عربي عوّاد: الشيوعية في عزّها … استعادة تأملية من وحي الروح / عبد الحسين شعبان
عبد الحسين شعبان* ( العراق ) الجمعة 27/3/2015 م …
*باحث ومفكر عربي … وشيوعي عراقي
** الأحلام هي الحقيقة الوحيدة
فيديريكو فليني (المخرج الإيطالي)
1
قبل أن أتعرّف عليه مباشرة، كان قد سبقته شهرته، وكان نائبه الصديق عبدالله نمر “أبو الفهد” كما كان يكنّى هو من بادر باللقاء الحميمي بعد لقاءات رسمية أو شبه رسمية. ومنذ ذلك اللقاء في مطلع الثمانينيات أصبحنا أصدقاء، نتبادل الآراء والهموم والشجون.
كان عبدالله نمر وهو من أركان الحزب الشيوعي الفلسطيني بصحبة عربي عوّاد يدرس في بغداد، وكانت صلتنا به قوية عندما كان عضواً في الحزب الشيوعي الأردني، وكانت ثمة خلية للشيوعيين العرب يشرف على إدارتها الرفيق محمد الخضري، وتضم إضافة إلى عبدالله نمر (الذي خلفه نضال لاحقاً)، عبد النبي من حزب جبهة التحرير البحرينية، وتزوّج من عراقية، ورفيق من عمان وآخر من اليمن، وكانت لنا صلة أخرى بـ أحمد محمد زيدان الذي أصبح عضواً في اللجنة المركزية لحزب الطليعة اليمني الذي يقوده سلطان أحمد عمر.واتجه زيدان إلى العمل الدبلوماسي حيث عمل في إيطاليا وبراغ وكوبا التي استقرّ فيها ولا يزال.
كان عبدالله نمر قد قرر قطع دراسته في بغداد للالتحاق بقوات الأنصار الشيوعية التي أسستها أربعة أحزاب شيوعية هي العراقي والسوري واللبناني والأردني، وكان ممثلنا فيها ثابت حبيب العاني وآرا خاجادور. كنت قد حاورته ولماذا لا تكمل دراستك وتلتحق فيما بعد بالعمل الفدائي، أخبرني أنه نداء الواجب والرفاق هم من اقترحوه للعمل في هذا الميدان، بعد أسابيع اختطف محمد الخضري، وضاعت الصلة بالرفاق العرب حتى تم الاهتداء إليهم بواسطتي وعقدنا أول اجتماع لهم في الوزيرية، حيث كنت أتابع عملهم.
كان عبدالله نمر كثير الإصغاء للشيوعيين العراقيين ويقول إنه تعلّم منهم الكثير وهو ما أخبر به عربي عوّاد في إحدى اللقاءات التي كرّسناها للحديث عن تجربته وذكرياته في العراق. وبادرني عربي عوّاد بالسؤال: هل صحيح أنكم طلبتهم من رفاقنا التصويت لممثلي فتح في الانتخابات الطلابية والقبول بممثل واحد للحزب، قلت له نعم. لقد أشرنا لهم بذلك حسب تجربتنا، وذلك لعدة اعتبارات، فممثل فتح هو شخص تقدمي وإنساني (عاطف أبو بكر الذي كان قد وصل إلى بغداد للدراسة في العام 1968) ويمكنه أن يلبي مطالب الشيوعيين بكل ارتياح وممنونية، لاسيما إذا عرف أن الشيوعيين الأردنيين في حينها من صوّت له ولقائمته، وثانياً لو فاز الشيوعيون في انتخابات اتحاد الطلاب الفلسطينيين ، فسوف لا تسمح لهم السلطات العراقية بقيادة العمل، وسيتم إلغاء الانتخابات، وربما يتعرّضون إلى اعتقالات، لا تستطيع حينها فتح الدفاع عنهم، وكانت فتح، آنذاك في بغداد بقيادة أبو جعفر الصادق وهو أحد المتعاطفين معنا، وله مواقف إيجابية مشهورة ليس المجال لذكرها.
لهذه الأسباب قلنا لهم إننا نحبّذ هذا التوجه وأنتم أحرار في خياراتكم وطبقاً لتعاليم قيادتكم وتقديراتكم للوحة السياسية الفلسطينية دون إهمال تداخلاتها العراقية.
