في ما بعد أوسلو … الأجهزة الأمنية في السلطة الفلسطينية : عنصرٌ لكل 52 مواطناً.. ومدرِّس لكلّ 75 / سائد أبو فرحة

 

سائد أبو فرحة  ( فلسطين ) الخميس 19/3/2015 م …

تمثّل المنظومة الأمنية، أو كما يسميها البعض “المؤسسة الأمنية”، حيّزاً لا يستهان به من الحياة الفلسطينية، خاصة أنها تتعلق بقطاعٍ يضمّ نحو سبعين ألف فردٍ، يتوزعون على عدّة أجهزة.

وقد تشكّلت معظم هذه الأجهزة عقب توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993، وقيام السلطة الفلسطينية الأولى في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، ما ترافق تزاوج مع سنّ جملةٍ من القوانين المتعلّقة بعملها. يذكر هنا أن بعض هذه الأجهزة كانت قد تأسست ووُجدت خارج فلسطين أساساً، وقبل قيام السلطة فيها، مثل “الحرس الرئاسي” (القوة 17) الذي تأسس في بداية السبعينيات، والمخابرات التي تشكّلت في أواخر ستينيات القرن الماضي.

11 ألف متقدّم لـ 150 وظيفة

منذ تشكيلها، استقطبت الأجهزة الأمنية الجيل الشاب بطبيعة الحال، فهي حالةٌ وطنية لكنها أيضاً مورد رزق، خاصة أن السوق الفلسطينية، قبل قيام السلطة، كانت مفتوحة على نظيرتها الإسرائيلية، فلم تكن هناك حواجز عسكرية ولا قيود على الحركة بين مناطق فلسطين التاريخية. فكان عشرات الآلاف يعملون سواء داخل الخط الأخضر (فلسطين الـ 48)، أو في المستوطنات.

استوعبت هذه الأجهزة عشرات الآلاف من الشبان، خاصة الأسرى المحررين من سجون الاحتلال. ومعظم هؤلاء، كما يؤكد العديد من المصادر والمراقبون، هم من أبناء “حركة فتح”، باعتبارها القوة السياسية الأكبر والأكثر حضوراً في الساحة الفلسطينية، عدا أن زمام أمور السلطة الوطنية كانت منذ البداية بيدها، ممثلة بشخص الرئيس الراحل ياسر عرفات.

وإذ يؤكد الشاب م. ن.، الذي يعمل في جهاز “الدفاع المدني” في الضفّة، أن الدافع الوطني والإنساني هو ما أوصله إلى الجهاز الذي تتمثل مهامه في القيام بأعمال الإنقاذ، وإطفاء الحرائق، وفتح الطرق في الشتاء، …الخ، يشرح: “كان عمري 17 عاماً ونيِّفاً عندما قررت الانخراط في الجهاز. وكنت قد أنهيت الثانوية العامة حديثاً، ولم يكن ظرف والدي الاقتصادي جيداً. فالتحقت بالجهاز، وفي الوقت نفسه بدأت بالدراسة في إحدى الجامعات المحلية التي توفر امكانية التعليم عن بعد. فكنت أخصص جانباً من المال لوالدي ليتولى الانفاق على أسرتنا”.

هذا الشاب (وهو من احدى قرى محافظة بيت لحم – جنوب الضفة)، التحق بالجهاز مع بدايات الانتفاضة الثانية، لذا فهو لم يخضع لأية دورة بدنية مكثفة كتلك المفروضة على العناصر في الوقت الحاضر. فيقول: “لم تكن الظروف تسمح بمثل هذه الدورات التي تتضمن تدريبات شاقة جداً، وتهدف إلى غربلة المتنافسين لاختيار الأفضل والأكثر تحملاً بينهم. أنا التحقت بالجهاز مباشرة بعدما أكملت دورة في مجال الدفاع المدني”. ويوضح أنه يتم اختيار العاملين في الأجهزة الأمنية ضمن الفئة العمرية 17-24 عاماً، لافتاً إلى ضرورة توفّر مواصفات جسمانية معينة في المتقدم، مثل عدم معاناته مما يعرف بـ “القدم المسطحة” أو أيّ أمراض، وأن يجتاز الدورة.

