أحلام الأمير MBS أم كوابيس المملكة؟ / دانيال ملحم

 



دانيال ملحم ( الخميس 9/11/2017 م …

في مؤتمر عقد في الرياض من 24 ولغاية 27 من تشرين الأول، أطلق الأمير محمد بن سلمان تصريحات استثنائية وصلت أصداؤها إلى أسواق المال كافة في العالم، إذ أُعلن عن إنشاء صندوق استثماري ضخم، بقيمة تتعدى ٥٠٠ مليار دولار، لتمويل إنشاء منطقة اقتصادية مستقبلية على ساحل البحر الأحمر، تمتدّ على مساحة ٢٦٥٠٠ كلم مربع، أي على مساحة توازي ضعفي مساحة لبنان وثلاثة أضعاف مساحة قبرص.

تلامس رؤية بن سلمان حدود مصر والأردن، وتعتمد بكاملها على التكنولوجيا الرقمية والطاقة المتجددة. وجرى تقديم هذه الرؤية بما يشبه محاكاة أفلام الخيال العلمي. عرضت على شاشات ثلاثية الأبعاد مذكرة «بدافوس ولكن النسخة السعودية». أبهرت أكثر من ثلاثة آلاف مستثمر حضر في المؤتمر، ووصفها أحد المستثمرين بالـ GATTACA. هذا هو المشهد الذي أراد الأمير الشاب للعالم أن يراه، ولكن ماذا عن الواقع؟

NEOM هو الاسم الذي أُطلق على المدينة الاقتصادية التي تخطط السعودية لإقامتها على ساحل البحر الأحمر. يجرى تسويق المدينة كنموذج تكنولوجي قلّ نظيره، بحيث توقع مدير SoftBank الياباني أن تكون «الروبوتات أكثر من البشر في هذه المدينة»: النقل ذاتي، طائرات بدون طيار لنقل الركاب، إنترنت متاح للجميع كالهواء، التكنولوجيا الحيوية… ولا ننسى وسائل الترفيه التي ستكون من دعائم الاقتصاد لتلك المنطقة… بالإضافة إلى جعلها كمركز هام لصناعة التكنولوجيا في المستقبل وأهم مورد متنوع للاقتصاد السعودي.
مشروع بهذا الحجم يستدعي التوقف عنده ومناقشة تفاصيله بعناية مطلقة. هنا ثلاث ملاحظات:

الهدف: بين الواقع والخيال

إن هذا المشروع الهائل هو امتداد لرؤية ٢٠٣٠ التي يحملها بن سلمان وتهدف إلى الانتقال من الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للتنوع في المصادر، عبر منظومة اقتصادية جديدة عمادها صناعة التكنولوجيا الرقمية والطاقة البديلة، تكون شبيهةً بـ Silicon Valey في الولايات المتحدة.
في المبدأ، إن هذا الهدف واقعي وممتاز، نظرياً على الأقل، باعتبار أن النمو الاقتصادي العالمي في المستقبل سوف يعتمد بشكل كبير على هذين القطاعين ولفترة طويلة. ولكن، في التطبيق، هل تملك المملكة المقومات لتحقيق هذا الهدف؟
في قراءة بسيطة لاقتصاديات دول تتبع المنظومة الرقمية كمصدر محفّز وعامل رئيسي للنمو الاقتصادي هما أميركا (Silicon Valy) وتلميذها العدو الإسرائيلي. فالمنظومة الاقتصادية الصاعدة في هذه الدول عمادها الابتكار، حيث تقوم على مبدأ خلق شركات التكنولوجيا المبتكِرة الصغيرة ذات النمو السريع والهائل (Hyper growth). غالباً ما تتغذى هذه الشركات من مبتكرين مهندسين أو علماء (من شخصين إلى خمسة) يتم توفيرهم عبر منظومة التعليم الداخلية للدولة المعنية. ومع الوقت، تنمو هذا الشركات الصاعدة بشكل كبير فيتم بيعها إلى الخارج أو بيع ثمارها البحثية للخارج. فيتم خلق كتلة نقدية ضخمة وسريعة تدر على الاقتصاد مليارات الدولارات (مثال على ذلك Facebook, شركة WAZE الإسرائيلية المؤلفة من مهندسين وبيعت بـ١،١٥ مليار لـGoogle، أو أنظمة الرادارات الإسرائيلية الذي بيعت لشركات السيارات مثل Mercedes أو Audi…). هل هذا ما يطمح إليه ولي العهد؟
إن ركيزة هذه المنظومة الاقتصادية الجديدة هي الابتكار العلمي كعامل محفّز للنمو الاقتصادي. فهل تملك المملكة المنظومة العلمية أو المقومات لتأمين اليد العاملة الكفوءة وتلبية متطلبات هذا القطاع في المستقبل؟ هل تملك الهيكلية التقنية والتكنولوجية القادرة على استيعاب هكذا تطور؟
في الواقع، إن المنظومة التعليمية الحالية للمملكة لا ترقى الى مستوى الهدف، بحيث لا تسمح بتأمين أو بسد العجز في الطلب على اليد العاملة الموائمة لتطلعات الشركات في المستقبل. بالإضافة إلى غياب لأي بنى تحتية أو فوقية تقنية أو تكنولوجية متطورة.
ماذا عن صناعة البرمجيات والخوارزميات الرقمية؟ ماذا عن براءات الاختراع وحمايتها؟ وعن تطور المنظومة الحقوقية الحمائية للتطور الرقمي؟
إن الواقع الابتكاري في قطاع التعليم ككل يظهر عجزاً كبيراً، وهو بعيد كل البعد عن الأهداف المعلنة. كما أن برنامج ٢٠٣٠ أو مشروع إنشاء مدينة NEOM لم يلحظ حجم الاستثمار في هكذا قطاعات (خصوصاً التكنولوجيا الرقمية والحقوق والصحة). أضف، أنه لإنجاح هكذا مشروع يجب خلق بيئة استثمارية سليمة عمادها التشريعات التي تحاكي المستقبل، بحيث تحمي المستثمرين من المخاطر العملية والجيوسياسية. إن كل ما رحب به الحاضرون في المؤتمر هو الانفتاح الذي تريد المملكة الظهور به، كرسالة سياسية الى المستثمرين بمثابة ضمانة للاستقرار. ولكن ما تطرحه السعودية يضعها في قلب المنافسة مع الجارة دبي، التي قطعت أشواطاً على مستوى توطين التكنولوجيا الرقمية مع مواكبة عصرية للتشريعات. لذلك يجدر الانتظار حتى الكشف عن خطة المشروع الكاملة للحكم عليها، إذ إن مؤتمر الرياض لا يعدو كونه تجمعاً عامّاً لدعوة المستثمرين الى المشاركة في الصندوق الاستثماري لإنشاء المدينة المفترضة.

