دلالات زيارة الملك السعودي الى روسيا / د. بهيج سكاكيني

د. بهيج سكاكيني ( الجمعة ) 13/10/2017 م …




اكتسبت زيارة الملك سلمان الى روسيا والتي تعد اول زيارة لملك سعودي منذ تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1932 أهمية خاصة لأنها أتت ضمن متغيرات إقليمية جذرية. وما يهم السعودية من هذه المتغيرات بالدرجة الاولى هو الدور الإيراني المتنامي في زيارة الملك

المنطقة وخاصة بعد توقيع الاتفاقية على برنامجها النووي مع الدول الست الكبرى الى جانب دعمها الكبير للدولة السورية في مقاتلة المجموعات الإرهابية على الارض. هذا في الوقت التي منيت فيه السعودية بهزائم كثيرة في المنطقة من سوريا الى العراق الى اليمن هذا الى جانب زعزعة الاستقرار في الداخل السعودي والبحرين. ويضاف الى هذا انها لم تعد تسيطر على الايقاع في مجلس التعاون الخليجي الذي زاد من تصدعه الخلافات ما بين دوله وخاصة بعد الازمة مع قطر وعدم السماح لها (أي للسعودية) من قبل الإدارة الامريكية بالتدخل العسكري فيها أو العمل على “تغير النظام” من الداخل.

وتعتبر السعودية أن مهمتها الاستراتيجية الحالية وشغلها الشاغل هي العمل على عزل إيران ومن هنا فإن الزيارة التي وصفت بـ “التاريخية” للملك السعودي الى روسيا يجب أن ينظر اليها من هذه الزاوية. فالسعودية لديها فوبيا اسمها إيران و “التمدد والتأثير الشيعي” و “الهلال الشيعي” في المنطقة الذي يوحد إيران والعراق وسوريا ولبنان وربما تذهب الى أبعد من ذلك لتضم البحرين والمنطقة الشرقية من السعودية، وهي تحاول بكل طاقاتها وإمكانياتها إضفاء هذا الطابع المذهبي على الصراع السياسي الدائر في منطقتنا وفي العديد من الدول الإسلامية أيضا.

ومن هنا نرى القلق الشديد الذي ينتاب حكام السعودية من العلاقات الثنائية بين روسيا وإيران وخاصة في مجال التعاون العسكري. ولقد حاولت السعودية وعلى مدى أكثر من عقد من الزمن أن تقنع!!! روسيا بقطع ارتباطاتها العسكرية مع إيران مقابل شراء كميات كبيرة من السلاح وكذلك استثمارات سعودية في الاقتصاد الروسي. وربما كان تصويت روسيا في مجلس الامن عام 2010 لصالح قرار فرض عقوبات على إيران أحد أسبابه هو هذه الوعود السعودية الجوفاء حيث لم يتحقق أي من وعودها لروسيا التي قامت عندئذ بتعليق تسليم صواريخ س-300 آنذاك للقوات العسكرية الإيرانية.

ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي حاولت فيها السعودية شراء أو إغراء روسيا للتخلي عن دعمها لإيران. ففي عام 2013 قام الأمير بندر بن سلطان عندما كان يترأس الجهاز الأمني السعودي بزيارة الى روسيا ولمقابلة الرئيس بوتين. عندها أبدى الأمير بندر بن سلطان استعداده لضمان عدم حدوث أية عمليات إرهابية من قبل المجموعات الشيشانية أثناء الألعاب الأولمبية الشتوية التي كانت ستقام في سوتشي، وكذلك عرض شراء أسلحة روسية للسعودية الى جانب استثمار مليارات من الدولارات في الاقتصاد الروسي، وعدم منافسة روسيا في بيع البترول والغاز لدول الاتحاد الأوروبي والتفاهم على تنظيم وتحديد أسعار البترول العالمية. كل هذا في مقابل تخلي روسيا عن دعمها لإيران وخاصة في سوريا لان هذا كان يشكل حجر عثرة في تحقيق هدف إسقاط الدولة السورية، الى جانب تنامي الدور الإيراني في المنطقة.