كان يحصِّل هذا الشاب راتباً ضئيل القيمة يبلغ نحو 200 دولار في بداية عمله. لكنه يذكر أن أيّ عضو جديد ينضم إلى الجهاز يحصل حالياً على راتب يصل إلى قرابة 400 دولار. لذا، فهو يعتقد أن العمل في الأجهزة الأمنية مجدٍ مالياً. يقول: “صحيح أن راتبي ليس مرتفعاً، لكن مستقبلاً، بالإمكان الاستفادة من عدة مزايا، مثل راتب تقاعدي بعد 25 عاماً من الخدمة. عدا أنه بموجب القانون، تكون هناك ترقية وعلاوة دورية كل أربعة أعوام تقريباً”.

بيد أنه يؤكد أن إحدى محددات العمل في الجهاز هي قلة القدرة على الاستيعاب، نظراً للضائقة المالية التي تعاني منها السلطة منذ سنوات: منذ العام 2012، أعلن الجهاز عن استيعاب 150 كادراً جديداً، فبلغ عدد المتقدمين للالتحاق بالجهاز 11 ألف شخص”. ويقول: “كان يفترض أن يصل عدد العاملين في الجهاز في الضفّة وحدها إلى ألفي شخص مع نهاية العام 2009، لكن عدد العاملين في الجهاز بالكاد يصل إلى 1200 شخص، وهذا يعني أننا نعمل بجهد مضاعف لتلافي النقص في الكوادر”.

ويلفت إلى أن العاملين في الجهاز على مستوى قطاع غزة ما زالوا يمارسون نشاطهم المعتاد: “على عكس سائر الأجهزة، فإن الدفاع المدني لا يزال يقوم بدوره في القطاع. ومن المعروف أنه بالنسبة إلى “حماس” هناك، طالما أن الفرد أو المؤسسة لا صلة لهما بالسياسة، فبإمكانهما أن يعملا بلا مشاكل”.

منفذ للأسرى المحررين

يقدم الشاب أ.ن. (من إحدى قرى محافظة سلفيت في وسط الضفة) نموذجاً آخر عن العمل “الأمني”. فقد التحق بجهاز “الأمن الوقائي”، وهو الجهاز المكلّف بمسؤولية الأمن الداخلي، قبل 17 عاماً. وقد اتى التحاقه بالجهاز إثر قضائه خمس سنوات في سجون الاحتلال. يقول هذا الشاب: “الكثير من الشبان لا سيما من الأسرى المحررين أمثالي، عمدوا إلى الالتحاق بالأجهزة الأمنية لتحسين أوضاعهم المعيشية، عدا عن رغبتهم في الحصول على وظيفةٍ دائمة وثابتة”. ويضيف: “العمل في الأجهزة الأمنية له عدة مزايا، فالرواتب جيدة بشكل عام، كما أن هناك مكافآت تُمنح للعاملين فيها تصل إلى أكثر من 100 دولار شهرياً، وطبيعة الدوام مريحة وهو عبارة عن 3-4 أيام أسبوعياً، ما يتيح لنا امكانية مزاولة أعمال أخرى، برغم أن ذلك ممنوع بحكم القانون”.

ويلفت الاسير المحرّر “السفير” إلى أن عمل الأجهزة الأمنية في قطاع غزّة تأثر كثيراً بعد الانقسام الذي أدّى إلى قيام “حركة حماس” باستحداث أجهزة أضيفت إلى الجهاز المعروف باسم “القوة التنفيذية” الذي أنشأته “الحركة” عقب فوزها بالانتخابات التشريعية الأخيرة. يشرح: “قامت حماس في القطاع عقب الانقسام، بمنع منتسبي الأجهزة الأمنية الموجودة أصلاً من ممارسة أيّ دور، إلا في حالات محدودة كما هي الحال مثلاً بالنسبة إلى منتسبي جهاز الدفاع المدني، ليصل عدد أفراد الأجهزة الجديدة إلى نحو 30 ألف شخص حسب بعض التقديرات”.