فاز عاطف أبو بكر ممثل فتح وكانت علاقاته مع الشيوعيين الأردنيين والعراقيين ممتازة، وظلّت كذلك، بل ازدادت عمقاً في جميع المناصب التي احتلها، وهي شهادة للتاريخ. إن تلك الحادثة كانت مفيدة لجميع الأطراف للأردنيين ولفتح ولنا أيضاً، خصوصاً وقد كسبنا صديقاً دائماً نعتز بصداقته.
2
وفي أحد اللقاءات المطوّلة مع الرفيق عربي عوّاد شرح لي في المخيّم بدمشق أبعاد قيادته لجناح ثوري داخل الحزب الشيوعي الفلسطيني، وذلك بانحيازه للإرث الكفاحي في تاريخ الشيوعيين والماركسيين الفلسطينيين، لاسيّما من اختاروا واندمجوا لاحقاً مع خط المقاومة الفلسطينية.
وكانت ثمة خلافات قد برزت في الساحة الشيوعية العربية إزاء القضية الفلسطينية منذ وقت مبكّر، سواء في العام 1947 والموقف من قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة أو فيما بعد، وخصوصاً بعد قيام دولة إسرائيل في العام 1948، ولعلّ ثمة أوهام وانحرافات أساسية عانت منها الحركة الشيوعية، إزاء الموقف الملتبس بين السياسي والآيديولوجي والوطني والأممي فيما يتعلق بالتعاطي مع قرار التقسيم ومحاولة تزويقه أو تسويقه أو تبريره، والأكثر من ذلك تبرير قيام إسرائيل والزعم بأنها أكثر تقدمية من البلدان العربية، وتلك مسألة خلافية مثيرة ظلّت تؤرق الحركة الشيوعية، ولا زالت على الرغم من اختلاف الظروف والأوضاع.
وكنت قد ألقيت محاضرة في مركز الدراسات الفلسطينية بهذا الخصوص في دمشق العام 1987 ونشرتها جريدة الحقيقة اللبنانية التي كان يصدرها زاهر الخطيب رئيس رابطة الشغيلة اللبنانية وبإدارة من ناصر قنديل وأبو حسين، وهم من الأصدقاء الذين وقفوا معنا وساعدونا في طبع صحيفة المنبر حينها. وكان عربي عواد قد طلب محاضرتي الموسومة مقاربة لرؤية جديدة للموقف السوفيتي من قرار التقسيم إشكالية الآيديولوجيا والسياسة وما بينهما، وأبلغني في وقت لاحق بأن هذه المادة اعتمدت كجزء من البرنامج التثقيفي للحزب الشيوعي الفلسطيني.
وجد عربي عوّاد هوى في مواقف ماركسية تنضم إلى توجهاته وتؤصلها فكرياً بخصوص الموقف من الصراع العربي – الإسرائيلي ومن الصهيونية العالمية ، فقد سبق له أن دخل صراعاً مفتوحاً ضد توجهات الرفيق فهمي السلفيتي عضو قيادة الحزب الشيوعي الأردني الذي بدأ بالترويج لبرنامج يميني حسب الوصف السائد، وهو أقرب إلى الاستسلام بحجة الأمر الواقع وعدم القدرة على مقاومة الكيان الصهيوني، وقد سادت مثل هذه النزعة بعد عدوان إسرائيل في الخامس من حزيران (يونيو) الشهير العام 1967.
مثلما سادت آراء ما سمّي بالعلماء السوفييت في قضايا الخلاف داخل الحزب الشيوعي السوري مفادها أن العرب ليسوا أمة مكتملة أو أنهم أمة في طور التكوين، وأدّت مثل هذه الإشكاليات وغيرها إلى انشقاق واسع في الحزب الشيوعي السوري قاده رياض الترك الذي قضى 17 عاماً في السجن بسبب آرائه.