عندها رفض بوتين كل هذه الاغراءات ربما لسببين أساسيين أولهما القناعة التي تولدت عند روسيا من أن السعودية بكونها أداة بيد الولايات المتحدة في المنطقة لا يمكنها أن تفي بوعودها كما حصل في السابق وخاصة وأن الهم الأمريكي كان وما زال هو ضرب أو إضعاف الاقتصاد الروسي بهدف التقليل من الدور الروسي على الساحة العالمية.  وثانيا أن ما كان يدور في سوريا وتواجد هذا الكم الهائل من المجموعات الإرهابية وخاصة من دول آسيوية محيطة بروسيا شكل خطرا حقيقيا على الامن القومي الروسي، وهو ما أدى بروسيا الى تلبية طلب القيادة الشرعية في سوريا في مساعدتها بمحاربة الارهاب عام 2015.

ولقد سبق هذه الزيارة للملك زيارة الأمير محمد بن سلمان عندما كان ولي ولي العهد السعودي وقابل عندها الرئيس بوتين وأبرم بعض الاتفاقيات وأطلق أيضا الوعود للتعاون وكله على أمل ان يثني روسيا عن دعمها لإيران وأيضا لسوريا حيث انه في تلك الوقت كانت روسيا متواجدة عسكريا على الأرض السورية. وبالرغم من أن روسيا تتبع سياسة خارجية في المنطقة التي تنم على أنها تود ان تقيم علاقات متوازنة ربما مع كافة دول المنطقة لمصالحها الاقتصادية بالدرجة الأولى وهذا يتطلب نوع من الاستقرار في هذه المنطقة الحيوية والمهمة من الناحية الجيوسياسية، الا انها تدرك جيدا مع الكثير من المحللين أن السعودية الذي يعتمد أمنها على الولايات المتحدة منذ عهود لا يمكنها ان تقيم علاقات تعاون جدية مع روسيا سواء على النطاق الاقتصادي أو السياسي.

ومن هنا فإن الصفقات التجارية أو شراء الأسلحة الروسية وحتى إبداء النية ربما بشراء صواريخ س-400 لرفع سقف التوقعات وقيمة الصفقات لن يكون لها أي تأثير على المواقف الروسية. وحتى ما أبرم من اتفاقيات أو يتوقع أن يبرم لا تزيد قيمتها الاجمالية عن 10 مليارات دولار وهي لا تقارن على الاطلاق بصفقة الأسلحة التي ابرمتها السعودية مع الولايات المتحدة بقيمة 110 مليار دولار هذا الى جانب استثمارات تقدر قيمتها بنصف ترليون دولار في البنية التحتية الامريكية المتهالكة، هذا بالرغم من الأعباء المادية للسعودية نتيجة حربها المباشرة في اليمن وحروبها بالوكالة في سوريا والعراق التي أثقلت كاهل الخزينة السعودية وصناديقها السيادية.

وربما فشلها على جميع الجبهات والحروب التي اشعلتها وشاركت بها في المنطقة لعبت عاملا مهما في دفع هذه الزيارة الملكية لروسيا التي أصبحت لاعبا أساسيا في المنطقة ولا يمكن تجاوزها في إيجاد الحلول للازمات التي ما زالت تعصف في المنطقة. وربما تكون هذه الزيارة هي محاولة تبصر بالمرحلة القادمة وهي مرحلة ما بعد داعش في المنطقة، فالسعودية لا تريد أن تخرج من المولد بلا حمص على حسب المثل البلدي أو أن ينتزع دورها الإقليمي العربي لصالح مصر أو دورها في العالم الإسلامي “السني” الذي تنازعه عليها تركيا على سبيل المثال. ومن الواضح ان موسكو أصبحت المحطة التي يحج اليها حلفاء وأدوات أمريكا في المنطقة لإدراكهم الدور المحوري الذي تلعبه موسكو في المنطقة في الوقت الذي يشهد تراجعا للدور الأمريكي الفاعل في المنطقة.