وكان اتفاق “أوسلو” قد نصّ على تشكيل قوة شرطية قبل أن يصار إلى توقيع الاتفاقية الانتقالية الفلسطينية ـ الإسرائيلية في ما يخص الضفّة والقطاع في العام 1995. وقد أتاح الملحق الأول فيها للسلطة تشكيل أجهزة جديدة. وقد وجدت القيادة الفلسطينية، وتحديداً الرئيس عرفات في بدايات تأسيس السلطة، أن تشكيل الأجهزة فرصة لاستيعاب عشرات الآلاف من الشبان، لا سيما من متخرجي الجامعات والمتعطلين عن العمل، كما وجدت في تشكيل الأجهزة تكريساً لأحد مظاهر السيادة.

شروط أوسلو.. والواقع

تؤكد بيانات “مركز جنيف للرقابة الديموقراطية على القوات المسلحة”، وهو مؤسسة أهلية دولية لها مقر في رام الله، أن الرئيس عرفات استند خلال فترة حكمه التي دامت عقداً من الزمن (1994-2004) إلى سيطرته المباشرة على الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة التي أنشئت العام 1994 وما بعدها. وتبعاً للمركز، فإن قطاع الأمن شهد نمواً سريعاً، حيث أنشأت السلطة بعد تأسيسها بوقت قصير، 10 أجهزة أمنية هي: الشرطة المدنية، والدفاع المدني، والأمن الوقائي، وقوات الأمن الوطني، والشرطة البحرية، والشرطة الجوية، والارتباط العسكري، والاستخبارات العسكرية، والأمن الرئاسي (القوة 17)، والمخابرات العامة.

ويلفت إلى أنه، باستثناء الأمن الوقائي، تشكلت هذه الأجهزة في معظمها من الوحدات العسكرية التابعة لـ “منظمة التحرير الفلسطينية” التي قدمت من الشتات، قبل أن ينشئ الرئيس عرفات مع نهاية العقد التاسع من القرن الماضي أجهزة جديدة للمخابرات الداخلية، مثل الأمن الداخلي والقوات الخاصة، والتي لم تنصّ الاتفاقيات الفلسطينية ـ الإسرائيلية على تشكيلها، ما رفع عدد الأجهزة إلى 12 جهازاً. وبحسب الباحثين في المركز رولاند فريدريك وأرنولد ليتهولد، فإن العديد من الأجهزة الأمنية كانت تشغّل فروعاً مستقلّة لها في الضفّة والقطاع، ما يعني أن العدد الحقيقي للأجهزة التي كان الواحد منها مستقلاً عن الآخر أعلى بكثير من العدد المعلن.

وأوضح الباحثان في كتاب “المدخل الى اصلاح القطاع الأمني في فلسطين” أنه “برغم أن اتفاقية أوسلو الثانية حدّدت عدد أفراد قوة الشرطة بما لا يتعدى الـ 30 ألف شرطيّ، تجاوز عدد أفراد الأمن المثبتين في كشوف السلطة الـ 35 ألفاً بحلول العام 1996”. وأشارا إلى أن “عمل الأجهزة اتسم بالتداخل في صلاحياتها ومسؤولياتها (…)، بالإضافة إلى مشاركة تلك الأجهزة التي تتولى مهمات استخبارية في تنفيذ عمليات القمع السياسي ضد المواطنين”.

خلال الانتفاضة الثانية، كثيرون من أفراد القوى الأمنية اشتبكوا مع قوات الاحتلال، وأوقعوا قتلى وجرحى في صفوفهم. وقد استشهد نحو 602 من المنتسبين إلى هذه الأجهزة، بحسب بيانات “التجمع الوطني لأسر الشهداء”، فيما يقبع في سجون الاحتلال حوالي 700 آخرين بحسب بيانات “نادي الأسير”.

وقد كان من اللافت، بحسب مصادر تاريخية مختلفة، رفع جهات دولية، لا سيما بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، شعار “اصلاح القطاع الأمني”، في ما بدا حينها كمحاولة للحدّ من صلاحيات الرئيس عرفات. فقام ابو عمّار، اثر ضغوط هائلة عليه، بالإعلان في العام 2002 عن خطة الـ 100 يوم، التي تضمنت اصلاحات على المستويين الاداري والأمني.

