أحمد فؤاد نجم.. كَابُوسُ السُّلطَاتِ وَشَاعِرُ الفُقَرَاءِ / ممدوح فرَّاج النَّابى

 

ممدوح فرَّاج النَّابى ( مصر ) الأربعاء 25/3/2015 م …

فى قَلْبِ ميدان التَّحرير ولهيب الثَّورة يشتدُّ أواره، والحُلْم يدنو من سقوط نظام حسنى مبارك الغاشم. وسط هذا المشهد فى شتاء يناير 2011، والذى امتزجت فيه الهُتافات بالأغانى الوطنيّة، والألوان التى تنشرها الألعاب النَّارية فى سماء التَّحرير، بزخم الميدان نفسه، لم يغبْ عن بَالِ الشَّاعر أحمد فؤاد نجم وهو الرَّجل المـُسِّن، المتواجد منذ أوَّل يوم فى الميدان بجسده النحيل وجلبابه الشَّهير، صديق رحلة الكفاح الشّيخ إمام عيسى فيصيح بصوت عالٍ: “يا إمام يا حمار… كيف تموت ولا ترى حُلْمنا يتحقّق… كنتُ أودّ أن نكونَ معًا لنغنى هنا”.

رَحَلَ إمام قبل سنواتٍ عديدةٍ بالتحديد فى يونيه 1995. وسَعَى كثيرون كعزة بلبع أن تحلَّ محل إمام، وتملأَ الفراغ الذى تركه إمام بعد انفصالهما فى منتصف الثمانينيات بعد أنْ دعاهما وزير الثقافة الفرنسى الاشتراكى “جاك لانغ” للغناء فى باريس، ومع نجاح عزة نوعًا ما، إلا أن كثيرين لم يتقبلوا أنْ يحلَّ محلّ إمام شَخصٌ آخر، حتى ولو كان الشَّخصُ زوجة نجم نفسه، أو حتى سعاد حسنى التى غنَّتْ “دولا مين ودولا مين” بعد نصر السّادس من أكتوبر، فإمام ونجم شكَّلا ثنائيًا مهمًا، استمرّ ما يقرب من 20 عامًا، منذ لقائهما الأوَّل فى عام 1962، ثمّ انضمّ إليهما عازف الطبلة محمد على، ليكوِّنوا ثلاثيًا شهيرًا، وإن كانت الشّهْرَة كانت مِن نصيب نجم وإمام ليس فقط فى دمج الشِّعْر بالغناء فى ظاهرة لم تعرفها الأوساط الثَّقَافِيَّة، بل فى استخدامهما الفن فى مقاومة استبداد الأنظمة، وكانا ضيفيْن ملازميْن لسجون عديدة لعصور مختلفة، حتى أنَّ الشَّيخ إمام دخل السَّجن بتهمة الغناء لتكون السَّابِقة الأولى فى التاريخ لم تحدث من قبل إلى الآن.

عُرِفَ عن نجم أنه مُزْعِجٌ للسُّلْطات وَمُتَهَكِّمٌ من استبداديتها، ومِن ثمَّ صار زبونًا دائمًا لسجونها على مدار عقود طويلة، ويوم أنْ أرادتِ الدَّولة فى عهد عبد الناصر أن تستأنسه وتُدجِّنه، فأرسلت له رجاء النقاش للاتفاق معه بالاشتراك مع صديقه الشّيخ إمام، على برنامج فى الإذاعة المصرية بعنوان “مع ألحان الشّيخ إمام” لكنهما فى الحفل خَرَجَا عن النَّص نزولاً على رغبة الجماهير وهو ما سبب حرجًا لرجاء النقاش والحكومة خاصّة بعد دعوتهما إلى قرية كمشيش للغناء فى ذكرى مقتل صلاح حسين.

على مدار رحلة حياته المديدة 84 عامًا، والتى بدأت فى 23 مايو 1929 فى قرية كفر أبو نجم بمدينة أبو حمَّاد محافظة الشرقية، ثم ملازمًا لعبد الحليم حافظ فى الملجأ بعد وفاة والده، عمل أعمالاً كثيرة بدأها فى صباه كراعى أغنام وفى معسكرات الجيش الإنجليزى، ثمَّ متنقلا بين مهنٍ كثيرةٍ: كوَّاء، لاعب كرة، بائع، عامل إنشاءات وبناء، وترزى، كما اشتغل عاملاً فى السِّكّك الحديدية فى الفترة ما بين 51 إلى 56، وبسبب احتجاجه المتكرِّر على السَّرقات التى رأها، تمّ نقله إلى وظائف أخرى، ثم تمّ تلفيق تهمة له ليدخل السجن بتهمة التزوير.