في التمويل

إن التقييم الأولي لتكلفة المشروع هو ٥٠٠ مليار دولار، ممولة بشكل رئيسي من المملكة والصندوق الاستثماري العام PIF. وفي بيان صادر على هامش المؤتمر، أُعلن عن نية المملكة مضاعفة موجودات صندوقها السيادي من 230 مليار دولار إلى ٤٠٠ مليار دولار حتى عام ٢٠٢٠، مع احتمال تطوره لغاية ٢٠٠٠ مليار دولار حتى عام ٢٠٣٠، إذا دعت الحاجة (مع عدم الإفصاح عن أي تفصيل عن كيفية زيادة موجودات الصندوق). هذا بالإضافة إلى أن موجودات المملكة لدى الاحتياطي المركزي أقل من ٥٠٠ مليار دولار. لذلك، إن مصادر تمويل مشروع NEOM يخضع لعدة احتمالات.
الأول، وكما هو متوقع أن يتم تمويل الجزء الأكبر من المملكة وصندوقها السيادي. ولكن في ظل العجز الذي تعاني منه ميزانية المملكة، وفي ظل أسعار النفط المنخفضة، كيف يمكن للمملكة إيجاد التوازن للإيفاء بتعهداتها الجديدة والتزاماتها السابقة، ولا سيما التي أغدقتها للرئيس ترامب عند زيارته للرياض (عقود بما يعادل ٤٢٠ مليار دولار)؟ من المحتمل أن تلجأ المملكة إلى بيع ما يزيد عن ٥٪ من أسهم شركة أرامكو أو أن تلجأ إلى الاستدانة من أسواق المال، فكلا الاحتمالين وارد وجدّيّ، إذ إن شركة أرامكو شركة عالمية ووضعها المالي جيد ومستقر وكثير من المستثمرين يرغبون بضم أسهمها إلى محفظتهم المالية. كما أن الاستدانة من أسواق المال خيار سهل نظراً إلى الوضع الائتماني المستقر للسعودية في الأسواق العالمية، وهذا ما شهدناه خلال شهر حزيران ٢٠١٧ عندما استدانت المملكة ما يزيد عن ٩٣ ملياراً في غضون ٢٤ ساعة مع طلب هائل من المستثمرين.
يبقى الاحتمال الثالث والأصعب بين الحلول، ألا وهو جذب المستثمرين للمشاركة في المنطقة الاقتصادية NEOM. فمن المعروف أن مؤتمر الرياض المذكور لم يكن إلا دعوة للمستثمرين للمشاركة في المشروع المطروح. لذلك، ولإقناع المستثمرين في جدية الاستثمار، قدمت المملكة العديد من الإغراءات للعديد من المستثمرين الكبار أمثال SoftBank الياباني (أعلن عن توقيع عقد للاستثمار في الطاقة الشمسية)، أو تعيين المدير العام السابق لشركة ALCOA السيد كلاينفيلد مديراً عاماً للمشروع، مع وعود من الأمير الشاب بتوفير كافة الإمكانيات والحاجات لخلق بيئة استثمارية محفزة… كل هذا يبقى وعوداً ما لم يُترجم أفعالاً على الأرض. وهذا ما يخشاه المستثمرون حالياً من صعوبة إيفاء بن سلمان بوعوده، خصوصاً في ظل الطلبات المتزايدة من المستثمرين الذين يدخلون الاستثمار بشروطهم قبل توقيع أي اتفاق. في كل الأحوال، يُخشى من أن يلجأ بن سلمان إلى الحلول الأسهل ألا وهي الاستدانة فتكون قفزة في لعبة أسواق المال وفي مجهول المديونية وخدمتها.

