قراءة نقدية لبعض المقولات الفلسطينية / د. عزمي منصور




.

لقد علّمنا التاريخ أن الثورة هي فعل إرادي من أجل تغيير واقع احتلال أو إزالة ظلم، وهدم البنى القديمة لتحل محلها بنى جديدة تعبّر عن طموحات وأماني الشعب خاصة الفقراء منه والمظلومين.. وعلّمنا التاريخ أيضاً أن هناك ” ثورة مضادّة ” تحاول الإبقاء على واقع الحال لصالح الطبقات أو الفئات الرأسمالية، المتحالفة مع الامبريالية ولكن لم نشهد في التاريخ أن تتحوّل ثورة إلى ثورة مضادّة… عبر سلطة وهمية تتقاسم مع الاحتلال الحفاظ على أمن المحتل والمغتصب، وأن تحول دون العمل المقاوم، وأن تتنازل لمحتل على جزء كبير من وطنها وشعبها …وأن تتنافس كبرى الكتل والتنظيمات فيه، على مَن هو المؤهّل أكثر للتفاوض مع العدو، على قاعدة “أوسلو ” ، أو القرار 242 أو اقتراحات الرباعية .. وتتنافس أيضاً على مَن يكون أكثر حظوة لدى الأميركي أو الصهيوني.

من يريد المقاومة، من المعيب أن ينتظر غيره ليحرّر له وطنه، فالشعب المحتل هو من يكتوي بنار الاحتلال

لقد ترسّخ في العقل الفلسطيني بعض المقولات التي أصبحت بمثابة مسلّمات أو بديهيات، وقد حكمت هذه الأفكار(البديهيات) مسيرة العمل الوطني الفلسطيني على مدار عقود من الزمن ، حيث لم تصل بنا إلى بر الأمان، وإنما إلى مزيد من التراجع الذي كاد أن يودي بشعبنا إلى حال من الإحباط واليأس لولا جذوة المقاومة التي ما زالت مشتعلة تحت الرماد ، وسنحاول تفحّص هذه المقولات ونناقش واحدة منها في هذه المقالة لنرى هل هي فعلاً  بديهية تصلح أن تحكم مسيرة عملنا، أم إنها كانت بمثابة مخدّر أو تضليل حرف الفعل النضالي من التأثير الحقيقي على العدو، وجعله مجرّد فقاعات إعلامية، وانتصارات وهمية تُرضي غرور الأنا، ولكنها لا تؤثر بالعدو تأثيراً حقيقياً أو خطيراً وإنما مجرّد خدوش لا تصيب بالعدو مقتلاً.

أولى هذه المقولات: ( إن الشعب الفلسطيني لا يستطيع تحرير وطنه إلا بمساعدة الدول العربية، خاصة ما اسماها بـ”دول الطوق”) وهنا نتسائل: لماذا انطلقت الثورة رغم هزيمة هذه الدول في الخامس من حزيران 1967؟ ألم ندرك أن النظام الرسمي العربي لم يكن على مستوى التحدّي؟ أم إنها (أي الثورة) راهنت على تخطّي الهزيمة، وإعادة بناء الجيوش العربية ، وإنها ستحرّر فلسطين ؟؟ فإذا كان هذا هو التقدير، فإن النظام الرسمي العربي قد اعترف بقرار مجلس الأمن 242 الذي ينصّ على انسحاب العدو الإسرائيلي من الأراضي المحتلة عام 1967، هذا القرار الذي أصبح مثار جدل حول الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 أم من أراض ٍاحتلت عام 1967 ، وبكل الأحوال لم ينفذ القرار حتى تاريخ كتابة هذا المقال . وعليه فإن استراتيجية النظام الرسمي العربي لا تتضمن تحرير فلسطين بينما شعارات كل التنظيمات الفلسطينية كانت تنصّ على تحرير فلسطين ، بما في ذلك أيضاً الميثاق القومي الذي أصبح الميثاق الوطني الفلسطيني ، إذن نحن أمام استراتيجيات مختلفة، فكيف يمكن الرهان على النظام الرسمي العربي، وهل يجوز لنا أن نملي على الأنظمة العربية استراتيجياتها ؟؟ وهل يجوز أن نتخلّى عن استراتيجياتنا بالتحرير الكامل والشامل ، والذي دفعنا ثمنه دماً من أبناء شعبنا وأمتنا في ظلّ الثورة المعاصرة وهذا ناهيك عما دفعه الأجداد منذ أن كان هناك مسألة فلسطينية منذ مطلع القرن العشرين، وإذا كان الرهان أيضا ًعلى ما يُسمّى ب (دول الطوق) ، فإننا بعد سنوات من انطلاق الثورة شاهدنا انعطافات حادة في مسيرة هذه الأنظمة حيث دخلت مصر كبرى الدول العربية في “معاهدة سلام” مع العدو خرجت من خلالها مما يُسمّى ب ” الصراع العربي/ الصهيوني ” ، وحاول العدو كسر حلقة “دول الطوق” وتصفية المقاومة الفلسطينية في لبنان ، والتي خرجت من الأردن سابقاً ، وحاول فرض اتفاقية على لبنان في 17 أيار 1982 إلا إنها باءت بالفشل، اثر اغتيال بشير الجميّل رئيس الجمهورية القادم على دبابات إسرائيلة ، ولكن ما هو مفاجئ ، ومناقض لكل شعارات التحرير التي أطلقتها فصائل منظمة التحرير هو دخولها في اتفاقية مع العدو ، عرفت “باتفاقية أوسلو” التي اعترفت بالعدو الإسرائيلي بحدود عام 1967 ، وبهذا تكون المنظمة قد تماهت مع استراتيجية الأنظمة العربية علناً، بعد أن كانت تعمل وفق هذه الاستراتيجية سراً ، أو من دون إعلان ، ما يعني تضليلاً للشعب، ولمقاتليه، وعدم أخذ تفويض منه لمثل هكذا توجّه، ما يعطي الحق لأي فلسطيني بالعمل ضد هذا الاتفاق أو التنصّل منه والدعوة للمقاومة المسلحة لتحرير كامل التراب الفلسطيني المغتصب، بكافة أشكال النضال.