*صراعه مع الطبقية*

ويحكى عن هذه الفترة فى مذكراته “الفاجومى”: “وشهدت فى هذه الفترة أكبر عملية نهب وخطف شهدتها أو سمعت عنها فى حياتى، فالكبار منهمكون فى نهب الورش بينما يموت الفقراء كل يوم دفاعًا عن مصر”.

ويبدو أن صراعه مع الطبقية هو صراع قديم ليس مقترنًا بانضمامه إلى اليسار الذى رفض أن يدجّنه ليكون صوته وشاعره، أو حتى بسخريته وانتقاده الجارح لنظام السَّادات والطبقة الحاكمة وطبقة البرجوازيين الكبار والصغار، والطبقات التى اغتنت فجأة فى سنوات الانفتاح وهو ما عبَّرَ عنه: “إحنا مين وهمه مين/ همه بياكلوا حمام وفراخ/ واحنا الفول دوخنا وداخ/ همه بيركبوا طيارات/ واحنا نموت ف الأتوبيسات”، وإنما يمتد مذ حَالَ الوضع الطبقى لابنة عمته دون إتمام الزواج منها. ومع هذا فظلَّ السُّؤَال الغريب عن العلاقة التى جمعت بينه وبين رجل الأعمال نجيب ساويرس فى السنوات الأخيرة، والتى ارتقت لأن يكون نجم أحد المؤسسين لحزب ساويرس “المصريون الأحرار”، وقد قيل عنها ما قيل حتى أن الكاتب الصحفى عادل حمودة فتح النار على هذا التحالف الجديد بين الرأسمالية المتمثِّلة فى نجيب ساويرس والقاع الاجتماعى فى صورة نجم بجلبابه، فكتب مقالاً لافتًا “الجياد لا تباعُ فى السوبر ماركت”، وهو ما دفع نجم لكتابة كتاب أسماه “أنا وعادل حمودة”، على غرار عناوين الكتب التى يؤلفها عادل نفسه.

*مواقفه من السُّلْطة*

دكما أن مواقفه من السُّلْطة ظاهرةٌ للجميع حتى صارتْ تمثِّلُ مادَّةً ثرية لصحافة النميمة وأحاديث التوك شو، ومن ثم ما حدث مع الرئيس مرسى، ليس بجديد، فما بين تأييده له من قبل نكاية فى رجل النظام السَّابق أحمد شفيق، ثمّ الخروج والدعوة للتمرُّد عليه، وظهوره أمام الملأ على شاشات التلفاز ليعلن ندمه، وَيُوَقِّعُ على استمارة تمرُّد، مُبديًا ندمه قائلاً: “صوتى أصبح ثأرًا بينى وبينه”، فهذا الموقف يُعدّ تلخيصًا لحياة واحد من شعراء الخوارج، وحلقة من حلقات صراع نجم والسُّلْطَة، والتى بدأها مع عهد عبد الناصر خاصّة بعد نكسة 67 وضياع سيناء، بالسُّخرية منه بقصائد لاذِعَة على شاكلة: “الحمد لله خبّطنا.. تحت باطاطنا/ يا محلا رجعة ظبّاطنا.. من خط النار/ يا أهل مصر المحميّة.. بالحراميّة/ الفول كتير والطعمية.. والبر عمار/ والعيشه معدن واهى ماشيه آخر آشيا/ مادام جنابه والحاشيه.. بكروش وكتار”، ومن رجالاته على نحو: “أربعة يدخلون النار بشدّة: شمس بن بدران… وعباس بن رضوان… والمشير بن عامر…عبد اللازق بن المسبب”، وهى القصيدة التى جعلت عبد الناصر يشتاط غضبًا، وبعدها أصدر تعلمياته بأنه “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، وهو الشِّعار الذى تغنَّى به الفنانون والشُّعَراء، أما نجم فراحَ يُغَرِّد خارج السِّرْب وَيَسْخَرُ من الشِّعَار سخريةً مريرةً هكذا: “سلام يا واد للست معمع معركة/ كمان سلام لأهل بيت المعركة/ سندات جهاد جداد عشان المعركة/ لازمن جميع الناس يساعدوا المعركة”، بل إنّ ديوانه “بلدى وحبيبتى – قصائد من المعتقل”، بمثابة نقدًا شــرسًا للناصريّة ورموزها كافة، وهو ما جعل عبد الناصر يُقْسِمُ بـ “ألا يخرجَ إمام ونجم من السجن ما دام حيًا”. وهو الموقف الذى ادَّخره نجم لناصر، وهو ما دفع نجم عند موت عبد الناصر بألا يغفرَ له، لكن يتغيّر موقفه كلية عندما يذهب إلى قبر جمال عبد الناصر ويتوجه إليه بخطاب أشبه باعتذار: “مين ده اللى نايم وساكت والسُكات مسموع/ سيدنا الإمام ولّا صلاح الدين/ ولا الكلام بالشكل ده ممنوع”. بل وصفه بأنَّه “فاجومى من جنسنا”، إلى موقفه من الرئيس السَّادات الذى حَمَلَ عداءً شخصيًا وتراشقًا بين الطرفين، لدرجة أن السَّادات وصفه بأنه “الشَّاعر البذىء”، ولم يتردّد نجم فسخر من وصوله إلى السلطة قائلاً “يا واد يا يويو”، ثم بدأ سلسلة من قصائد التقريع السِّيَاسى اللاذع مثل (الفول واللحمة، ونيكسون بابا، والواد يويو، وجيسكار ديستان، ويوتيكاتى الناتى كوناتى، والحاوى، والبتاع)، بالإضافة إلى القصيدتين المهمتين (هنا شقلبان وصندوق الدنيا). ثم تبلور الصدام الحقيقى بعد انتفاضة 1977، وسخرية السَّادات منها بتسميتها انتفاضة الحرامية.