وإذا ما أخذنا تركيا العضو في حلف الناتو والتي تمتلك ثاني أكبر جيش في هذا الحلف والتي كانت لها علاقات مميزة واستراتيجية مع الولايات المتحدة نرى أن علاقاتها مع الولايات المتحدة قد تدهورت منذ عملية الانقلاب الفاشلة في يوليو 2016 . عندها قام أردوغان بقطع الكهرباء على قاعدة انجرلنك الجوية في تركيا ومنع الدخول والخروج منها وقام بالقبض على العديد من الضباط الاتراك العاملين في القاعدة الامريكية التي كانت تستخدم بقصف بعض المناطق داخل الوطن السوري.  وزادت تدهورا نتيجة الدعم الأمريكي للحزب الديمقراطي الكردي في سوريا ولجناحه العسكري وحدات حماية الشعب الكردية التي تسيطر على جزء من الشريط الحدودي مع تركيا وما سمي بقوات سوريا الديمقراطية التي ما هي الا وحدات كردية بالأساس طعمت ببعض العشائر العربية لإضفاء صورة جامعة وتمثيلية عليها حتى تمكنها من التوجه الى “تحرير” الرقة من أيدي داعش وأجزاء من دير الزور مؤخرا، واستخدامها كأداة ومطية في محاولة بائسة لتنفيذ مخططاتها في تقسيم الوطن السوري.

والخوف التركي من إقامة كيان كردي في الشمال السوري هو الذي دعا تركيا الى تغيير أولوياتها في سوريا من إسقاط الدولة السورية الى التعاون والتنسيق مع روسيا وإيران بالشأن السوري لأنها تعتبر أن الحزب الديمقراطي الكردي منظمة إرهابية أسوة بحزب العمال الكردستاني في تركيا وبالتالي فإن إقامة كيان كردي على أبوابها تعتبره تهديدا للأمن القومي التركي. وهذا التناغم والتنسيق مع روسيا وإيران الي شهدناه مؤخرا وربما بشكل من تحت الطاولة مع أجهزة الامن السوري إنما تأتي انعكاسا للخلافات العميقة مع الولايات المتحدة التي اتخذت من الاكراد الركن الأساسي في صلب سياستها في العراق وسوريا ولذلك قامت بتسليحهم وتدريبهم والقتال الى جانبهم من قبل وحدات من القوات الامريكية الخاصة الى جانب عدد كبير من المستشارين الميدانيين. والى جانب كل هذا فإن العلاقات الاقتصادية ما بين تركيا وروسيا وخاصة في مجال الطاقة تشكل رافعة قوية للعلاقات المتينة بينهما. وفي تحد واضح لحلف الناتو وأمريكا عقدت تركيا اتفاقية مع روسيا بتزويدها بمنظومة صواريخ س-400 المتطورة. وجزء من الانقلاب في المواقف التركية نابع من قناعة أردوغان ان مشروعه والاهداف التي رفعها من البداية بالنسبة الى سوريا لم يعد من الممكن بل من المستحيل تحقيقها الان وانضمامه للتنسيق والتعاون مع روسيا وإيران يأتي ضمن هذا السياق ولضمان بعض المصالح التركية وخاصة فيما يخص الاكراد عند إيجاد حلول سياسية في سوريا.

والامر لا يقتصر على تركيا حليفة الولايات المتحدة بل يتعداها الى باكستان الدولة الإسلامية الكبرى والتي كانت تعتبر من الحلفاء الأشد قربا الى الولايات المتحدة لغاية فترة زمنية قريبة. فالمؤسسة الأمنية الباكستانية قامت بتدريب وتسليح المجاهدين الأفغان في الثمانينات بالتعاون مع المخابرات المركزية الامريكية وكذلك السعودية التي انحصر دورها على تمويل المجموعات القاعدية والمجاهدين الأفغان ضد التواجد العسكري الروسي في أفغانستان الذي جاء بدعوة رسمية من قبل الحكومة الشرعية آنذاك.