حيث إن هذا الاتفاق المشؤوم عام 1993 جعل الأردن يوقّع اتفاقية وادي عربة، باسم (معاهدة السلام الأردنية –الإسرائيلة ) أي بعبارة أخرى إن دولتين من دول الطوق إصبحتا خارج دائرة الصراع. وإن منظمة التحرير أيضاً أصبحت غير معنية بتحرير كامل التراب الفلسطيني… بل معنية بالضفة الغريبة وقطاع غزّة والعمل لإقامة كيان فلسطيني بوسائل سلمية حسب اتفاقية أوسلو لتحقيق حكم ذاتي محدود، أرادته المنظمة أن يكون سلطة ودويلة.

فمن يتحدثون عن المقاومة، وما زالوا مؤمنين بالمقاومة، وبكل أشكال النضال بما فيها العمل المسلح عليهم أولاً قبل أن يتحدّثوا عن عدم إمكانية المقاومة أن يراجعوا أنفسهم ويسألوا لماذا انطلقت المقاومة ، والدول العربية مهزومة، وهل ممكن أن يكون المهزوم رديفاً؟؟ ثم عليهم تغيير مقولاتهم السابقة لأنها مقولات تبريرية وانهزامية، فدول ما يُسمّى بالطوق خرجت اثنتان منه ، ولم يبق سوى لبنان وسوريا، وهذا هو سر الحرب على لبنان وسوريا ، بمعنى آخر إن للمقاومة ظهيراً لمن أراد المقاومة وعليه أن لا يستعدي هذا الظهير، بل عليه أن يتمحور مع هذا المحور، لا أن يختلق المبرّرات للابتعاد عن هذا المحور، تحت شعار ( القرار الوطني المستقل)، بل وفي الآونة الأخيرة، هناك من وقف مع الحلف الأميركي /الصهيوني وطعن سوريا والمقاومة اللبنانية في الظهر، جزاء لدعمهم واستقبالهم بعد أن ضاقت بهم الأرض بما رحبت.

كما أن من يريد المقاومة، من المعيب أن ينتظر غيره ليحرّر له وطنه، فالشعب المحتل هو من يكتوي بنار الاحتلال ، وعليه أولاً مسؤولية مقاومة هذا الاحتلال، وعلى الآخرين من شرفاء الأمّة الدعم والمساندة ، في إطار جبهة عريضة، وتنسيق حقيقي.

فكفى صراخاً وعويلاً ( يا وحدنا) .. فالشعب الفلسطيني لم يكن وحده في يوم من الأيام، بل تم احتضانه ودعمه ومساندته وتسليحة وتدريبه من أكثر من جهة، ولكن قيادة الشعب الفلسطيني لم تُحسن الاختيارات ، ولم تكن على مستوى التحديات وطموح شعبها. ولم تتصرّف بحكمة في البلدان التي تواجدت بها، كما لم تتصرّف بحكمة مع بعضها البعض.

إن من يريد المقاومة ، عليه أن يسأل أيضاً : ما هو السبيل الأمثل للمقاومة في مثل حالتنا ، حتى لو افترضنا أننا محاصرون، وبلا ظهير، فهل إذا انعدم الظهير نستسلم للعدو، ونرضخ لشروطه، ونفرّط بحقوقنا، ونتنازل عن جزء من وطننا؟؟ أم نقرأ ونفكّر ونبتكر الأساليب الناجعة للمقاومة ، خاصة وأنه لدينا توازناً سكانياً مع العدو، وفي مثل هذه الحال فإن القوى البشرية عامل مهم في الصراع ، خاصة ونحن ندرك إننا أمام عدو مدجّج بالسلاح التقليدي والفتّاك، وإننا لا نملك سوى إرادتنا، وبعض الأسلحة الخفيفة فهذا لا يمنع أن نقاوم بأساليب غير تقليدية، فكل الشعوب الضعيفة انتصرت على أعتى آلة حرب، بإرادتها أولا، وحسب تكتيكاتها ثانياً، ونحن بإمكاننا أن نواجه هذا العدو ، بل وننتصر عليه، إذا أتقنا فن الحرب الشعبية وعملنا بتخطيط وعِلم ودراية ومتابعة حقيقية لهذا العدو..