وقد ركّزت المحاور الأساسية في الخطة على تفعيل ما يعرف بـ “مجلس الأمن القومي الأعلى”، وتوحيد الأجهزة الأمنية ضمن ثلاثة أجهزة، هي: الشرطة المدنية، والأمن الوقائي، والدفاع المدني، تحت إمرة وزارة الداخلية. غير أن كل الخطوات التي اتخذت لم تفلح في الحد من صلاحيات الرئيس، كما تؤكد مصادر عديدة.

بعد رحيل الرئيس عرفات، عاد شعار “اصلاح المنظومة الأمنية” ليبرز من جديد، وظهرت تجلياته على عدة مستويات، مثل إرسال الولايات المتحدة الأميركية في العام 2005 الجنرال دايتون إلى الأراضي الفلسطينية لتأهيل قوى الأمن وتدريبها، عدا عن إصدار السلطة العديد من القوانين المتعلقة بالقطاع الأمني.

ارتفاع النفقات، “التنسيق”، والتجاوزات!

يعدّ قانون الخدمة في قوى الأمن رقم (8) لعام 2005 أحد أبرز القوانين التي تحكم القطاع الأمني، حيث يحدد كل التفاصيل المتعلقة بعملها، والترقيات، وما شابه. ويتضمن القانون تحديداً لما يعرف بالراتب الأساسي، والحدّ الأدنى للبقاء في الدرجة، وعلاوة طبيعة العمل التي تضاف إلى الراتب. فمثلاً، في حالة الجندي (أقل درجة)، يبلغ الراتب الأساسي نحو 340 دولاراً، تضاف إليها علاوة بنسبة 15 في المئة، علماً أن الحدّ الأدنى للبقاء في الرتبة، أيّ قبل الترقية، هو 3 سنوات، بينما يبلغ الراتب الأساسي لرتبة لواء نحو 1120 دولاراً، تضاف إليها علاوة بنسبة 70 في المئة.

وقد ارتبط دور الأجهزة الأمنية وتشكيلها بشيء من الجدل واللغط، خاصة نتيجة تضخم عدد المنتسبين إليها، وارتفاع نفقاتها بما يفوق مثلاً قطاعات الزراعة، والتعليم وغيرهما، عدا عن الإشكاليات المرتبطة بـ “التنسيق الأمني” مع الجانب الإسرائيلي، والانتهاكات لحقوق الانسان التي ترصدها بعض المؤسسات العاملة في هذا المجال.

“إقطاعياتٌ لمسؤوليها، ومركز نفوذٍ لقادتها”

لا يتردد مفوض “الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة – أمان” د. عزمي الشعيبي، في الإشارة عبر ورقة موقف نشرت قبل فترة، إلى أن “التكاليف الباهظة نسبياً التي تم تخصيصها لنفقات المؤسسات الأمنية ( بلغ عددها 70 ألف شخص)، وشكلت أكثر من 37 في المئة من النفقات العامة، إرهاقاً للموازنة على حساب التنمية والاحتياجات التي تتعلق بالخدمات الأساسية، ما جعل من موضوع موازنات الأمن نقطة تصادم دائمة في إقرار الموازنة العامة”.

وتابع الشعيبي: “في حالتنا الفلسطينية، فإن استمرار بناء أجهزة الأمن، بالاعتماد على قيادات ذات انتماء حزبي موالية لطرف ما، لن يحقق عنصر استقرار هذه المؤسسة الأمنية أو شرعيتها أو مصداقيتها، باعتبارها خادمة لجميع المواطنين، ويعقد من عملية التبادل السلمي للسلطة”. وأضاف: “إن المدخل الذي فرضته اتفاقيات أوسلو، وما تلاها إقليمياً أو دولياً على الجانب الفلسطيني في الجانب الأمني، والتي ترتكز على أساس ضرورة التعاون مع الجانب الإسرائيلي وبتنسيق وإشراف أميركي لمواجهة الإرهاب والعنف، لم يكن يسمح ببناء شرعية ومصداقية لدوره أمام الجمهور الفلسطيني. ما كسر احد مقومات إنجاح المؤسسة الأمنية، وهو قناعة الجمهور في دورها بخدمته”.

