تبصرة الجمال وقيم الاستهلاك / إيمان شمس الدين
إيمان شمس الدين ( الخميس ) 26/10/2017 م …
العولمة التي تعني في حقيقتها عولمة الأحادية القيمية والسلوكية والمفاهيمية للأقوى على الأضعف وفق المفهوم المادي للقوي والضعيف، حيث النفوذ و القوة تفرض بسط كل مفاهيمها ونظرياتها كي تتمكن من هيمنتها على كافة المجالات، وهذا ما يمارسه الغرب اليوم في كل الشرق الأوسط، ولكن بنسب متفاوتة و طرق متغايرة تتناسب مع كل مجتمع وآليات النفوذ إليه وكيفية السيطرة عليه.
ففي مجتمعاتنا الإسلامية ومنها المجتمع الكويتي، لا تكون الاختراقات مباشرة ولا في المسلمات الاجتماعية، بل يكون الاختراق غير مباشر وخاصة في منظومة القيم والمعايير، ولا تقوم باستهداف أيضا مباشر لها، بل تحاول هدم دلالاتها واستبدالها بدلالات جديدة وفق معاييرها الخاصة.
مفهوم الجمال والسعادة والتميز يتم ربطه بصور متكررة عبر الإعلام بكافة مجالاته، سواء في الأفلام العابرة للقارات، أو الدعايات المكثفة، أو من خلال مؤسسات المجتمع المدني الناشطة في المجالات الاجتماعية. والربط المكرور بين المفهوم والصورة التي يريدها الغرب لترجمة هذا المفهوم، ينتج دلالة تصورية مصداقية جديدة للمفهوم ويهدم مع التقادم وممارسة الدلالة الجديدة الدلالات القديمة، بالتالي تتغير مصاديق المفهوم الخارجية، وهذا يدفع لتغير السلوك الفردي والاجتماعي تدريجيا. حيث اللغة وعاء الفكرة والفكرة أصل الفعل و الحركة.
وهنا نتكلم عن موضوع إطلاقية الدلالات من عدمه، بمعنى هل دلالات الألفاظ والمفاهيم ثابتة مطلقا؟ أم هناك تغير في دلالات المفاهيم وألفاظها بالتالي تغير في مصاديقها؟ وكيفية تحول دلالات المفاهيم و خلق صور جديدة ترتبط بالمفهوم ومن ثم تحويلها إلى ممارسة اجتماعية متراكمة زمنيا، حيث تنتقل بِعَدوى الممارسة الاجتماعية، فتتحول دلالة المفهوم الثابت شكليا إلى دلالة جديدة، تغير معالم القيم وحقيقتها وأثرها السلوكي على هوية وثقافة المجتمع.
فمثلا نحن نستخدم مفهوم العدالة ونسعى لتحقيقها وفق مدركاتنا عنها التي تشكلت من مجموع التعاليم الدينية والقيم الإسلامية، فيصبح دلالة مفهوم العدالة تحمل كل هذا الزخم الثقافي ومصداقها التطبيقي يتطابق وهذا الزخم .
لكن الغرب يأتي ويرفع شعار تحقيق العدالة وهو شعار نتفق معه عليه كمفهوم بظاهره، لكن مفهوم العدالة الغربي له دلالات مختلفة عن دلالات المفهوم لدينا، فهو يرفع الشعار المفهومي ويربطه بصور خارجية مكثفة ترسخ دلالاته التطبيقية وفق مبادئ الغرب المادية.
ومع التقادم يبقى المفهوم ظاهريا كما هو ثابت، لكن دلالاته تحولت وتبدلت وبالتالي الفعل الدال على المفهوم تبدل.
وقس على ذلك كثير من المفاهيم والقيم.
و في الكويت ووفق إحصائيات اقتصادية سابقة، اعتبر استهلاك أدوات التجميل والإكسسوارات والمجوهرات والعطور هو الأعلى خليجيا، لتكشف الإحصائية عن نمط استهلاكي في المجتمع، وفي بضائع معينة بالذات يرتفع منسوب هذا النمط الاستهلاكي.
ومع انتشار ثقافة الفاشينيستا و سعي الكثيرين للشهرة الكمية، لما لهذه الشهرة من منافع مادية، حيث استفادت الشركات في الترويج لمنتجاتها إعلاميا باستغلال ثقافة الفاشينيستا وشهرتهم لجذب أكبر عدد من المستهلكين، وكونها طريقة كسب سريعة، وجدنا انتشار لهذه الثقافة في المجتمع بشكل كبير، وتحول الفاشينيستا إلى ظاهرة في عدة اتجاهات أهمها:
– تصبح مرجعية وقدوة لكثير من فتيات المجتمع وخاصة فئة الشباب.
– نموذجا يرسم معالم الزوجة التي يتمناها الشاب،كشريكة لحياته من حيث معايير الجمال ومن حيث النمط الشخصي الذي يحبه هذا الشاب للزوجة.