وقد ارتفعت موجة للنقد للخطاب السوفييتي بشأن المسألة القومية العربية بشكل عام والوحدة العربية والقضية الفلسطينية بشكل خاص، تجلّت في الحزب الشيوعي السوري الذي انشطر انشطاراً عمودياً كما جرت الإشارة مع ذيول استمرت لعقود من السنين، ثم في الحزب الشيوعي العراقي حين رفعت القيادة المركزية شعارات مختلفة عن القيادات التقليدية بشأن الوحدة العربية والقضية الفلسطينية ، وكان قد طرح الحزب الشيوعي اللبناني برنامجاً مفتوحاً للحوار بخصوص هذه الإشكاليات والقضايا، كما انشق فهمي السلفيتي عن الحزب الشيوعي الأردني، وفيما بعد عربي عوّاد عن الحزب الشيوعي الفلسطيني، أما الحزب الشيوعي السوداني، فقد كان توجهه مختلفاً منذ البداية، ووقف ضد مشروع التقسيم، وكان قد اعتبر الوحدة العربية جزءًا من مشروعه الفكري، وفي وقت متأخر كانت القراءة الجديدة للمسألة القومية جزء من حركة المنبر الشيوعية التي انشطرت في أواسط الثمانينات عن الحزب الشيوعي العراقي، إضافة إلى قضايا خلاف أخرى.
3
خلال الثمانينيات زاملت عربي عوّاد ورافقته في أكثر من مناسبة ومؤتمر ورحلة، أذكر منها ثلاث فعاليات اثنان منها إلى الجماهيرية الليبية، الأولى حول الأزمة في حركة التحرر الوطني العربية، وكان التيار التقليدي السائد في إطار الحركة الشيوعية والقومية يرفض مصطلح الأزمة ويعتبرها محاولة مغرضة في نشر الغسيل الوسخ لا يستفيد من الحديث فيها سوى القوى المعادية، وهكذا كان الموقف من النقد للسياسات والمناهج والأفكار، وكان الميل الأوسع إلى أن الأمر لا يعدو مجرد صعوبات أو مشكلات ونواقص لا ترتقي إلى مصاف الأزمة، وإن الاتحاد السوفييتي وبلدان التحرر الوطني تحرز انتصارات كبرى وإن عصرنا هو عصر الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، في حين إن توجهاً أساسياً في الحزب الشيوعي اللبناني، كان قد طرح موضوع الأزمة على بساط البحث بشجاعة وجدارة معهودتين.
كان المبادر في طرح هذا الموضوع هم الشيوعيون اللبنانيون وذلك عشية مؤتمر الحزب الخامس الذي انعقد في بعقلين 3-6 شباط (فبراير) العام 1986 ونظمت ندوة لبنانية – عربية- دولية مهمة في مدينة طرابلس للبحث فيه انعقدت في 9-13 كانون الأول (ديسمبر) العام 1986، مشيراً أمينه العام في حينها الشهيد جورج حاوي أن مفتاح الحل يبدأ بالبحث، وقد بادرت أمانة مؤتمر الشعب العربي وتحت تأثير الحزب الشيوعي اللبناني والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لطرح موضوع الأزمة في حركة التحرر الوطني بجوانبها المختلفة، وإن كان لها توجّها متبايناً، لكن مجرد طرح المسألة ألقى على عاتق المثقفين ولاسيّما اليساريين والماركسيين مسؤولية إضافية.
وكان لدى قيادة عربي عوّاد وعدد من الشيوعيين العراقيين، بمن فيهم حركة المنبر مقاربات جديدة بخصوص الأزمة المستفحلة والمركّبة، والتي هي أزمة عضوية وبنيوية، وليس مجرد مصاعب وثغرات، وبالتالي لا يمكن الفكاك منها دون إجراء إصلاحات جوهرية ومراجعات ضرورية وإعادة نظر حقيقية وواقعية بمجمل التوجه الخاص للأنظمة الثورية وما كنّا نطلق عليه أنظمة حركة التحرر الوطني ويطلق السوفييت مصطلح “الديمقراطيون الثوريون” على تلك الأنظمة والأحزاب والحركات التحررية غير الماركسية، واختيارها لطريق التطور الرأسمالي باتجاه الاشتراكية ولا يشترط قيادة الطبقة العاملة كما كانت الأدبيات التقليدية تدعو لذلك، وهو ما أثار نقاشات واختلافات واسعة داخل الحركة الشيوعية وخارجها لاحقاً، وكنت قد ألقيت بحثاً في المؤتمر بعنوان ” إشكالية الأزمة في حركة التحرر الوطني”، تناولت فيه المعضلات الأساسية التي تعاني منها ومستلزمات نهوضها ودور التيار الماركسي فيها.
