” مليحة ” … أمّ الأسيرين الفلسطينيين : حكاية لا تنتهي ..!

 

الأردن العربي ( السبت ) 21/3/2015 م …

الواحد والعشرون من آذار , يوم اعتمد العالم على تسميته بيوم الأم , ليجتمع الجميع حول أمهاتهم ويقدموا لهن الهدايا , وتفرح هي الأخرى بهذا اليوم , هذا ما يحصل في كل عام أما هذه الأم , فهي تختلف كل الاختلاف عن باقي الأمهات , فهي لا تطالب بالهدايا , بل تطالب بمقدمي هذه الهدايا .

فهناك على قارعة الطريق تجلس هي , وتنظر إلى المارة واحدا تلو الآخر بعيونها الخضراء , وتبتسم ابتسامة بريئة تخفي خلفها آهات وهموم , لتظهر على جبهتها لوحة من التجاعيد التي رسمها الدهر وتفنن فيها , وتمسك بين يديها النحيلة أوراق الزعتر التي تقطفها لتبيعها وتعتاش من ريعها .

الحاجة “مليحة موسى اكريم” “70” عاما , من بلدة سعير شمال مدينة الخليل , أم لأسيرين في سجون الاحتلال , حياتها عبارة عن مسلسل مأساوي , تتصاعد به الأحداث حدثا تلو الآخر , لتزداد مأساتها شيئا فشيئا في كل حلقة .

فالحاجة كانت ولا تزال تعمل في فلاحة الأرض ورعي الأغنام , فهذه مهنتها منذ صغرها , حيث كانت تفلح الأرض وتبيع ما تجنيه في مدينتي القدس وبيت لحم , ومع مرور السنين لم يعد بإمكان جسدها المرهق الوصول إلى هاتين المدينتين , لكنها استمرت في عملها لتبيع الزعتر في مدينة الخليل , خوفا من أن تحتاج مساعدة من أحد .

سر الإصرار على العمل رغم تقدم السن يستغرب المارة عن هذه الأم سبب إصرارها على العمل رغم التقدم الكبير في سنها , ونحالة جسدها , ولكنها لم تستسلم لعائق السن لأن استسلامها له معنى واحد فقط , وهو موتها وموت زوجها الراقد في فراشه , فهي التي تعيله وتبتاع له الأدوية بسبب عجزه عن النهوض من فراشه , وأبناؤها أربعة , اثنان منهم أسرى في سجون الاحتلال , وثالث يعاني من إعاقة جسدية لا يقدر على العمل لإعالة والديه , ورابع رب لأسرة غير قادر على إعالتها , فأمهم لا تلومهم , بل ترضى عنهم بكل براءة .

في رحاب الماضي

تسترجع هذه الأم الفلسطينية الماضي وهي تروي لدنيا الوطن الآهات والآلام التي تعتصر قلبها , فلحظة اعتقال أبنائها هي اللحظة الأشد مرارة بالنسبة لها , فهي تروي طريقة اعتقال ابنها البكر وعيونها تمتلئ بالدموع , حين دخل جنود الاحتلال على منزلها فجأة ودخلوا غرفة ولدها وهو نائم , وهرعوا بضربه بشدة , وهي ما كان بوسعها سوى التوسل لهؤلاء الجنود ليتركوا ابنها وشأنه , لكن بلا جدوى فالضرب طالها هي أيضا , لكنها لم تستسلم وركضت خلفهم لحظة اعتقالهم له , متأملة أن تحتضن ابنها بين يديها , لتجعل من ذراعيها حاجزا يكف الأذى عن فلذة كبدها , لكنها لم تستطع وبقيت تعاني مرارة الفراق وتنتظر اللحظة التي تستطيع عناق أبنائها قبل أن يعانقها الثرى .

وزيارة أبنائها الأسرى في سجني “مجدو” و”جلبوع” هي في حد ذاتها معاناة , فهي تقطع مسافات كبيرة ليس من السهل على أي مسنة أن تقطعها , لكنها تفعل ذلك لتتمتع بنظرة واحدة من خلف الزجاج تطمئن قلبها المشغول على أبنائها , فبنظرتها هذه تنسى ألم الفراق ومشقة الطريق , لتطفئ نار قلب الأم .

ومعاناتها قديمة , وليست وليدة عصرها فهي تروي ما مرت به في الماضي أيان دخول جنود الاحتلال لجبل سعير , عندما كان الحكم للجيش الأردني ففي تلك الفترة كانت تفلح الأرض بالتزامن مع قصف الطائرات للمكان , لكن هذا القصف لم يهز إرادة أم فلسطينية تطمح في البقاء على أرضها حتى وإن ماتت شهيدة .

وتبتسم ابتسامة مريرة تستهزئ من نفسها فترة هروبها من منزلها أيام النكسة , لتفعل كما فعل باقي أفراد القرية , حاملة أطفالها على رأسها وبين أحضانها لتخبأهم في مغارة في مننطقة “تقوع” رافعة الراية البيضاء فوق بيتتها .

المعاناة اليومية

تبدأ “الحاجة مليحة” نهارها من الساعة الرابعة صباحا لتجمع الزعتر , ومن ثم تبدأ بفصل أوراقه عن أغصانه , وتتجه إلى أحد الشوارع في وسط مدينة الخليل , وتبدأ ببيع محصولها , لتنادي بصوتها المرتجف على المارة , وتتحدث إليهم , تفرح مع هذا وتمرح مع ذاك , حتى أنها أصبحت أحد معالم المكان ويفقتقدها التجار والمارة لما تتصف به من صفات تشد إليها أي إنسان وتستمر هكذا حتى نهاية النهار , لتعود إلى منزلها بحصيلة خمسين شيقل بعد ساعات عمل طويلة , تنتهي بانتهاء إعطاء الشمس نورها للأرض لتنتقل إلى بيتها وترعى زوجها وابنها العاجز .

فهذه أم يضرب بها المثل في التضحية والصبر على آهات الحياة , والعزم على البقاء فكلمة أم فلسطينية بحد ذاتها رمز فهي أم الأسير وأم الجريح وأم الشهيد وأم المهجر وأم البطل

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.