– مقصدا للشركات العالمية خاصة التجميلية للترويج الاستهلاكي وبالتالي زيادة راس المال وفق مبدأ الرأسمالية المتوحشة.
– أدوات هدم لكل قيم العفاف والعفة والحياء، و دفع باتجاه جرأة سلبية كقيمة يفترض ان تمتلكها المرأة للدفاع عن نفسها وكيانها وعن الحق، لكنها تحولت لجرأة على كل هوية المجتمع وثقافته، وتمرد على قيم محورية في شخصية الأنثى تحفظها من جهة، وتصون المجتمع من الانحراف من جهة أخرى، كقيمة العفاف والحياء والعفة.
و يطرح كل ما سبق تحت عنوان كالحرية الشخصية، والجمال ، والسعادة.
وهذه قيم تنامت وتصاعدت وتيرتها بعد العولمة، ولكن بطريقة سلبية تم استغلالها.
وهذا لا يعني عدم وجودها في السابق، بل يعني سرعة انتشارها بعد العولمة وانتشار الأجهزة الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، وتحول دلالاتها تدريجيا مع التقادم.
حتى مفهوم الستر الذي نطلق عليه الحجاب، تحولت كل فلسفته وبات الغرب هو من يرسم لنا معالم الستر وضوابطه وقيمه، ليتحول إلى قطعة قماش لتغطية الشعر، بينما فرغ من كل أهدافه ودلالاته السلوكية.
ولم تعد هذه الاختراقات مقتصرة على النساء، بل تعدتها للرجال حيث تغيرت كثير من المعايير والقيم في دلالاتها، وتبدلت لديهم الأولويات التي نبتت معهم وترعرعوا في أحضانها، لكن تقصير الدولة والمجتمع، والأسرة ، تقتلع تدريجيا تلك النبتة ويتم زراعة نبته بقيم ومعايير غريبة وهجينة على ثقافتنا. لنجد السلوك بات بعيدا عن دلالات مفاهيم القيم بسبب تبدل الدلالات.
فلم يعد الجمال له دلالات مادية ومعنوية، ولم تعد المرأة شخصية بأبعاد إنسانية عقلية، وأخرى أنثوية حددت لها الشريعة حدود ممارسة هذه الأنوثة وضوابطها وجغرافيتها، لا من باب تقييدها بل من باب ترشيدها لتكون نافعة و مفيدة.
فالحب يترجم بالمال وقيمة الهدايا و الأملاك، ليتحول من غاية للسعادة المعنوية والمادية ، إلى وسيلة للثراء المالي والمادي.
والجمال الذي يركز على الروح والجسد، بات مقياسه الشكل مما حدا بكثيرات للتركيز على عمليات تجميل بشكل مكثف لتحقيق الجمال الشكلي، من خلال تغيير مزيف لحقيقتها، وتقديم جمال مصطنع وفق مقاييس هجينة على مجتمعاتنا، وما يستنزف ذلك من أموال تنفق على جسد سوف يتحلل في التراب لكن ما أنفق عليه سيبقى في عنق صاحبه ليسأل عنه ، وهذا لا يعني أبدا عدم الاهتمام بجمال الشكل، وهو أمر فطري في كل إنسان ومطلوب، لكن الكلام عن تحريف دلالات الجمال والإفراط في التركيز على بعده المادي والتفريط في بعده المعنوي الذي يغزي الروح والعقل ويهندس منظومة القيم والمعاييير بطريقة متزنة، تجعل من العلم والمعرفة جمالا للروح والعقل، ومن الاهتمام بالمظهر والعناية به جمالا للشكل، ليصبح العقل مهندسا لمعالم جمال الجسد.
ومن أبرز التداعيات السلبية على المجتمع أثر تبني هذا النمط لشخصية المرأة التالي:
– تلاشي معالم الأسرة القارّة، بمعنى تلاشي مقومات الاستقرار الأسري و تلاشي المعيارية والقيمية التي يجب توفرها كنواة أصيلة في بناء الأسرة، والتي تستبطن حتمية استمرارها ونجاحها وفق تلك المقومات. وغياب هذه المقومات ينذر بخطر على مستقبل أجيالنا، ومآلات الأسر التي سوف تنبني وفق هذه المعايير النسبية المادية، وتحول الأسرة إلى بناء كرتوني سهل الانهدام، وهو ما يهدد بنية المجتمع ككل ويثير إشكاليات جديدة، لم تتهيأ الدولة لمواجهتها يل ستقف عاجزة عن معالجتها، خاصة مع تراكم الفساد وتراكم الحلول الانفعالية للإشكاليات الجذرية.
– تحرر الفتيات بالمعنى السلبي وتحولهن لسلع استهلاكية تنشر الفساد القيمي والمفاهيمي، وتكريس نمط جديد للهوية، تعمل على تحول معالم هوية المجتمع التي تتصف بعادات وتقاليد رصينة وهامة.