واتسم بحث المفكر السوري الياس مرقص باهتمام كبير ونوقشت الأبحاث والدراسات التي نحت باتجاه توصيف الأزمة باعتبارها تشمل البديل المنتظر، أي أنها لا تخص الغير بل تعنينا، وهو ما دعا الحزب الشيوعي اللبناني وأمينه العام الرفيق جورج حاوي إلى بلورة فكرة ” قيام حركة ثورية عربية جديدة”، لكنه لم يُكتب لها النجاح لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، خصوصاً وأن الأزمة امتدت إلى جسد الحركة الشيوعية في السلطة وخارجها.
وإذا استثنينا فترة النهوض في الخمسينيات ومطلع الستينيات، فإن حالة التراجع كانت مخيّمة منذ عدوان 5 حزيران (يونيو) العام 1967 وما تبعه دون أن يعني ذلك عدم وجود ومضات ولكنها سرعان ما تخفت أو يضعف بريقها، خصوصاً منذ ارتداد القيادة المصرية التي تكرست بزيارة القدس المحتلة العام 1977 وفيما بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد والصلح المنفرد 1978-1979، الأمر الذي يؤكد أن الأزمة هي:
1- أزمة قيادة
2- أزمة نهج سياسي كامل
3- أزمة وعي وبرامج أدت إلى انسداد أفق
4- أزمة سلطات حاكمة باسم التحرر وأزمة معارضات بديلة تدعو إلى التغيير
وبالتالي فإنها ليست أزمة عابرة أو ظرفية أو مؤقتة.. إنها أزمة القوى الممثلة للحركة، منفردة ومجتمعة، متحالفة ومتصارعة، وقد أظهرت الثمانينيات على السطح وبحدّة كبيرة ملامح تلك الأزمة المعتّقة، وأسبابها الموضوعية والذاتية وجذورها وجوهرها ومسؤولية الجهات التي حاولت التغطية عليها والتي أوصلت الحال إلى وصلت إليها، سواء بقبول مشاريع للتسوية المذلّة، أو بعد غزو القوات العراقية للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990 أو بعد احتلال العراق في العام 2003 وقبله الحصار المفروض عليه لمدّة 13 عاماً والذي فجّر هذه الأزمة وزادها المواقف المتناقضة من الهبّات الشعبية والانتفاضات العامة التي حصلت في العديد من البلدان العربية منذ العام 2011، وكشفت تلك حالة العزلة والهزال والتدنّي للعديد من القوى القومية واليسارية والماركسية التقليدية، التي ظلّت مشدودة بحبل سرّي بين الدكتاتوريات وبين المشاريع الخارجية.
أما الرحلة الثانية التي ترافقنا فيها فقد كانت لحضور مؤتمر تحت عنوان :” ذكرى ثورة يوليو 1952″ وجرت فيها مراجعات حول دور عبد الناصر ومواقفه وقضية الوحدة العربية، وكان البحث الذي قدمته تحت عنوان ” ثورة يوليو والعلاقة المصرية – الوطنية” وذلك في إطار مراجعة للذكرى الـ 35 لثورة يوليو، وفيها عبر العديد من أطراف الحركة الشيوعية العربية عن قراءات جديدة للموقف من عبد الناصر، والأسباب التي قادت للوصول إلى مرحلة الارتداد والتراجع بعده، وكانت القراءة نقداً لمسار خط ثورة يوليو وتطور سلوك جمال عبد الناصر وفكره في مرحلتي الخمسينيات والستينيات وفي السياق التاريخي.
