نقد فيلم ذا سيركل (الدائرة)(2017) / م. مهند النابلسي
م. مهند النابلسي *
“المعرفة جيدة، لكن معرفة كل شيء هي الأفضل”: انفلات وسائل التواصل الاجتماعي “مستقبلا” لتتجاوز كل الأسرار والخصوصيات والحريات الشخصية!
فيلم تشويق من بطولة كل من ايما واتسون (هاري بوتر)، توم هانكس(سولي)، وجون بويجا (حرب النجوم/استيقاظ القوة)…عندما يتم توظيف العشرينية المنحدرة من طبقة متوسطة ماي هولاند (ايما واتسون) لتعمل في شركة تقنية عالمية كبرى، مختصة بالسوشيال ميديا، تجد في ذلك فرصة العمر السانحة، وعندما تتدرج في المناصب، يعجب بأدائها مؤسس الشركة ايمون بيلي ( توم هانكس)، ويطلب منها ان تنغمس في تجربة عملية فريدة لتخطي حدود الخصوصية والفردانية والحرية الشخصية…ثم نكتشف أن مشاركتها بحماس في هذه التجربة الفريدة وتبعات ذلك من قرارات، قد بدأ يؤثر على خصوصيات وحيوات أصدقائها وصولا لخصوصية حياة والديها الكهلين ووالدها المريض، وحتى يكاد يمس الانسانية جمعاء…انه شريط مشوق يجمع الدراما بالغموض، ومن اخراج “جيمس بونسولدت” وكتابة “ديف ايجرز”، استنادا لرواية شهيرة، فيلم مليء بالاحباط والتشاؤم، يكشف لنا مساوىء الشفافية المطلقة التي تقود للفضائح والكوارث، رابطا الأسرار والخصوصيات بالكذب والخديعة… انها ثقافة التواصل الاجتماعي الفاضحة لكل الخصوصيات ومجاز ذكي فاضح لتغول هذه الثقافة الآن ومستقبلا، تكمن المفارقة هنا في قيام “ماي” اخيرا باستخدام “أدوات الدائرة” ذاتها ضد مؤسسيها الخبثاء، لتفضح سلوكياتهم واسرارهم الشخصية ومراسلاتهم الألكترونية الخفية، ولكنها تفعل ذلك قسرا وبجسارة وبلا صلاحيات ومن منطلق اليأس، لينتهي الفيلم بشكل غامض ومفاجىء ومجازي: “الدائرة” هي شركة “سوشيال ميديا” تمزج بطبيعة عملها ما بين كل من “جوجل وفيسبوك وتويتر” تحت شعار جديد “المعرفة جيدة، لكن معرفة كل شيء هي الأفضل! يتماثل دور توم هانكس هنا بدور بيلي مع منهجية الراحل “ستيف جوبز” في رؤياه الحماسية للمستقبل، وبطريقة استعراضه اللافتة، فهو يقدم سحرا عفويا مشهديا بطريقة ادائه الفريدة، اما “جون بويغا” فقد قدم دورا داعما ولكن بلا معنى، والفيلم مكرس “لبيل باكستون” الذي توفي في شباط الماضي، والذي أبدع بدوره القصير المعبر كوالد ماي المعاق، والذي يعاني من مرض “التصلب العصبي المتعدد”.
تنبهر ماي تماما عندما تعاين المكاتب الفارهة المفتوحة، ومرافق الطعام الزجاجية الشاهقة، والمساكن الأنيقة المريحة لاولئك اللذين يقضون لياليهم في العمل الدؤوب، كما تشعر بالسعادة لمشاهدتها للمرافق المضيئة التي تعمل ليلا، ولسماع الموسيقى الرائعة من فضاءآت العشب المضائة، ناهيك عن تنوع الأنشطة الرياضية والنوادي وممارسات الهوايات واماكن الترفيه المتعددة، وحتى حوض السمك فهو مليء بالأسماك الملونة النادرة المدهشة…لم تصدق ماي حالها وقدرت في سرها الحظ الكبير الذي هيأ لها فرصة العمل في الشركة الأكثر تأثيرا في أمريكا، ولم تأخذ بجدية مدى التناقضات خارج حرم الشركة، ولا حتى أسباب لقاءها المفاجىء مع شخص غريب ناقم، ترك العمل مستاء لأنه يتعرض لفضح الخصوصية وانتهاك حرية الاخرين، ثم حتى مع دورها المتضخم في “الدائرة” وطريقة مجابهتها للجمهور ودعم المدير التنفيذي الحماسي لها…اذن ما بدا وكأنه قصة طموح فتاة عشرينية مثالية متحمسة، انتهى تدريجيا ليثير تساؤلات عديدة حول الذاكرة والتاريخ والخصوصية والشفافية، وصولا للديموقراطية وحدود التدخل بحيوات الاخرين الشخصية ومدى المعرفة المسموح بها…الخ.