ورأى الشعيبي أن “ظاهرة تعدد الأجهزة، وعدم وضوح صلاحيات كل منها، وغياب قيادة مؤسسية تشكل مرجعية لها، بالترافق مع غياب قانون واضح منظم لأعمالها، واستمرار بقاء الأشخاص ذاتهم على قمة هرم كل منها، كل ذلك ساهم في تحويل هذه الأجهزة إلى إقطاعيات لمسؤوليها ومركز نفوذ لقادتها، حيث لم يعد واضحاً دورها ومبرر وجودها، أمام عدد واسع من المواطنين”.

في تناولها لهذه المسألة، أشارت دراسة بعنوان “بعد حرب غزة: أيُ ثمن لقطاع الأمن في فلسطين”، إلى أن “قطاع الأمن نما العقد الماضي أسرعَ من أي مكوِّن آخر في السلطة، حيث بات يتصدر القطاعات الأخرى بعدد موظفيه العموميين بنسبة 44 في المئة من مجموع موظفي الخدمة المدنية البالغ 145 ألف شخص، إضافةً إلى العدد المتزايد من المعاهد والبرامج الجامعية المتخصصة في العلوم الأمنية، بما فيها المركز الفلسطيني لدراسات القطاع الأمني في أريحا الذي يُعتبر الأرقى في الضفة، وآلاف الطلبة الفلسطينيين الذين يسافرون إلى الخارج لتلقي تدريبات أمنية عالمية المستوى”.

وأوردت الدراسة، وهي من إعداد الباحثين صابرين عمرو وعلاء الترتير، أن “قطاع الأمن يستأثر بحصة الأسد من موازنة السلطة، بمليار دولار أميركي تقريباً أو 26 في المئة من موازنة العام 2013، مقارنة بنسب لا تتجاوز 16 في المئة للتعليم، و9 في المئة للصحة، و1 في المئة فقط لقطاع الزراعة، الذي ظل تاريخيًا أحد أبواب الرزق الرئيسة للفلسطينيين”.

وأضافت الدراسة: “يتلقى قطاع الأمن أيضًا مساعدات دولية كبيرة، حيث ضخت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا في العام 2013 وحده ملايين الدولارات، في ما يسمى مجازًا إصلاح قطاع الأمن. وفي الوقت الحاضر، بلغت نسبة عناصر الأمن لعدد السكان، عنصرًا واحدًا لكل 52 فلسطينيًا، مقارنةً بمدرِّس واحد لكل 75 فلسطينيًا”. وتابعت: “إن قطاع الأمن المتنامي بسرعة لا يوفر الأمن الفلسطيني، بل يعمل كما أرادت إسرائيل منذ البداية كأداةٍ للسيطرة على الفلسطينيين وترويضهم في المنطقة الخاضعة مباشرةً للسلطة، المنطقة (أ) وفقًا لاتفاقات أوسلو، وفي المنطقة (ب) التي تسيطر عليها بالاشتراك مع إسرائيل، ففي هاتين المنطقتين، تكبح قوات الأمن الفلسطينية جماح التظاهرات وتعتقل الناشطين، وتنزع بالقوة سلاح الأجنحة المسلحة للأحزاب السياسية، وتعذِّب المسلحين والناشطين السياسيين، (…) بينما تتصرف إسرائيل بمطلق الحرية في المنطقة (ج) الخاضعة لسيطرتها العسكرية، والبالغة حوالي %60 من مساحة الضفة”.

انتهاكات حقوق الإنسان : التعذيب مثلاً

لم تتردّد مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية في انتقاد بعض الممارسات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية، سواء في الضفّة أو القطاع. وقد أشارت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، إلى تلقيها 3409 شكاوى العام 2013، تتعلق بادِّعاءات حول انتهاكات لحقوق الإنسان في الضفة والقطاع، منوهة إلى تلقيها 497 شكوى بخصوص التعذيب والتهديد أثناء التوقيف (150 منها من الضفة مقابل 347 شكوى من القطاع)، بالمقارنة مع 294 شكوى العام 2012.

