فلسطين في الوجدان العربي.. الغانم نموذجاً / د. فايز رشيد
د. فايز رشيد ( الخميس ) 26/10/2017 م …
بمنتهى الصدق يمكن القول، إن المتتبع للأوضاع العربية خلال العقدين الأخيرين، يخرج بانطباع أن القضية الفلسطينية، أصبحت لا تحتل أولوية لديها! لأن المؤامرات التي خُططت للوطن العربي، أغرقته في الصراعات المذهبية والطائفية والإثنية، سواء في العلاقات البينية العربية، أو على مستوى البلد الواحد.
بالتأكيد، هذا لم يكن صدفة، وإنما أريد لهذه المنطقة برمتها، الغرق في صراعات جانبية، لتنسى صراعها الأساسي التناقضي التناحري مع العدو الأساس، وهو العدو الصهيوني.
بالتالي، لو طرحنا سؤالاً: هل ما تزال فلسطين قضية مركزية في العالم العربي؟ وهو سؤال يطرح في كل المراحل الحالية وله شقان، الأول: التناقض القائم بين ما كان يعلنه النظام العربي الرسمي من مركزية القضية الفلسطينية، وهذا كان سائدا في الخمسينيات والستينيات وأواسط السبعينيات، وبين الواقع الحالي، وهو إدارة الظهر لمتطلبات الالتزام ومقوماته.
ما حدث أثناء طرح عضوية فلسطين كعضو مراقب في الأمم المتحدة وبعده، يلخص الموقف الرسمي. فقد انضم العديد من الدول العربية إلى حملة الضغط الأمريكية، لثني القيادة الفلسطينية عن طرح مشروع القرار على مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. بالنسبة للثورات والانتفاضات العربية لم تطرح في شعاراتها وأهدافها وتوجهاتها حلاً للمسألة الفلسطينية، أو دعماً لنضال الشعب الفلسطيني يتجاوز عجز النظام العربي السابق.
هذا المستجد في المواقف العربية على الصعيدين الرسمي والشعبي، أزال مخاوف دولة الاحتلال الصهيوني، التي كانت تخشى إعادة ربط الاتفاقات المبرمة معها بإنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية، والالتزام بقرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي (مبادرة قمة بيروت 2002). غير أن ما حدث هو العكس حين التزمت «دولة الإخوان المسلمين» في مصر باتفاقية كامب ديفيد وبالعلاقة التبعية مع الولايات المتحدة، خلافاً لمواقفها السابقة التي رفضت كامب ديفيد وحرّمته على المستويين الشرعي والوطني، ووعدت بإسقاط الاتفاق، ثم تراجعت عن الإسقاط، بإجراء استفتاء شعبي حوله، ولم يمض وقت طويل قبل أن تتراجع «دولة الإخوان» عن الاستفتاء وتجدد الالتزام بكامب ديفيد وبعلاقات التبعية. تطورت الأوضاع وأدّت عوامل كثيرة إلى انفكاك تام رسمي عربي من القضية الفلسطينية، حتى من دون قيام العدو الصهيوني بالحل المطروح عربيا.
بالمقابل، لمست الجماهير العربية بوضوح الدور التخريبي الإسرائيلي في دولها، وهو ما حدا بها إلى إعادة استحضار مهمات إسرائيل في الوطن العربي، وأن هذا الكيان لا يشكل خطرا على الفلسطينيين فحسب، بل يسعى إلى تمزيق الدولة العربية الواحدة (جنوب السودان، استفتاء الأكراد والدور الإسرائيلي الواضح في دعم الانفصال، دور إسرائيل في سوريا، العراق، ليبيا، الجزائر واليمن). بالتالي شهدنا مراحل تراوحت بين الهبوط والصعود لشعار مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للجماهير العربية.
على الصعيد الإسرائيلي، كان المهم هو تخلي النظام الرسمي العربي عن القضية الفلسطينية، للأسف هذا ما استطاعت إسرائيل تحقيقه خلال الثلاثة عقود الأخيرة بشكل عام، ولهذا انتقلت إسرائيل من شعار «حل القضية الفلسطينية أولا كمدخل إلى الحل مع الدولة العربية» إلى شعار «السلام مع الدول العربية هو المدخل إلى الحل مع الفلسطينيين»، بالطبع ضمن التصورات والمقترحات الإسرائيلية. هذا ما ثبتته مؤتمرات الكيان الاستراتيجية، وهذا ما استطاعت إسرائيل الاتفاق عليه مع الإدارة الأمريكية الحالية، ولذلك، إذا ما لاحظ القارئ، فإن إدارة ترامب لم تطرح الكليشيه الأمريكي المتعارف عليه لحل الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، وإنما أحالت هذه المسألة إلى الطرفين، في ظل وضوح مرتكزات الحل الإسرائيلي، وهو ما يعني استجابة أمريكية للاستراتيجية الجديدة، التي اعتمدتها إسرائيل، ويعني أيضا نجاح التكتيك السياسي الإسرائيلي في التعامل مع النظام الرسمي العربي (مؤتمر قمم الرياض الثلاث مع ترامب ونتائجها، زيارة المسؤولين العرب، خاصة السعوديين لإسرائيل، والدفاع عنها! على رؤوس الأشهاد). هذا الأمر بعد تحقيقه، لم يصل بإسرائيل إلى قناعة تعزز استمرارية وجودها الأبدي. لذلك كان تصريح نتنياهو «بأن مهمتنا الأساسية أن نشهد مئة عام على إنشاء إسرائيل، وليس كالـ80 عاماً، التي سقطت بعدها مملكة سلالة الحشمونائيم».
