الحرب على الوعي / عامر محسن
عامر محسن ( الجمعة ) 27/3/2015 م …
*المواجهة اليوم ستكون أوسع وأكثر حسماً
*في خطابه الذي تلى تفجيرات المساجد في صنعاء وصعدة، شرح عبد الملك الحوثي، بوضوح، المنطق الذي ستتبعه حركته في المرحلة المقبلة، إلا أن العديد من وسائل الاعلام ـ التي كانت مشغولة بالإعداد للحرب ـ لم تلتفت الى مضمون الخطاب ولم تنقله
إثر مقتل أكثر من 150 يمنياً في الهجمات الانتحارية الأسبوع الماضي، قال زعيم حركة «أنصار الله» عبد الملك الحوثي، كأنه يستذكر تجربة العراق، إن من يتبع سياسات الاغتيال وقتل المدنيين والابتزاز بالدم لن يوقفه الرضوخ والمساومة، وإن الصبر على هذا النوع من الأذى، ومحاولة مداراته، لن يوصلا إلا الى المزيدٍ من هذه الاعتداءات، وسيستمر القتل والتفجيرات، ولن تثمر الاستكانة شيئاً.
قال عبد الملك الحوثي إن الصمت والقعود في حالات كهذه ليسا مجرّد عجزٍ، بل تخلٍّ عن المسؤولية، وإن التصرف المنطقي الوحيد في موقف كهذا يكون بالتصدي والردّ ومنع استعمال أراضي بلادك ضدك، معلناً انطلاق التعبئة العامة وبدء زحف قواته نحو عدن وغيرها من المحافظات.
قبل كلّ حرب، يسعى الاعلام الموجّه الى نزع إنسانية الخصم ومنع التماهي معه، وتحويله الى رمزٍ مكرّس للشرّ والمخاطر، بغية ضمان التأييد الشعبي حين تبدأ الغارات. هذا ما يحصل اليوم لبوتن مع الاعلام الغربي الذي كان يقدّمه، منذ سنوات قليلة، كـ«صديق» وحليف، ثم أصبح يغرق جماهيره بأخبار تشيطن بوتن وروسيا وتبرزهما كتهديدٍ ماثل يحيق بالحضارة الغربية بأكملها.
السعودية وواشنطن لا تخوضان حربهما في اليمن دعماً للعرب في وجه الفرس
الأمر ذاته حصل مع اليمن، حيث قدّم الاعلام «الحربي» الخليجي صعود «أنصار الله» على أنه محض «تمدّد إيراني» أو ـ في النسخة الأقل تورية ـ كجزءٍ من «صراع سني ـ شيعي» إقليمي (مع أنه لا التسنن ولا التشيع لهما مفهوم واضح وعملي في اليمن). هذا المنطق يغيّب عنصرين أساسيين يصعب من دونهما فهم الحالة اليمنية وتقديرها، ويسهل السير خلف سرديات الوهم والزيف.
أوّلاً، إن الحركة الحوثية، «أنصار الله»، ليست احتلالاً ولا غزواً أجنبياً، بل إن لها تاريخاً محلياً قد لا يعرفه من اكتشف اليمن الصيف الماضي، وشعبية وشرعية لدى قسمٍ كبير من اليمنيين. أنت، في عمّان أو بيروت أو الخليج، قد تعتبر الحوثيين انقلابيين أو «زمرة» لا تملك الشرعية، إلا أنه، في مسألة كهذه بالذات، فإن رأي اليمنيين هو الذي يهمّ، وليس رأيك أو رأي صحف الرياض والدوحة. الحوثيون يعتبرون أنهم يمثلون حركة ثورية، صنعت قطعاً مع نظام سياسي تقليدي فاسد ومرتهن، والعديد من اليمنيين يؤيدونهم على هذا الأساس ويرون «المبادرة الخليجية» محاولةً لإعادة تعويم النظام القديم ومنع إصلاحه.
لولا شعبيتهم، لما تمكن الحوثيون من التمدد في كلّ هذه المحافظات وبسط نفوذهم على مدن اليمن ونسج التحالفات يميناً ويساراً، بين الزيديين كما مع الشافعيين، من دون مقاومة واشتباكات؛ وهذه حالة قائمة على الأرض وواقع يمني لا مناص من الاعتراف به، سواء أعجبك ذلك أو لم يعجبك.