كما يستقبلُ الرئيس المخلوع مبارك عند توليه الحكم بقصيدة “الشِّكَارة”، ثم صار مبارك وفساده موضوعات دائمة فى قصائده، على مدار فترة حكمه، خاصة عندما ظهر مشروع التوريث، راحَ يتقمص دور مبارك ذاته فى قصائده قائلاً على لسانه: “حبهدل جنابك وأذل اللى جابك وحيكون/ عذابك ده فوق الاحتمال/ وامرمط سعادتك واهزأ سيادتك واخلى كرامتك فى حالة هزال/ وتلبس قضيه وتصبح رزيه وباقى حياتك تعيش فى انعزال/ حتقبل ححبك حترفض حلبك حتطلع حتنزل حجيبلك جمااااال!”، وصولاً إلى قصيدة “عريس الدولة” قبل الثورة بشهور عديدة، وهى التى سَخَرَ فيها من زواج جمال وطموحه السياسى، قائلاً: “مبروك يا عريسنا.. يا بو شنة ورنة يا وخدنا وراثة.. اطلب واتمنى/ وادخل من جنة.. واخرج على جنة/ مش فارقة معانا.. ولا هارية بدنا/ ولا واجعة قلوبنا.. ولا فاقعة … / يا عريس الدولة..افرح واتهنى/ ماحناش كارهين.. لكن هارشينك/  حاتكمل دينك.. وتطلَّع …”!

*وأم كلثوم أيضًا*

جاءت بعض قصائده حاملة هجاءً مقذعًا لشخصيات كعبد الرحمن الأبنودى وصلاح جاهين، وأمّ كلثوم بعد واقعة عضّ كلبها لأحد المواطنين وما أن اشتكاها حتى اقتادوه إلى القسم، فَسَخَرَ من كلبها قائلاً: “هيص يا كلب الست هيص/ لك مجامك/ فى البوليس/ بكرة تتولف وزارة/ للكلاب/ يخدوك رئيس”.

كما تميَّزت قصائده بحس نقدى ساخر، وبتأكيدها على الحرية والعدالة الاجتماعية”، وإنما تريد أن تتنكر له فى موته بغياب مسئولى الدولة عن الجنازة، وهم الحاضرون بأجسادهم أو ببرقياتهم فى كلِّ المناسبات. لكن عوَّض غيابهم هذا الحشد الكثيف من البسطاء فى الجنازة، والذى أكّد على شىءٍ واحدٍ، أن انحياز نجم الدائم ومراهنته على الشعب هى المكسب الحقيقى، بل كان رهانًا صائبًا، فمنحه الشعب التكريم المناسب، حتى أن أحد البسطاء عبَّر بجملة بسيطة “نجم مات” على غرار قصيدتة فى رثاء جيفارا (جيفارا مات).

 اكتمل مشهد النهاية، فى الثالث من ديسمبر 2013 بجسد نحيف خفيف فى النعش، مُغَطَّى بكوفرته ودموع المحبين تشيعه، لكن تبقى بصيرته فيما ذكره عن مصر خالدة، ومعبرة عمَّا يحدثُ الآن “كلمتين يا مصر/ يمكن همّه آخر كلمتين/ حدّ ضامن، يمشى آمِن، أو مآمِن يمشى فين”.

 

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.