أما خط التراجع والارتداد فقد بدأ بعد وفاة عبد الناصر مباشرة وكان مقدمته هو الإقدام على خطوة إخراج الخبراء السوفييت في تموز /يوليو 1971 من مصر. وتوقفنا عند الموقف من الوحدة العربية فاعتبرناها مسألة جوهرية وحيوية وجزء من المسألة القومية وإحدى مهمات حركة التحرر الوطني الأساسية، وتكتسب أهمية كبيرة، فهي حسبما ورد في دراستنا المشار إليها ” المنبر” تمثل ردّاً على واقع التجزئة الذي فرضه الاستعمار وردّاً على مخططات التفتيت الحالي (آنذاك) الذي أصبح يهدّد عدداً من البلدان العربية، كما هي عامل أساسي في قضية التنمية والتكامل الحقيقي لمجمل البلدان العربية، وهي إحدى الأوجه الأساسية لتوحيد القوى لحماية الاستقلال الوطني ومواجهة الخطر الصهيوني الجديد، ومخططات الهيمنة الامبريالية. كما تشكّل أخيراً أحد عوامل استكمال التكوين الاجتماعي القومي التاريخي للأمة العربية والتخلّص من الأمراض التي تعيق تقدّم المجتمع العربي، كالعشائرية والقبلية والطائفية والسلفية وغيرها، وجاء في مداخلتنا: أن الوحدة التي نسعى إليها ونأمل قيامها نريدها، وحدة ديمقراطية الإسلوب، واجتماعية المضمون، سداها ولحمتها الجماهير الكادحة.وقد خصصت مبحثاً خاصاً في كتابي ” تحطيم المرايا – في الماركسية والاختلاف” لتأكيد تقصيرنا بخصوص عدم تبني شعارات الوحدة العربية وكذلك عدم مراجعة مواقفنا بخصوص القضية الفلسطينية، وتركنا ذلك أحياناً لخصومنا، في حين أننا الأكثر أحقية ومصلحة بتلك الشعارات.
وكان نقدنا للتجربة الناصرية يشتمل على معاداتها الديمقراطية وحجب حق الأحزاب في العمل السياسي واحتكارها لصالح تنظيم سياسي واحد يُراد للجميع الانضواء تحت لوائه، وفساد الجهاز الإداري وغياب المؤسسات والقوانين والتشريعات الضامنة وملاحقة القوى الوطنية وشحّ الحريّات، وهذه العوامل هي التي أدت إلى هزيمة 5 حزيران (يونيو) التي تحتاج إلى حشد جميع الجهود والطاقات في إطار من عمل جبهوي وإشاعة الحريات والتعاون مع الاتحاد السوفييتي لمواجهة النفوذ الامبريالي.
في أحد المؤتمرات شن أحد الليبيين على نحو مفاجئ هجوماً ضد الماركسية، واصفاً إياها بأرذل الأوصاف وقال آخر “الماركسية سقطت”، وما كان من عربي عوّاد إلاّ أن يردّ عليه بحزم وقوة، وهو ما فعله على نحو أوسع الياس مرقص، وكاتب السطور من بعده. وعالج الحزب الشيوعي اللبناني الموضوع بطريقة مختلفة بحديثه المباشر مع عبد السلام جلّود، وكان صوت تيسير قبعة قوّياً في دفاعه، حيث كان هو من يدير الجلسة .
كان المؤتمر الذي حضرناه حول الأزمة في حركة التحرر الوطني، هو جزء من حوار بين القوميين العرب بمختلف مدارسهم وبين الماركسيين العرب بمختلف توجهاتهم، فقد ضمّ من الشيوعيين والماركسيين على ما أتذكّر: جورج حاوي، جورج البطل (لبنان) الدكتور عمر علي (رئيس الدائرة الآيديولوجية في اليمن ورئيس الجامعة) أديب ديمتري (مصر) عبدالله العيّاشي (المغرب) عربي عوّاد (فلسطين) الياس مرقص (سوريا) عبد الحسين شعبان (العراق)، ومن القوميين والناصريين بتوجهاتهم المختلفة ضم محمد فائق، كامل الزهيري (مصر) عبد الرحمن النعيمي (الجبهة الشعبية في البحرين) تيسير قبعة (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) إنعام رعد (الحزب السوري القومي الاجتماعي) ونجاح واكيم (لبنان) عمر الحامدي (ليبيا) فيصل دراج (فلسطين) ناجي علوش ( فلسطين) طلال ناجي (القيادة العامة) سمير غوشه وخالد عبد المجيد (فلسطين – جبهة النضال الشعبي)، عوني صادق (فلسطين) السفير الفلسطيني في طرابلس (فتح) وممثل عن الجبهة الديمقراطية، أحمد سالم (اليمن)، إضافة إلى أسماء أخرى وأرجو أن لا أكون قد أخطأت في بعض الأسماء أو سهوت أسماء أخرى.