باكستان اليوم تقيم علاقات قوية مع روسيا. فقد وافقت الحكومة الباكستانية على مشروع بناء محطة كهربائية طاقتها 600 ميغا واط بمساعدة روسية. ومن المعروف أن عدم قدرة الباكستان على تسديد فواتير الغاز والبترول المستورد قد أدى الى ضرب العديد من المصانع الانتاجية الرئيسية في البلاد. وللخروج من هذه الازمة التي أضرت بالقطاعات الاقتصادية كان لا بد من التعاون مع روسيا لإيجاد البديل. وربما من الجدير الإشارة هنا الى أن الصين وروسيا عرضتا على الباكستان تمويل بناء خط أنابيب الغاز الذي كان من المفترض أن تبنيه على أراضيها استكمالا للخط القادم من الأراضي الإيرانية لمدها بالغاز والبترول الإيراني ولكن السعودية قامت بإفشال هذا المشروع. والى جانب التعاون الاقتصادي وفي مجالات الطاقة فقد قامت الباكستان بشراء عدد من طائرات هيلوكوبتر الروسية وأجهزة دفاعية وأجرت مناورات عسكرية مشتركة مع روسيا.

ومن الجدير بالذكر ان المؤسسة السياسية في الباكستان والسعودية التي كانت تعد من الحلفاء الثابتين للولايات المتحدة منذ الحرب الباردة قد لعبت دور الأدوات في المنطقة كما لعبت دورا هاما في انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. والسعودية لعبت الدور الرئيسي بالتنسيق مع الولايات المتحدة عام 2014 في ضرب أسواق البترول العالمية وخفض سعر البرميل الى أقل من النصف وكان هذا في محاولة لضرب الاقتصاد الروسي وإضعاف الدور الروسي على الساحة العالمية الى جانب ضرب الاقتصاد الإيراني حيث أن كلا البلدين يعتمدان اقتصاديا الى حد كبير على صادرات البترول والغاز. ولكن هذا الدور الذي لعبته السعودية لم يؤتي بالثمار المرجوة وانقلب السحر على الساحر وأجبرت السعودية وغيرها من الدول الخليجية الى استخدام صناديقها السيادية لأول مرة في تاريخها لسد العجز المالي الذي نجم عن الانخفاض الحاد في أسعار البترول العالمية. وهذا ما حدا بالسعودية لإبرام اتفاق مع روسيا ضمن منظمة الاوبيك على تنظيم أسعار البترول العالمية عام 2017 وهو العام الذي شهد تحسنا في العلاقات ما بين الدول الخليجية وروسيا الاتحادية. وهذا التنظيم هو في مصلحة الطرفين فكلاهما قد تضرر اقتصاديا من هذا الانخفاض الى درجة كبيرة وبالتالي هنا تتقاطع المصالح الروسية والسعودية.

في النهاية نقول لا شك ان الزيارة مهمة كونها أول زيارة لملك سعودي ولكونها تشكل اعترافا ضمنيا من قبل السعودية بالدور المتميز والوازن لروسيا في المنطقة والعالم وأهمية هذا الدور في إيجاد الحلول لبعض أزمات المنطقة خارج إطار وحدانية التصرف التي تمتعت فيها الولايات المتحدة لأكثر من ربع قرن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك جمهورياته. وبالرغم من الحفاوة التي قوبل بها الملك سلمان وحصوله على “الدكتوراة” الفخرية ومحاولات تقديم الاغراءات المالية التي تميز السياسة الخارجية للسعودية لشراء مواقف الدول، فان مواقف روسيا الاتحادية في المنطقة لن تتغير وخاصة بالنسبة لإيران وسوريا لان علاقاتها مع هذه الدول تمس أمنها القومي بالدرجة الأولى وهي التي ومن خلالها أتيح لها العودة الى المنطقة ووضع بصماتها وولوجها بقوة الى الساحة الإقليمية والدولية كما هو واضح في مجلس الامن الدولي وردع العنجهية والغطرسة الامريكية.وفي المقابل لا أحد يتوقع تغييرات جذرية في المواقف السعودية ولا شك ان أي محاولة من ولي العهد القابض بزمام الأمور في السعودية في السير لتحقيق أهداف خاصة بالسعودية التي لا تتطابق مع السياسة الامريكية سيتم إيقافها بدون رحمة فأمن الدولة السعودية كان وما زال مرهونا بالإرادة الامريكية ولا شيء يجري هنالك دون علمها وإرادتها.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.