تصريح نتنياهو، عدا عن أنه يعكس خوفا داخليا مشروعا على مستقبل دولة إسرائيل، لأسباب كثيرة يشعرها كل من يعيش في الكيان من المهاجرين اليهود: افتقاد التجانس الإثني تبعا للقوميات المختلفة التي جاء منها المهاجرون متعددو الأصول، هاجس الانتماء للأرض، الذي لم يتحقق حتى اللحظة بين المهاجرين والأرض، التي حاولت الصهيونية بأضاليلها إقناعهم، بأنها حق إلهي لهم، فقدان الأمن، استمرار معارك إسرائيل مع جيرانها… لذلك نرى تزايد وتائر الهجرة العكسية من إسرائيل مقارنة بالقلائل، من المهاجرين إليها، في آخر إحصائية بينت أن 57% من الشباب يرغبون في الهجرة من الكيان.
ما قلناه يعكس مخاوف الإسرائيليين الداخلية. نتنياهو لم يقصد هذه المخاوف فحسب، وإنما عنى أسبابا متعلقة بالعالم العربي أيضا، ففيما يتعلق بالنظام الرسمي العربي، فهو ليس مخلدا ولا دائما بالطبع، وإمكانية التغيير واردة في أجزائه، وفي عمومه، لكن ما لن يتغير، هو عدم قبول جماهيري عربي لوجود دولة إسرائيل في المنطقة أولاً. ثانياً رغم المحاولات الحثيثة إسرائيليا، صهيونيا، أمريكيا وغربيا في إلهاء الجماهير العربية بصراعات جانبية، لشطب مركزية القضية الفلسطينية من أذهانها، فإن ذلك ليس أكثر من مؤقت، لأن هذه المركزية مرتبطة بوجود إسرائيل كدولة في المنطقة، على الرغم من تغييبها أحياناً، فإنها ما تلبث أن تعود، لأنها تكوين أساسي في الذهنية العربية، ولذلك ستظل مركزية القضية الفلسطينية مزروعة في الوجدان العربي وفي الأمة العربية، وهذا قد لا يدركه الإسرائيليون.
من هذا المنطلق، نقيّم ما حصل في الاجتماع البرلماني الدولي في سانت بطرسبورغ ، عندما قام رئيس مجلس الأمة الكويتي مرزوق الغانم، بطرد وفد الكنيست الإسرائيلي ورئيسه نحمان شاي من الاجتماع، بعد ان رفض، وكعادة الوفود الإسرائيلية في المحافل الدولية، تقريرا خاصا أعدته لجنة فرعية في الاتحاد، تعنى بحقوق الإنسان للبرلمانيين، تحدث عن أوضاع 13 نائبا في سجون الاحتلال، وطالب بإطلاق سراحهم. كلمة الغانم التي وصفت رئيس وفد الكنيست بـ»المحتل وقاتل الأطفال والمغتصب»، واعتبرت كلامه «يمثل أخطر أنواع الإرهاب، وهو إرهاب الدولة»، عكست حجم الغضب العربي جراء استمرار الاحتلال وممارسات سلطات الكيان الصهيوني وانتهاكاتها لحقوق الإنسان. مواقف الكويت والغانم ليست جديدة، فهذه هي الكويت التي احتضنت الثورة الفلسطينية منذ انطلاقها. فعلاً، لقد ضجت الجلسة بعاصفة من االتصفيق كثناء على كلمات الغانم الشجاعة، بدءا من ممثل فلسطين، وممثلة تونس سلاف القسنطيني وكذلك عضو مجلس النواب الأردني وانتهاء برؤساء وفود دول أخرى.
ردة فعل الكويت والشارع العربي عموما، وترحيبه بموقف الغانم، لا شك ستجعل المخططين للتقارب والتطبيع مع الكيان الصهيوني، يعيدون حساباتهم، ويخططون من جديد لتجنب غضب الشارع العربي.
وأخيرا، لم يخل الأمر من بعض الأصوات السعودية الشاذة، التي هاجمت الغانم واعتبرته ظاهرة صوتية، والرد على هذه الأصوات هو ما قاله الغانم لرئيس وفد الكنيست «إن لم تستح فاصنع ما شئت». هذا هو الوجدان العربي الأصيل الذي احتضن الثورات الفلسطينية تاريخياً، العالم العربي، الذي سقط له مئات الشهداء على أرض فلسطين الطاهرة! هذا العالم العربي، الكاره للوجود الصهيوني في منطقتنا العربية، لا يمكنه إلا اعتبار القضية الفلسطينية، قضيته المركزية. وفعلا خاب ظن الإسرائيليين، الذين اعتقدوا أنهم استطاعوا الفصل بين العرب وفلسطين.
التعليقات مغلقة.