الفيلم بمثابة “عرض هجين” لشركات التواصل الاجتماعي، حيث يتماثل دور هانكس مع الرئيس التنفيذي لشركة تويتر “جاك دورسي” بتمثيله لعبقرية هذه التكنولوجيا الشيطانية (فهذه الأجهزة اللوحية ليست مجرد أجهزة آيباد عادية بل أكثر من ذلك/من حوارات الفيلم المعبرة)، كما أن شخصية “بيلي” الهجينة المركبة لا تتماثل مع شخصية تقنية كاريزمية واحدة، فلديه تماثلا مسرحيا لافتا مع حركات مؤسس آبل الراحل “ستيف جوبز” بكاريزميته وبساطته المباشرة التفاعلية، كما بهندامه اللارسمي البسيط الشبابي، وهو قادر على الوصول للموظفين بعرضه لأقراص ملونة من الألمونيوم، تزينها الشعارات البيضاء المتوهجة، ثم بطريقة تبجحه الاعلاني الاستعراضي بقدرته على معالجة جميع الأمراض، واطلاق امكانيات البشر بلا حدود، كما بتبنيه لاسلوبية مدير الفيسبوك “مارك زوكربيرج”، ثم باستخدامه للغموض لجذب الجمهور لطرح الأسئلة، عندئذ يظهر “الوجه البشع” للشفافية عندما تتحول لسلاح قاتل ضد قادتها والمنادين بها، ولكن الفيلم يحافظ على قوته المجازية عندما ينتهي بشكل غامض قابلا للتأويل…
انه فيلم “رؤيوي” بامتياز، يتحدث عن “يوتوبيا” تقنية قادمة، عندما تتحول الراحة الرقمية لكابوس مؤرق، مثل “سحق الخصوم والسعي لتراكم الثروة بكل الوسائل”، فالبطلة المتحمسة أصبحت لا تملك الا ثلاث دقائق فقط للذهاب للمرحاض بلا رقابة، ونجد الدليل حاليا متمثلا بحالات بث جرائم القتل بصنوفه، وكذلك الممارسات السادية الشريرة وحالات الانتحار على الفيسبوك، مما يؤكد صحة مزاعم هذا الشريط “التحذيري” ورسالته الخطيرة، اما الطريف والجديد هنا فيتمثل هنا بكاميرا “بعد النظر” الكروية الصغيرة، التي يمكن تركيبها ببساطة في أي مكان، لتبث لاحقا وبشكل انتقائي ما يسمى ايضا “فيديو بعد النظر” وهي التي اطلقها المدير بحماس امام الحضور الكبير للجمهور الشغوف، مطلقا شعارا وهميا “نحن نسعى لشفاء كل الأمراض فلا حدود لامكاناتنا”…ثم اطلاق مقولة مفادها أن “الأسرار هي مجرد أكاذيب خفية وهي تسمح بانتشار الجرائم وبعدم المحاسبة”، وبالرغم من ذلك فقد نجحت ماي بالهروب فيما كان القمر بدرا وركبت قارب “الكاياك” وذهبت خفية في بدايات الليل لزيارة والديها، واطلقت فيما بعد بحماس دعوة تمثل قناعة والتزاما لارضاء مديرها الخبيث: “سأكون شفافة جدا وسأحمل كاميرا بعد النظر دائما معي للتجسس الكامل على الحياة الشخصية للآخرين وكشف أسرارهم وحتى طريقة تنظيف الأسنان!