في التأثير على الاقتصاد

بحسب تقديرات صندوق الاستثمار PIF إن مساهمة الاستثمار في مشروع NEOM على الاقتصاد الوطني تقدر بزيادة ٢٠٠٠٠ فرصة عمل مباشرة وخلق ٢٥٦٠٠٠ فرصة عمل في قطاع البناء، مع مساهمة في الناتج الوطني بنسبة تتراوح ما بين ٤.٤٪ و ٦.٣٪. ما لم يوضحه التقرير هو ما إذا كانت هذه التوقعات تعود الى فترة الاستثمار أم إلى فترة ما بعد الاستثمار على الأمد الطويل؟ نستنتج من النسب السابق ذكرها أنها تعود إلى فترة الاستثمار وليست للفترة التي تليه.
تاريخياً، يقوم الاقتصاد السعودي على قطاعي البتروكيماويات والبناء الذين يساهمان بالجزء الأكبر من الناتج الوطني. ومن توقعات الاستثمار نرى أن المساهمة الأكبر في الناتج الوطني تأتي أيضاً من قطاع البناء، أما فرص العمل الباقية فمساهمتها ضئيلة. لذلك نستنتج أنه لا شيء تغير على مستوى تنويع المداخيل لتأمين النمو على الأمد الطويل.

الاستدانة ستكون قفزة في لعبة أسواق المال وفي المديونية وخدمتها
كان من الأفضل أن تقدم تقييمات لما بعد الاستثمار لمعرفة مدى استدامة النمو أو مدى تأثير حجم الاستثمار على الاقتصاد الوطني على الأمد الطويل. ما يُخشى منه أن الاعتماد على الروبوتات والتكنولوجيا في فترة ما بعد الاستثمار سيقلل الاعتماد على اليد العاملة، وبالتالي سيزيد من ضعف القدرة الشرائية للأفراد، ما ينعكس سلباً على الاستهلاك وبالتالي على النمو. ويصبح المشروع كاستثمار يدر موارده على المستثمرين وليس على المملكة كما وعدنا بن سلمان.
عند الحديث عن تنويع في الاقتصاد (تنويع مصادر الدخل في الدولة)، يجب مقارنة مدى تأثير حجم الاستثمار على الاقتصاد لفترة طويلة من الزمن كعامل محفز للطلب الداخلي عن طريق خلق فرص عمل جديدة تساهم بنسبة فعالة في النمو الاقتصادي. فمثلاً، وعد الرئيس الفرنسي السيد ماكرون خلال حملته الانتخابية بتحويل الاقتصاد الفرنسي إلى منظومة محفزة للشركات التكنولوجية الصاعدة. لهذا الهدف، رصدت الحكومة الفرنسية مبلغ ١٠ مليارات يورو لإعادة تكوين اليد العاملة كي تتأقلم مع متطلبات الاقتصاد الجديد وسد العجز في الطلب من الشركات على اليد العاملة الموائمة. هذا الاستثمار من شأنه أن يحفز الطلب الداخلي عن طريق زيادة فرص العمل فترتفع القدرة الشرائية، ويزيد الاستهلاك فيحقق النمو. أين هذا من مشروع بن سلمان؟ ما هو قيمة الاستثمار في تكوين اليد العاملة الكفوءة لإنشاء المركز التكنولوجي في الشرق الأوسط؟ كل هذه التفاصيل يتوقف عندها المستثمر لأن من خلالها يتحدد عائد الاستثمار على المدى الطويل.


قفزة استهلاكية

هذا المؤتمر لم يلحظ أي خارطة طريق وغاب عنه كثير من التفاصيل التي تتيح التحقق من جدواه الاقتصادية كمورد متنوع للدخل السعودي. لذلك، إن المدينة الموعودة لا تعدو كونها مشروعاً استثمارياً سياحياً ضخماً يعتمد على التكنولوجيا والطاقة المتجددة، أكثر مما يروج له على أنه مركز تكنولوجي في الشرق الأوسط. لذلك يصبح السؤال عما إذا كان هذا الالتزام على الأمد الطويل لن يكون سوى قفزة استهلاكية لا تؤدي مع الوقت إلا إلى الولوج في مجهول السوق الحر وخصخصة موجودات الدولة واكتساب عضوية في نادي الدول المستدينة وخدماتها (والمملكة بقيت من الدول القليلة خارجه)؟ أم أن كل هذا الضجيج هو لمشروع لن يبصر النور، وكل ما في الأمر هو لفت الأنظار لتقديم الأمير بن سلمان كصاحب استثمارات ضخمة على الساحة الدولية وكوريث شرعي ووحيد لإدارة المملكة في المرحلة المقبلة!

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.