أما من يقول بأن هذا العدو مدجّج بالسلاح ، ولا يوجد توازن معه ، فإلى حين إحداث هذا التوازن نواجه، فهذا تبرير سخيف يعبّر عن هزيمة داخلية ونفسية لأنه لن نتمكّن من إحداث هذا التوازن العسكري بل قادرون على كسره ، وتعطيل بعض طاقاته وقدراته.

وبالعودة إلى موضوع الحدود المقفلة، وأن فلسطين المحتلة محاصرة، وليس لها ظهير، كما يدّعي البعض نقول: وهل الجزائر كانت حدودها مفتوحة ؟ أم أن الفرنسيين كانوا يراقبون ويغلقون الحدود؟ ألم يكن شعار الجزائريين التسليح من العدو؟ ولا يوجد توازن مع فرنسا؟؟ ولو افترضنا أن الأردن أو مصر كانت ظهيراً وسنداً للمقاومة، فهل هذا يعني أن الحدود باتت مفتوحة ، وأن العدو الإسرائيلي لم ولن يغلق هذه الحدود ويراقبونها… ثم ألم يتم تهريب السلاح إلى قطاع غزّة المحاصر، في ظل وجود نظام كامب ديفد ؟؟ ألم تواجه غزّة حربيين عاتيتين بهذا السلاح المُهرّب أو المُصنّع محلياً، وحالت دون تمكين العدو من دخول القطاع المُحاصر، رغم شراسة العدو وتدميره للقطاع، ألم تكن الضفة الغربية تتابع الحرب على غزّة ، وكأنها مباراة كرة قدم، تنتظر نتيجة مَن الفائز؟؟ وهل نصرة الأخ وابن الوطن تكون عبر مسيرات الشموع في الضفة الغربية، وكأن غزّة في نيكاراغوا؟؟

إن أكبر خطيئة ارتكبتها م.ت.ف ، في اتفاقية أوسلو، هو اعترافها بالعدو، والتسليم والتنازل له طوعاً عن جزء كبير وعزيز من الوطن وحتى التنازل عما يقارب مليوني مواطن فلسطيني، بأنهم رعايا لدولة الاغتصاب، وهذا لم يحدث أبداً في تاريخ الثورات العالمية…

لقد علّمنا التاريخ أن الثورة هي فعل إرادي من أجل تغيير واقع احتلال أو إزالة ظلم، وهدم البنى القديمة لتحل محلها بنى جديدة تعبّر عن طموحات وأماني الشعب خاصة الفقراء منه والمظلومين.. وعلّمنا التاريخ أيضاً أن هناك ” ثورة مضادّة ” تحاول الإبقاء على واقع الحال لصالح الطبقات أو الفئات الرأسمالية، المتحالفة مع الامبريالية ولكن لم  نشهد في التاريخ أن تتحوّل ثورة إلى ثورة مضادّة… عبر سلطة وهمية تتقاسم مع الاحتلال الحفاظ على أمن المحتل والمغتصب، وأن تحول دون العمل المقاوم، وأن تتنازل لمحتل على جزء كبير من وطنها وشعبها …وأن تتنافس كبرى الكتل والتنظيمات فيه، على مَن هو المؤهّل أكثر للتفاوض مع العدو، على قاعدة “أوسلو ” ، أو القرار 242 أو اقتراحات الرباعية .. وتتنافس أيضاً على مَن يكون أكثر حظوة لدى الأميركي أو الصهيوني.

أليس هذا تحوّلاً من خندق الثورة إلى خندق السلطة المضادّة؟؟ أليس هذا تضليلاً للشعب، وتنازلاً عن حقوقه المشروعة بغير وجه حق، وبغير تفويض من هذا الشعب الذي ما زال الملايين منه مهجراً ومشتتاً منذ 70 عاماً في كل أصقاع الارض .

إننا نخشى التنازل عن حقوق اللاجئين وحقهم بالعودة والتعويض ، كما حصل وإن تم التنازل على رؤوس الأشهاد عن جزء كبير من الوطن ، وعن جزء من هذا الشعب العظيم ، الذي أصبح يُدعى “عرب إسرائيل ” بدلاً من عرب فلسطين المحتلة.

وفي الختام نقول لكل من سقطوا في منتصف الطريق، وللمهرولين نحو الحلول الاستسلامية، إن الكف يلاطم المخرز حين نمتلك الإرادة، وإن القوة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي أو نكرانه …وإن المقولات السقيمة لا تجرّ إلا الوبال ، فقد آن الأوان لتصحيح بعض المفاهيم والمقولات التي باعت الشعب الفلسطيني الوهم  بدلاً من إنجاز التحرير أو تحقيق ما كانت تنادي به، بل إن عقوداً من الكفاح واستعداد الشعب الفلسطيني بالتضحية بلا حدود، ضاعت بلا نتيجة مرجوّة بل وازداد الوضع الفلسطيني سوءاً وتراجعاً .

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.