الإعلان والنأي والتدوير / الرئيس العماد إميل لحود
ليس من الغرابة في شيء أن ينبئ المبنى بالمعنى، ذلك أنّ ثمة مصطلحات فيها كلّ الدلالات عن نيات من يطلقها ومنهجه ومسلكه. إلا أنّ الأدهى أن تكون هذه المصطلحات، في ما تهدف إليه، تناهض ثوابتنا ومسلماتنا الوطنية والقومية، جبهوياً أو من زوايا مختلفة. إن الأمثلة عديدة عمّا سبق في قاموسنا السياسي ومقاربتنا المسائل المصيرية في بلدنا. هاكم «إعلان بعبدا»، الذي يحمل في طياته دعوة إلى تحييد لبنان عن «الصراعات الإقليمية» هكذا حرفياً ، والنأي بالنفس التي اعتمدت سياسة حكومية ثابتة، وتدوير الزوايا في شبكات الأمان الوطنية. هل يُعقل أن نحيّد لبنان أو ننأى به عن ذاته وهويته وتاريخه وموقعه الجغرافي ووفاقه ووحدته الوطنية وقوته وإخوته وسورية وصراعه مع الكيان الغاصب والإرهاب العدمي وانتصاراته عليهما؟ هل يُعقل أن ننأى بذواتنا عن مشاكلنا المستعصية وعن أهلنا ومناطقنا المأزومة، وتداعيات المحيط علينا؟ هل يجوز أن ندوّر الزوايا في مقاربتنا ثوابتنا ومسلماتنا الوطنية والقومية وسائر الأمور الميثاقية التي تشدّ أواصر أمتنا وتعضدنا في ملماتنا وأزمنتنا الرديئة؟
كل هذا لنقول إن المواقف الرمادية لا تفيد شعبنا في شيء، بل هي تؤذيه كما تؤذي المصلحة اللبنانية العليا، ذلك أنّ فيها كلّ التردّد والانكفاء والوهن. قطع اللبنانيون الشك باليقين عندما أغارت طائرات صهيونية على أهداف في ريف دمشق، وعندما آزر الكيان الغاصب التنظيمات الإرهابية العدمية على الانتشار على تخومنا الجنوبية وفي الجولان المحتل، من أن العدو «الإسرائيلي» والإرهاب العدمي في وحدة وجودية لا تتجزأ. قبل كلّ هذا أين نحن من سقوط شهداء الجيش وجرحاه كأوراق الخريف في جرودنا، وهم رهائن مخطوفون لدى هذه التنظيمات، فضلاً عن الشهداء والجرحى في ساحة الشرف، وهم يستعيدون الأرض السليب؟ ماذا ينفع «إعلان بعبدا» ونهج النأي بالنفس وتدوير الزوايا في معركة استرداد أرضنا وطرد الإرهاب منها وتحرير أسرانا؟ إنّ أحداث الضنية عام 2000 دلّت، إنْ دلّت على شيء، فعلى جدوى التصميم عندما يضرب لبنان في الصميم، أيّ عندما يسقط للجيش شهداء وجرحى، كما للأبرياء المدنيين، على يد الإرهاب الغادر، عشية الألفية الثالثة، كأنّ هذا الإرهاب يعبث بالزمن والوطن معاً.
كذلك أن معركة التحرير، كما حرب الانتصار على عدوان الكيان الغاصب إنما يدلان أيضاً وأيضاً، إنّ الاعتماد على ذواتنا وعلى روافد قوتنا ووحدتنا الوطنية، وعلى جيشنا ومقاومتنا وشعبنا، هو الضامن لهذه الانتصارات على أعتى إرهاب دولة في العالم. يبقى أنه من المعيب، لا بل من العار الوطني أن نقزّم انتصاراتنا الوطنية والقومية أو نتنكّر لإخوتنا والدولة السورية، في هذه الحمأة من الأحداث المأسوية والحرب الإرهابية الكونية على سورية، أو أن نقارن التنظيمات الإرهابية العدمية بمقاومتنا الرائدة. ماذا عسانا نقول أيضاً في هذه الأزمنة الرديئة التي يرتبك فيها ضعفاء النفوس ممن يتولون الشأن العام عن اتخاذ القرارات القاطعة التي تليق بنا والتي من شأنها أن ترفع من جبين أمتنا وشعبنا وجيشنا ومقاومتنا. نحدث ولا حرج أيضاً عن استحقاقاتنا الدستورية، كأنّ الهرولة إليها هي هدف بحدّ ذاته، في حين أنه إذا لم يكن صدر المجالس سيّداً فلا خير ممن صدّرته المجالس! الرئاسة القوية تقع موقع الإلحاح الوطني والميثاقي، كما تداول السلطة وكسر احتكار الحكم والاستئثار به من أكثرية تائهة أو متواطئة أو مرتبكة أو مرتعدة أو مرتهنة في سجل حسابات سلطوية ضيقة أو إقليمية مشبوهة، فكأنها أداة مكبّلة، في حين أنها يفترض أن تكون سلطة متحرّرة من أيّ قيد. أما الفتنة فحسناً نجد من يئد بذورها، ذلك أنّ المتربّصين بنا كثر لبعثرة مكامن قوتنا وزرع روح الهزيمة والتبعية والذل فينا. مراراً قلنا ونكرر القول إنّ «لبنان أقوى» و«سورية أقوى» سيخرجان من هذه المحنة وكذلك العراق واليمن وتونس ومصر، ممن استفاق من هذا الربيع العربي المدلهم سواداً. أما اليوم فكلمة سواء واحدة لا نحيد عنها، وهي، إن على أهل الحكم أن يعوا، قبل فوات أوانهم هم، أن سرمديتنا أقوى من ترددهم، وقوتنا من ارتباكهم، وإشراقنا من رماديتهم، وعزيمتنا من انكفائهم، وممانعتنا من تخاذلهم ومقاومتنا من بغضهم، إنّ غداً لناظره قريب، والرهانات الجوفاء كالطبول تملأ المكان ضجيجاً، لا يصل صداه إلى قمم جبالنا وعمق ودياننا.
التعليقات مغلقة.