحملات ضد القوانين الوضعية وواضعيها، مكفرا إياهم. كذلك طور قطب أنواع التوحيد لدى ابن تيمية. فبالإضافة إلى توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، ظهر توحيد التشريع، وبصورة أساسية ارتبط قطب بفكر المودودي في النقاط التالية:
ـ مبدأ الحاكمية: المعروف تاريخاً إن أول من أدخل لفظ «الحاكمية» إلى القاموس السياسي هو أبو الأعلى المودودي، وقد طوره وصبغه بصبغة أكثر تشدداً سيد قطب، حيث رأى أن المجتمع المسلم لا ينشأ إلا إذا نشأت جماعة مسلمين تقر بالعبودية لله وحده دون غيره، مستندا لفتوى إبن تيمية في «الياسق»، ومشرعا بكفر القوانين الوضعية.
ـ جاهلية المجتمع: لا ينفصل هذا المبدأ عن المبدأ الأول، بل ينبثق منه منطقياً، حيث أن المجتمع الذي يقر الحاكمية للبشر مجتمع جاهلي استنادا لقوله تعالى: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون». وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا المصطلح أيضا ظهر على يد المودودي ووظف أكثر على يد قطب.
ـ كفر النظام : النتيجة المنطقية لمبدأي الحاكمية وجاهلية المجتمع، أن تكون الأنظمة التي تقر القوانين الوضعية أنظمة كفر، وهذا ما تبناه فعليا قطب في فكره استقاء من «ياسق» التتار.
ـ حصيلة أفكار المودودي وقطب: استندت الجماعات الجهادية للمبادئ السابقة في إخراج حكم نهائي، مفاده وجوبية إزالة تلك الأنظمة الكافرة وعليه وضع الجهاد كوسيلة اساسية للتغير وإقامة شرع الله والحكم بما أنزل، وهذا ما بدأه عبدالله عزام كما أشرنا في المقالة السابقة.
التعليقات مغلقة.