ثانياً، إن السعودية وواشنطن لا تخوضان حربهما في اليمن دعماً للعرب في وجه الفرس، ولا انتصاراً للسنّة على الشيعة، بل للأسباب نفسها التي جعلت الرياض تخوض كل معاركها خلال العقود الماضية: إبقاء الوضع الاقليمي كما هو عليه، والحفاظ على التقسيم الحالي للثروة، ومنع أي حركة قد تمسّ بشكل الحدود والنفوذ في الجزيرة العربية. هذا هو مختصر المصالح والطموحات خلف هذه الحرب، وهو الهدف الذي تلتقي عليه ـ أبداً ـ الرياض وواشنطن. ومن هنا، أيضاً، يتجلى بؤس المشرقي الذي يهلّل للعدوان السعودي، وهو يدعم سطوة النظام الذي أفقره وأذلّه وحاصره وأبقاه تحت الاحتلال والهيمنة (بل هم يدعون إلى «استنساخ» ضربة اليمن في العراق وسوريا!).
السعودية أعلنت بوضوح هدفها من الحرب، وهو «الدفاع عن الحكومة الشرعية»، أي فرض الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي قائداً على اليمنيين، وهو لا يملك أي شرعية، دستورية أو شعبية، وقد عادته أغلب وحدات الجيش منذ بدأ بطلب التدخل الخارجي، وصار أمره (في الداخل) محسوماً مع انطلاق الغارات السعودية. في حالات كهذه، يكون تأييد الحرب تحت مسمّى «التقاء المصالح» أو «التقاطع» أكثر خسةً ووضاعة من التأييد «الأصيل» للنظام السعودي؛ فالموقف الثاني، على الأقل، ينمّ عن تلاقٍ إيديولوجي وحلفٍ حقيقي ونظرة مشتركة الى العالم والمصالح. وهناك أيضاً فئة طريفة من العرب اكتشفت، البارحة، فكرة «الحياد الأخلاقي» وأن «الطرفين سواسية»، مع أن مبتدأ السياسة ـ والأخلاق ـ يكون في تمييز الحسن عن الأحسن والسيّئ عن الأسوأ، وليس البحث عن المثال الأكمل، ولكن إسلاميي النفاق صاروا يجدون أنفسهم، باستمرار، في المعادلات «ما بعد الحداثية» من هذا النوع.
الحلف العسكري الذي يضرب اليمن اليوم ما هو إلا تمثّل للنظرية الأميركية القائلة بخلق منظومات إقليمية (في الشرق الأوسط، وشرق آسيا، وأفريقيا)، مع هامش قرارٍ محلي وجيوش صمّمتها أميركا حتى تعمل معاً، لتخوض عنها «حروبها الصغيرة». نحن نتكلّم على حملة عسكرية تم إعلانها من واشنطن، وتنسّقها أميركا، بل وتحمل اسماً يشبه الأسماء التي تطلقها أميركا وإسرائيل على حروبهما.
حين تدخّلت السعودية عسكرياً في اليمن عام 2009، كانت الحركة الحوثية محصورة في صعدة الصغيرة، وهي تواجه حرباً على جبهتين: الجيش اليمني في الداخل والجيش السعودي على الحدود، وقد رأينا النتيجة. والمواجهة اليوم ستكون أوسع وأكثر حسماً. الحوثيون، كما أوضحوا في الأسابيع الماضية، لا يتعاملون بنفسية الضعيف المقهور، وهو ما رأيناه منذ بداية الغارات: لم يحمل اليمنيون جثث ضحاياهم ويطوفوا بها وسط النحيب والعويل، ولم يطلبوا «تدخلاً إنسانياً» أو تحركاً من «المجتمع الدولي»، بل قالوا ـ بهدوء وحزم ـ إنهم سيضربون من يضربهم ويردّون على من يعتدي. بهذه العقلية، تحديداً، صمدت الحركة الحوثية في وجه سلسلة حروب سلّطت عليها، بل توسّعت وتجذّرت، ولهذه الأسباب هم لن يذوبوا اليوم في وجه القوة، مثلما يحصل مع ميليشيات الخليج ومرتزقته، كالملح في الماء.
التعليقات مغلقة.