– تحول اهتمام النساء بل تكرس اهتمامها في التنافس الأنثوي وليس الإنساني، وتكسر نموذج المرأة القار في عقل كثير من الرجال وخاصة الأزواج، و تكون تصورات جديدة حول المرأة قد تهدد استقرار كثير من الأسر المستقرة الناجحة. وهناك نسب متصاعدة اليوم للطلاق والخيانات الزوجية من كلا الطرفين الزوج والزوجة، وقد لا يكون هذا السبب الرئيسي ولكنه سبب من الأسباب. مع عدم وجود دراسات حقيقية حول هذه الظاهرة وتداعياتها على المجتمع .
– هدم قيم نواتية تحفظ شخصية المرأة من الهتك والمجتمع من الفوضى، وهذا الهدم يكون لدلالات القيم ومصاديقها الخارجية. وأهمها الجمال والعفاف والعفة والحياء والستر.
– خلق معايير للتنافس مادية تحول التنافس من تنافس نهضوي متطور إبداعي أبعاده الفرد والمجتمع، إلى تنافس غريزي متمحور حول الأنا.
– التقليد وعدوى الانتشار الاجتماعي، حيث وسائل التواصل الاجتماعي متوفرة للجميع، مما يساعد على انتشار هذه الثقافة، بسبب ارتكاز التقليد في لاوعي المجتمع تربويا، وهي ثقافة قارة بسبب منهج التربية الأبوية ومناهج التعليم التلقينية.
ومن أهم آليات التصدي لمنع انتشار هذه الظواهر السلبية بعضها دفعية وأخرى تدريجية وهي:
– تصدي مؤسسات الدولة لهذا النمط الهدام في المجتمع، من خلال وضع ضوابط ومعايير تتناسب وهوية المجتمع وقيمه الإيجابية. خاصة المؤسسة التشريعية ودورها في ممارسة الرقابة والتشريع وبالأخص لجنة الظواهر السلبية.
– تصدي مؤسسات المجتمع المدني بحملات إعلامية تعيد رسم معالم القيم ودلالاتها بطريقة حرفية عالية.
– دور الإعلام الذي يجب أن يكون في الطليعة في مواجهة الظواهر السلبية، ومحاولة استضافة مجموعة اختصاصيين يعالجون هذه الظواهر السلبية، و ينشرون الوعي القيمي. واستضافة الشخصيات الشابة التي تميزت بمجالات العلم والفن الهادف والرياضة، وتقديمها كنموذج وقدوه في العلم والفن الهادف والرياضة للمجتمع.
– تشكيل لجان خاصة ومتخصصة في الظواهر الاجتماعية لدراسة أهم الإشكاليات الظاهراتية، ومحاولة تشخيصها وتقديم علاجات مناسبة لها.
– تصدي النخب من الكتاب والمثقفين والعلماء في مواجهة هذه الظواهر الهدامة في المجتمع، مواجهة علمية رصينة ومعتدلة مع تقديم بدائل تتناسب والعصر ومع الابتعاد عن الإفراط والتفريط والمواقف المبنية على ردود الأفعال والتشدد.
– الحذر من التصدي المتشدد ومحاولة دراسة الإشكالية من كافة جوانبها، بحيث لا تعالج كإشكالية وتوقعنا في إشكالية أخرى، والحذر من ممارسة الوصاية على المجتمع أو تكريس الاستبداد في معالجات هذه الظواهر السلبية، فالمطلوب تشخيصات مدروسة ومعالجات استراتيجية تأخذ في الحسبان ديمقراطية الدولة ودستورها، وفي ذات الوقت هويتنا وقيمنا وثقافتنا الصحيحة، وعدم تكريس العادات والتقاليد الخاطئة، بل تقديم معالجات شاملة لمواجهة الإفراط والتفريط في أي محاولات علاجية. مع احترام قيمي وهادف لخصوصية الفرد وحريته على أن لا تتعدى على خصوصية المجتمع وحريته وهويته الجمعية.
– محاولة ضبط بوصلة المناهج التعليمية، وتجديد روحها ومحتواها لطرح مفاهيم الفن والحب والجمال والسعادة بدلالاتها الصحيحة الكاملة، وعمل ورش تكرس هذه الدلالات في هوية الطفل، وتنميها سلوكيا، وهو ما يتطلب تعاضد الأسرة والمدرسة والمجتمع والدولة في خلق بيئة مفاهيم سليمة الدلالات وسوية السلوك.
وفي الخاتمة مازال التمني قائما على صناعة مشروع حضاري قيمي نهضوي يواجه كل محاولات هدم الهوية وتغيير دلالات المفاهيم خاصة القيمية، يمتلك من القوة التي تمكنه هو من اختراق الحضارة المادية وتغيير معالم مفاهيمها ودلالاتها المتحيزة ماديا.
التعليقات مغلقة.