كما أوضحت الهيئة في تقريرها حول انتهاكات حقوق الانسان في فلسطين خلال الشهر الأخير من العام الماضي، أنها تلقت 82 شكوى تتعلق بالتعذيب وسوء المعاملة في مراكز الاحتجاز والتوقيف، من ضمنها 21 شكوى على مستوى الضفة، بينما سجلت البقية في القطاع.

وأضافت: “توزعت الشكاوى في الضفّة على النحو التالي: 18 شكوى ضد جهاز الشرطة، و2 شكوى ضد الأمن الوقائي، وشكوى واحدة ضد المخابرات العامة. أما في القطاع (مسؤولية الأمن فيه لحركة حماس)، فسجلت 53 شكوى ضد جهاز الشرطة، و7 شكاوى ضد ادارة مراكز الاصلاح والتأهيل، و7 شكاوى ضد جهاز الأمن الداخلي. وقد استخدمت وسائل متعددة في تعذيب المشتكين، وفقاً للشكاوى المقدمة، إذ استخدمت وسيلة الشبح (تعليق الشخص في الهواء عبر ربط إحدى يديه أو رجليه بسلسلة حديدية متصلة بالسقف)، والضرب بواسطة الأيدي والأرجل، واستخدام العصي، إلى جانب الشتم والتحقير والحرمان من النوم.

وترى مؤسسات حقوقية ومختصون في هذا الشأن أن الانقسام الذي حصل العام 2007، وأدى إلى سيطرة “حركة حماس على قطاع غزّة، انعكس سلباً على منظومة حقوق الإنسان في الضفّة والقطاع.

ويذكر مدير برنامج الضفة في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان موسى أبو دهيم أنه “كان الوضع أفضل على مستوى حقوق الإنسان داخلياً قبل عملية الانقسام، لكن للأسف، بعدها، تراجع هذا التحسّن، وعشنا في مرحلة من الانتهاكات المتكررة، وبشكل مكثف وعنيف. وبعد التوجه للمصالحة العام الماضي، كان هناك انخفاض في بعض الجوانب، وارتفاع في أخرى مثل الاعتقال السياسي وقضايا التعذيب، التي للأسف لا تزال تراوح مكانها، اذ لم يحدث فيها تحسن ملموس”.

وأكد لـ “السفير” أنه “للأسف الشديد، لا تزال عمليات التعذيب التي تقوم بها مختلف الأجهزة مرتفعة بما فيها جهاز الشرطة، في حين انخفضت عند المخابرات والأمن الوقائي. وكذلك الحال بالنسبة إلى الاعتقال السياسي الذي لا تزال معدلاته مرتفعة عند المخابرات والأمن الوقائي، بينما لم تسجل أية حالة اعتقال سياسي عند الشرطة بشكل واضح”. وأضاف: “عدد المعتقلين السياسيين يقدّر بالعشرات، ويتراوح بين 60-80 كل شهر تقريباً، وهو يرتفع وينخفض بحسب الظروف”.

في المقابل، فإن الناطق الرسمي باسم المؤسسة الأمنية اللواء عدنان الضميري قال لـ “السفير” إن “الأجهزة الأمنية وُجدت لخدمة الوطن”. كما أشار في لقاء في احدى الجامعات الفلسطينية إلى أن “عقيدة المؤسسة الأمنية تقوم على الانتماء والولاء، وأن كل عسكري يقسم بالله أن يحافظ على الوطن، وأن يطبق القانون”.

وأشار إلى أن المؤسسة الأمنية تقوم على ثلاثة مرتكزات، أولها القانون المنظم لخدمة قوى الأمن “وهو يعتبر من أفضل القوانين في المنطقة”، بينما يكمن المرتكز الثاني في التسلسل القيادي ويبدأ بالرئيس، وذكّر بأن المرتكز الثالث “يقوم على طاعة الأوامر وتنفيذها بناءً على المهام المكلفة بها حسب القانون والتعليمات المستدامة”. ورأى أن “الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يخدعه أحد، والمؤسسة الأمنية هي إدارة شعبية، ولم تحقق النجاح والتميز إلا بعدما حصلت على ثقة الشعب”.