الفعالية الثالثة كانت حول الانتفاضة الفلسطينية التي نظمها المجلس القومي للثقافة العربية وهي بعنوان ” الانتفاضة الفلسطينية ومسؤولية الجماهير العربية” وانعقدت في طرابلس وكان بحثي الذي سبق أن ألقيت أجزاء منه في دمشق وفي المخيمات الفلسطينية بعنوان ” الانتفاضة الفلسطينية – السمات والاحتمالات والآفاق المستقبلية” وقد ناقشني عربي عوّاد مطوّلاً حول مصطلح الانتفاضة، وهل ينطبق هذا المصطلح على ما ورد في الفكر الماركسي ولدى لينين تحديداً وهو ما دعاني إلى تطوير هذا المبحث وكنت قد بدأت الخطوة الأولى في بحث قدّمته في دمشق بعنوان ” الانتفاضة الفلسطينية- إشكاليات منهاجية وأخرى آيديولوجية” وعدت وطورته في إطار محاضرة لي في براغ بدعوة من السفير الفلسطيني سميح عبد الفتاح ” أبو هشام ” وكانت بعنوان: الانتفاضة الفلسطينية : رؤية جديدة، أكدت فيه على ظروف اندلاع الانتفاضة الفلسطينية المختلفة عن اندلاع الانتفاضات المسلحة الكلاسيكية التي تحدث عنها لينين وهذه الظروف هي:
1- وجود استعمار استيطاني إجلائي عنصري.
2- شعب في غالبيته مشرد من أرضه.
3- إن الصراع بين إسرائيل والصهيونية وبين الشعب العربي الفلسطيني والأمة العربية، ليس صراعاً طبقياً على المستوى القطري، بين برجوازية حاكمة وبين بروليتاريا وفئات كادحة محكومة.
4- الصراع بين نظام عنصري وشعب محروم من حقوقه وهو صراع تصادمي قومي، بين حركة التحرر الوطني وبين قوى عنصرية استعلائية.
5- إنه صراع من أجل الوطن والوجود ولاسيّما الحق في تقرير المصير مقابل محاولة محو الهوّية وإلغاء التاريخ.
وتلك هي سمات الانتفاضة الفلسطينية الجديدة. وكانت تساؤلات عربي عوّاد معي عند إعداد كتابي: “الانتفاضة الفلسطينية وحقوق الإنسان” الذي صدر في العام 1991، وعدت وبلورت تلك الآراء في كتابي الموسوم ” الشعب يريد: تأملات فكرية في الربيع العربي” الذي صدر في مطلع العام 2012، حيث أعدت النقاش حول مفهوم الانتفاضات العربية الجديدة بعد العام 2011 وموقع ذلك في الفكرة الماركسية التي نظّر لها لينين حول الانتفاضة المسلحة.
4
كان اهتمام عربي عوّاد كبيراً بتأسيسنا اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379 والتي أصبحت فيما بعد ” اللجنة – العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية” وكنت أتشرف بتولي منصب أمينها العام، وذلك للحملة الإستباقية التي حاولت الترويج لها لمنع إعدام القرار ولدفع الحكومات والقوى العربية لتبني مواقف وسياسات من شأنها تأمين مستلزمات الحد الأدنى على المستوى الدولي للوقوف بوجه الصهيونية التي كانت تستهدف إلغاء هذا القرار التاريخي الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية وشارك معنا في إحدى الندوات التي دعونا إليها.
