غيفارا.. أيقونة الثورة الدائمة / موفق محادين




موفق محادين ( الأردن ) الإثنين 9/10/2017 م …

وسط تراجع الخط الثوري الرديكالي في الحركة الإشتراكية العالمية، وعودة ما عرف بالكاوتسكية المحببة على قلب أحزاب الإشتراكية الدولية الأوروبية (الأممية الثانية) التي تقترب من الليبرالية، وفي ظروف (الإسترخاء الثوري) لحركات التحرر الوطني وانخراطها في أسئلة بناء دولة ما بعد الاستقلال السياسي، كانت جبال الأنديز في أميركا الجنوبية على موعد مع تجربة ميدانية ونظرية جديدة في كفاح الشعوب.

لم يخرج غيفارا من صفوف الطبقة العاملة، بل من كلية الطب، ولم تكن ثقته حاسمة بانتصار وشيك على الرأسمالية

النظرية، هي نظرية البؤر الثورية كما صاغها تشي غيفارا وجدد من خلالها حرب الغوار أو العصابات الثورية في البيرو وغير بلد في تلك القارة.

غيفارا، طبيب يساري من الأرجنتين رافق أستاذ الحقوق الكوبي، كاسترو، في أول تجربة مظفرة لانتزاع السلطة من نظام باتيستا الاستبدادي الفاسد، الذي صنعته المخابرات الأميركية في كوبا ليكون “موديلاً” ودرساً لكل مناهضي “اليانكي” الأميركي الأبيض في البحر الكاريبي وجمهوريات الموز اللاتينية.
بيد أن الطبيب، لم ينسجم مع استراتيجية صديقه الكوبي في الركون إلى نجاح الثورة وتحويلها إلى دولة على مرمى الشقيقة الكبرى للإمبرياليات العالمية. ودشن بذلك سلسلة من المراجعات الإشتراكية حول الثورة المستمرة وطبيعتها وأشكالها، وأعاد النقاش حول نظرية الثورة اللينينية برمتها.
كان لينين، قائد ثورة أكتوبر الروسية 1917، قد غاير أستاذه ماركس بشأن انتظار الثورة في الحلقات القوية، وهي الدول الرأسمالية المتطورة، وذهب إلى قراءة مختلفة تسعى إلى اندلاعها في الحلقات الضعيفة من النظام الرأسمالي العالمي أملاً بأن تندلع بعدها في المركز ولا سيما ألمانيا حينها، وكانت روسيا ساحة لهذا الاختبار.
غيفارا، الإشتراكي المختلف حتى العظم، ظل متشائماً من آفاق هذه التجربة، ولم يغير مواقفه بعد انتصار الثورة في هافانا على الرغم من أنه كان شريكا فيها إلى جانب كاسترو.
وبالرغم من أنه لم يكن من أنصار تروتسكي، أحد قادة ثورة أكتوبر الروسية، الذين اصطدموا لاحقا مع ستالين، ولم يرى الاتحاد السوفييتي دولة اشتراكية بل دولة أقرب إلى رأسمالية الدولة، فقد تقاطع مع التروتسكية في مسعى استمرار الثورة على الصعيد العالمي مسكوناً بالثورة الدائمة مثل تروتسكي.
ثائر، لم يخرج من صفوف الطبقة العاملة، بل من كلية الطب، ولم تكن ثقته حاسمة بانتصار وشيك على الرأسمالية، ولم يذهب إلى إشعال الثورة في مدن الصفيح والعمال في الأرجنتين، بل اختار أكواخ الفلاحين في جبال بوليفيا، رفقة فصيل أممي مسلح صغير، يضم ثواراً من بلدان عديدة ويطلق ثورة من نمط جديد.
أولاً، ثورة أممية في تركيبتها وعناصرها وأبطالها وخطابها، وفي تشخيص مركب لقانون التناقضات، يتداخل فيه التناقض الأساسي مع الإمبريالية مع التناقض الرئيسي مع النهابين الرأسماليين المحليين والرجعيين، ولم يكن لديه أية أوهام بشأن تعاطف أو مشاركة اليسار التقليدي الأكثر انتشاراً.
ثانيا، ثورة مسلحة في حرب طبقية، دون أية أوهام على الصراع السلمي ولعبة صناديق الاقتراع، فهي عنده في أحسن الأحوال مناخات لصعود اليسار الاجتماعي الإنتهازي، الجاهز، حسب غيفارا، لاستقبال كل أمراض البرجوازية وإيديولوجيا الاحتقانات والعصبيات الجهوية، أما في أسوأ الأحوال، فهي وصفة للإنتحار (لم يشهد غيفارا ما حدث لسلفادور الليندي في التشيلي واستشهاده بعد أعوام قليلة على استشهاد غيفارا نفسه) .
ثالثا، ثورة قربانية ذات بعد أخلاقية، لا ينشد أحد فيها ثواباً ولا يخشى عقابا.
استشهاد غيفارا ورفاقه قبل خمسين عاماً سنه 1967 شكل حالة تشبه المسيحيين الأوائل كما تشبه حالة كربلاء، التي تحول الدم فيها إلى ثورة مستمرة، ورسالة للتمثل الفدائي على مر العصور.
هكذا، كانت البؤر الغيفارية ظاهرة ثورية أخلاقية بحد ذاتها وليست مجرد أسلوب في المعارضة ينشد المشاركة في السلطة أو الاستحواذ عليها لتخيف آلام المعذبين، بل لتمثل هذه الآلام وترجمتها في حياة وثقافة جديدة.
ولهذا السبب بالذات، اصطدمت الفكرة الغيفارية مع كل الطرق التي تؤدي إلى روما، كيفما اتفق، سواء كانت سلمية للغاية على طريقة غاندي، أو كانت انتهازية على طريقة الإشتراكية الدولية واليسار الاجتماعي، أو كانت مسكونة بأوهام إقامة دولة إشتراكية في قلب النظام الرأسمالي

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.