وفي ما يخص التجاوزات لحقوق الانسان، قال إن “المؤسسة الأمنية لديها الكثير من الانجازات وتتقبل النقد البناء، ويخضع أفرادها لدورات في مجال حقوق الإنسان، تشرف عليها مؤسسات المجتمع المدني مثل الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، ومؤسسة الحق. نحن كمؤسسة أمنية لسنا سيوفاً مسلطة على رقاب المواطنين، بل نحن مؤسسة وطنية يكرس جميع منتسبيها أنفسهم لخدمة الشعب”.

نقاش وقف “التنسيق الأمني”

منذ استشهاد الوزير زياد أبو عين قبل نحو شهرين، نتيجة تعرضه للضرب بأعقاب البنادق على إيدي عدد من جنود الاحتلال عند قرية “ترمسعيا” شرق رام الله واستنشاقه للغاز المسيل للدموع، صدرت تصريحات عن أكثر من مسؤول فلسطيني تطالب بوقف التنسيق الأمني مع اسرائيل.

والتنسيق الأمني يغطّي عدّة مجالات، من ضمنها تشكيل دوريات مشتركة على الطرق من قوات فلسطينية وإسرائيلية (جرى العمل بها في بدايات نشأة السلطة، لكن مع اندلاع الانتفاضة الثانية توقف العمل بها كلياً)، عدا عن تشكيل لجنة أمنية مشتركة، إلى غير ذلك.

كما يتضمن التنسيق الأمني شقّاً ذا طابعٍ مدني، يبدو في الحقيقة الأكثر بروزاً حالياً، ويتصل مثلاً بإصدار تصاريح دخول إلى القدس وفلسطين 48، وإتاحة المجال أمام المواطنين الفلسطينيين المرضى لتلقي العلاج في مستشفيات عربية أو اسرائيلية، وخلافها.

ومن وجهة نظر بعض المراقبين، فإن التنسيق الأمني أمرٌ لا مناص منه في ظل وجود اتفاقيات سياسية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، عدا أنه، من دون هذا التنسيق، يصعب على أيّ مسؤول فلسطيني التحرّك والانتقال من منطقة إلى أخرى. كما أن التخلي عنه يمكن أن يستخدم للتضييق على الفلسطينيين في مجالات مختلفة.

ولم يخف العديد من المراقبين والمحللين أن التلويح بوقف التنسيق الأمني بدأ يفقد جدواه إلى حد كبير. ما عبّر عنه الكاتب هاني المصري خلال مقالة كتبها مؤخراً، أشار فيها إلى أن “إجراءً بحجم وقف التنسيق الأمني لا يجب أن يكون ردة فعل أو مجرد تهديد، ولا وسيلة ضغط من أجل الحصول على العوائد الجمركيّة، أو لاستئناف المفاوضات على الأسس ذاتها التي قادتنا إلى الكارثة التي نعيشها، أو على أسس شبيهة ستقود إلى كارثة أكبر، ولا يجب أن يحركه اليأس، وإنما يجب النظر فيه واتخاذه في سياق عمليّة مراجعة شاملة، تستهدف الخروج الكلي من نفق أوسلو المظلم، وتفتح آفاقًا سياسيّة قادرة على تحقيق الأهداف الفلسطينيّة”.

في المقابل، فإن عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة د. أحمد مجدلاني، تناول المسألة من منظور مختلف، عبر إشارته إلى أن التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة، لم ‏يبق منه سوى التنسيق المدني المتعلق بمصالح المواطنين، وتنقل المرضى والمسؤولين. وأضاف في تصريحات صحافية مؤخراً ما مفاده أن التنسيق العسكري في ما يتعلق باجتماعات أمنية وتبادل معلومات أمنية، غير موجود.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.