وطلب مني بشكل رسمي إمكانية ضم أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفلسطيني إلى اللجنة واقترح اسم غطاس أبو عيطة، وتم ذلك فعلاً فأصبح قوام اللجنة من جورج جبور (بصفته مستشاراً للرئيس حافظ الأسد) رئيساً وعبد الحسين شعبان (العراق) أميناً عاماً، وناجي علوش (فلسطين) وعبد الهادي النشاش (فتح – فلسطين) وإنعام رعد (الحزب السوري القومي الاجتماعي) وسعدالله مزرعاني (الحزب الشيوعي اللبناني) وعبد الفتاح إدريس (الصاعقة) وصابر محي الدين (رئيس تحرير الهدف- الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) وعبد الرحمن النعيمي ( سعيد سيف) – البحرين وآخرين.
لم يعرف إلاّ في وقت متأخر مثله مثل كثيرين إننا كنّا وراء كتابة رسالة إلى الرئيس حافظ الأسد ترجوه الإيعاز للوفد العربي السوري لتبنّي صيغة كنّا قد كتبناها لتنزل بالنص ضمن قرارات مؤتمر القمة الإسلامية المنعقد في الكويت العام 1987، وعندما علم كان مغتبطاً وهو ما أبلغني به خلال زيارتنا له مع الدكتور محمد جواد فارس في مكتبه بالمخيّم، وكان كثير الاهتمام بمتابعة أخبار حركة المنبر التي كان يتعاطف معها في توجهاتها الفكرية والسياسية.
ناقش معي مطوّلاً مشكلات المعارضة العراقية، وبيّنت له خطأنا في قبول بعض العناصر الطارئة، التي سرعان ما تصدّرت المشهد، وضعف اليقظة الذي أصبنا به ، والعبرة لمن يعتبر ويصحح الموقف، وتلك هي الأساس، فهنا نتحالف وهناك نفكّ تحالفاً، وهنا ننجح وهناك نفشل وهكذا هي السياسة فلا عصمة ولا سياسة بدون أخطاء،لكن علينا عدم إضاعة البوصلة وهو ما حصل لبعض ماركسينا خلال فترة الحصار وخلال الانسياق وراء المشاريع الغربية وصولاً للاحتلال.
اتصل بي بعد احتلال العراق بأيام وهي المرّة الوحيدة التي يتصل بي في لندن ، قال إنني سمعت أنك تنوي الذهاب إلى بغداد، قلت له نعم، قال أتفكر في التعاون مع ؟؟؟ قلت له كلاّ، لقد رفضت الأمر قبل أكثر من عشر سنوات على الرغم من كل المغريات والضغوط، وكنت قد أعلنت موقفي من الحصار ومن المشاريع الخارجية ومن نظام العقوبات ومن احتلال العراق قبل ذلك بزمن طويل. الدكتاتورية قذرة وبذيئة وقد رحلت وهي غير مأسوف عليها وإلى غير رجعة، لكن الاحتلال بغيض وقبيح وستبقى مهمات التصدّي للاحتلال قاسية ومعقّدة في ظلّ عملية خط الأوراق وانسياق مجاميع للتعاون مع الاحتلال تحت مبررات مختلفة.
وقال لي سلّم على الرفاق الذين نعرفهم والذين يقفون معكم في الخندق ذاته، وأملنا أن نسمع سريعاً إن الاحتلال إلى زوال، والخلاص من الاحتلال الأمريكي للعراق سيعجّل في خلاصنا من الاحتلال الإسرائيلي.
5
ولد عربي عوّاد في مدينة سلفيت الفلسطينية العام 1929 وانخرط منذ وقت مبكر في صفوف اتحاد الطلبة ثم التحق بعصبة التحرر الوطني الفلسطيني (الحزب الشيوعي) واختير عضواً في اللجنة المركزية العام 1955 وعضواً في المكتب السياسي العام 1979 وقضى في السجون المختلفة قرابة 12 عاماً، وقد أبعد من الضفة الغربية العام 1973 بعد وقوعها بيد الاحتلال الإسرائيلي بسبب نشاطه الوطني وقيادته للجبهة الوطنية التي بادر بتأسيسها. وكان عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني منذ العام 1974 والمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف)، وعاش بعد ارتحاله من الشام سنوات عمره الأخيرة في عمان.
عاش عربي عوّاد ومات فقيراً وكريماً وشهماً وشجاعاً،
كل ما تبقى من أحلامه بضعة كتب وعزّ الشيوعية.
التعليقات مغلقة.