فتح حساب الزامي والبحث عن “مجرمة هاربة” وانسان عادي للتعقب:
والمقصود هنا فتح حسابات الزامية لحوالي 241 مليون ناخب امريكي من خلال دوائر الحكومة، “فنحن بحاجة لديموقراطية حقيقية لأول مرة في التاريخ”؟! ولا حاجة ابدا للمحافظة على الخصوصية وهذا سيؤثر تلقائيا على الحيوات الخاصة للأصدقاء والبشر العاديين، كما يفضل دوما الكشف عن الأجندات الشائنة، هكذا أخذنا موافقة 22 بلدا للبحث عن الحقائق وكشف الجرائم، وسأكشف لكم طريقة عمل هذه الكاميرا المدهشة، حيث وخلال 22 دقيقة فقط سنكشف مكان مجرمة هاربة من العدالة، وسيشاهد ذلك مليار انسان…بالفعل لقد وجدنا المشبوهة الهاربة “فيونا” القاتلة في الجنوب الاسباني وقبضنا عليها…ثم كيف سنبحث عن انسان عادي خلال عشر دقائق فقط، هكذا تطلب منهم أن يلاحقوا بلا هوادة صديقها الخجول ميرسر “قاتل الوعول وصانع القربان”، حيث نشاهده يهرب جزعا بسيارته من الجموع الملاحقة له، ليتعرض لحادث سير مريع ويموت، ويصيبها شعور كاسح بالذنب والندم الشديد…ثم ما مصير “تاي لافيت” (جون بويجا) المبتكر للنظام والكاره له والهارب منه ندما واشمئزازا؟…يجيب مدير الشركة المتحمس بأن نظام الملاحقة الحثيثة هذا يسمح بتحسين مستوى الخدمات العامة وتجنب حوادث السير بانواعها وترميم الأشياء والأمكنة المغلوطة، ولكن “ماي” وربما انتقاما تقلب “الطاولة” على رأسيهما (ايمون الداهية الخبيث ومساعده الصامت دوما المؤسس المشارك توم/باتون اوسوالت) في المشاهد الأخيرة المعبرة، فتتبع بريدهما الألكتروني، وتكشف اتصالاتهما وتتبع حركاتهما، ويكون رد فعلهما تلقائيا وغير متوقع “لقد قضي علينا”! وينتهي الفيلم بنهاية مفتوحة غامضة ومجازية، حيث تعود ماي للقارب والمجداف وهي تنظر للافق مع نظرات حزينة تائهة ومحيرة !
ملخص نقدي:
لم يلقى هذا الفيلم مراجعة نقدية عادلة في اعتقادي ( 4 من عشرة) وقد استغربت حقا من تدني درجته، وقد وجدت أن هانكس وشريكه “اسوالت” (الصامت دوما) لم يأخدا دورهما على مأخذ الجد، وربما كان ذلك مقصودا لتأكيد عناصر “الدجل والتخويت والاستخفاف لكي لا اقول المبالغة” الكامنة في هذه المسرحية “الاورويلية” الساخرة والعبثية، والدالة على التوقعات المرعبة لمجتمع “الرقابة ” المستقبلي القادم، مع التأكيد على البعد الدرامي والكارثي والغرائبي، بدا الطرح السينمائي ساذجا أحيانا وربما كان ذلك مقصودا ايضا، حيث رسالة الفيلم واضحة لا لبس فيها، فهي توجه نقدا لاذعا وواقعيا لوسائط الميديا الاجتماعية السائدة، وتحذر من تغولها وسيطرتها الكاسحة على كافة انماط حياتنا وحريتنا وخصوصياتنا، انه خيال علمي واقعي ومحتمل، يعرض “ديستوبيا رؤيوية” تحذيرية لما يمكن ان يحدث مستقبلا عندما تنفلت الامور من ضوابطها وعقالها وتتغول وسائل وتقنيات “التواصل الاجتماعي”، وهو يتحدث باختصار عن “فاشية” واستبداد التقنيات الرقمية، وانتقالها للتجسس واقتحام الخصوصيات وتدميرها للحريات الشخصية بحجة “الشفافية والديموقراطية”، كل ذلك اعطى قيمة فكرية وفنية فريدة لهذا الشريط لأنه يحذرنا من الدمار القادم الذي بدأنا نشاهد بوادره في الكثير من الحالات والأمثلة هنا وهناك!
* كاتب وباحث وناقد سينمائي
التعليقات مغلقة.