حفلة سمر مع العدو “الإسرائيلي” في صالون “الختيار”! / كمال الجزولي




 
كمال الجزولي ( السودان ) الثلاثاء 14/11/2017 م …

10 سبتمبر 1987. سألت عضو منظمة التحرير الفلسطينية عن محمود درويش وأحمد عبد الرحمن، بمجرد وصولي مطار جنيف، للمشاركة، باسم اتحاد الكتاب السودانيين، في مؤتمر الأمم المتحدة الرابع للمنظمات غير الحكومية حول القضية الفلسطينية، بقصر الأمم، من 7 إلى 9 سبتمبر 1987.
كنا وقعنا بروتوكولاً مشتركاً بقرطاج، وكنت آملُ في حسم بعض المسائل المعلقة، لكن أعمال المؤتمر أعاقت ذلك. كان أبو عمار شديد الثقة في اتحادنا، أيام الديموقراطية الثالثة، وكان له القدح المعلى في بلورة تلك المسائل، كمشروع (جامعة القدس بالخرطوم). كما أنه، لدى لقاء لنا معه بالجزائر، كلفنا بأن نتلمس إمكانية احتضان منظمات المجتمع المدني السودانية مؤتمراً للعمال العرب يحاول «البعض» عرقلته، بينما تحتاجه المنظمة لدعم «انتفاضة الحجارة» التي كانت أطلقت، للتو، شرارتها الماجدة. واستطراداً، كان «الختيار» يلقب «أطفال الحجارة» ب «جنرالات الثورة الفلسطينية الجدد»! «درويش لم يحضر، ولكن أحمد موجود بالإنتركونتننتال».. قال الشاب وهو يضع حقيبتي في صندوق السيارة.
في الصباح كان الفندق والقصر يعجان بأصحاب «العرس»، وأولهم «الختيار» نفسه الذي انعقد المؤتمر بالمقر الأوروبي للمنظمة الدولية، خصيصاً، كي يتمكن من مخاطبته، وبرفقته أبومازن، وشفيق الحوت، وأحمد عبد الرحمن، وبسام أبو شريف، وعبد الرحمن مرعي، وريموندة الطويل، وآخرون.
لم أستغرب أن يحضر توفيق زياد، عضو الكنيست، وعمدة الناصرة، وقتها، وهو أحد مؤسسى شعر المقاومة، الصائغ الأكبر لوجدان جيل العاطفة الجياشة إزاء «القضية». لكنني استغربت غياب درويش، سيد الشعر العربي الحديث، وعضو اللجنة التنفيذية للمنظمة، ورئيس الاتحاد الفلسطيني، لا سيما وأنه كان يقيم، وقتها، على مرمى حجر، بباريس، فلم، يا ترى، لم يحضر، والحدود السويسرية الفرنسية داخل مطار جنيف؟! كان هنالك، أيضاً، عشرات من قادة منظمات المجتمع المدني العربية، خالد محي الدين، والشرقاوي، واليوسفي، وأبو عيسى، وحمروش، ومنى مكرم عبيد، وآخرون. كما كان طبيعياً وجود العشرات من شخصيات الأمم المتحدة، وخبراء القانون الدولي، وأعضاء الكونجرس الأمريكي والكندي، وأعضاء البرلمان الأسترالي، ووزراء الكتلة الشرقية وقتها، وبعض أساتذة الجامعات، وغيرهم.
ما لم أتوقعه، وأربكني، بحق، هو رؤيتي، فجأة، لمن تنشأنا، نحن جيل حركة التحرر العربية، بكل دويها، وجلجلتها، وصداحها، على تسميتهم ب «العدو الإسرائيلي».. دع أن يكونوا محل ترحيب المنظمة! وقد بلغ «تلاحمنا الحميم» معهم ذروته عندما دعينا إلى «مؤانسة» في جناح «الختيار»، فتكدسنا، شهيقاً لزفير، بالصالون الصغير، وتحت الأضواء المتلاصقة لكاميرات التلفزة العالمية! جاء مقعدي إلى جانب الشرقاوي، فجرؤت على سؤاله متخابثاً: «أستاذ.. أوليس في وجودنا هنا خيانة للقضية»؟ أفلت ضحكة مباغتة، وغمغم: «ما تبقاش متخلف.. حنخون مين يا عم واحنا ضيوفهم؟! دلوقتي هنشوف»! وقعدنا نتفرج، ساكتين، على مشهد لا ينسى! «الأعداء» يتقدمون نحو «الختيار»، ينحني كل واحد منهم، يقبل جبينه، ويخاطبه بتبجيل! ولن أنسى نقابياً نحيلاً، لعله من «السفارديم»، يقول لعرفات، مبهوراً، بإيماءات أرسطوطاليسية، وتوفيق زياد يتولى الترجمة من وإلى العبرية: «ليس العرب وحدهم من ينتظرونك، ينتظرك معهم كل فقراء «إسرائيل» وكادحيها»! نظرت إلى «الختيار»، فألفيته مصبوباً في بزته الحربية، تشع عيناه بوميض غامض، كنصب تذكاري من المرمر أنجزه مثال إغريقي قديم! وانفجر في ذاكرتي وصف درويش له، على أيام حصار بيروت، بأنه «صاحب الحذاء الذي يطأ جبين الشمس، والخطو الذي يتنقل باتساع الأفق»، أو كما قال! ما لبثت أن سطعت، في خاطري، بغتة، كنصل خنجر، أنشودة فيروز والرحابنة: «وستغسل يا نهر الأردن آثار القدم الهمجية».
فاسترجعت همساً يدور في الفندق والقصر حول «حوار» جار لإقامة الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع! وكنت سألت، على الغداء، ناشطاً صديقاً إن كان سيذهب ليعيش في الدولة الجديدة، فأفلت صرخة كالملدوغ: «أخي.. بيتنا في الناصرة، ومفتاحه ما زال معلقاً عندنا بدمشق، إيش اللي يودينى القطاع»؟! ثم أردف بشتيمة فلسطينية فكهة! على أن عينيه برقتا بإعزاز حقيقي لعرفات ولدرويش، حين تطرقنا لتصريح الأخير، عبر الصحافة الفرنسية: «أنا مستعد لمحاورة أي مفكر أو كاتب إسرائيلي إذا اعترف بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف»! وكانت «أوسلو»، وقتها، ما تزال نطفة تتخلق في رحم الغيب! حاولت العودة لمتابعة «المؤانسة». لكن الحيرة استغرقتني: «من هؤلاء الفقراء والكادحون؟! ومن هؤلاء الكتاب والمفكرون؟! هل فيهم من لديه استعداد للتنازل، طواعية، عن نصيبه في «تركة الاغتصاب»، ليعود إلى حيث كان في أي «غيتو»؟! أليسوا، أجمعهم، احتياطياً استراتيجياً ل«جيش الخلاص»؟! أتراهم، حين يلتقي «الجمعان»، سيقولون: لا، سنحارب إلى جانب عرفات، المخلّص الذي ننتظر؟! الأسئلة البسيطة في المناخ المعقد ترهق! وقد أرهقتني، بالفعل، حتى أسلمتني للنعاس، فغفوت برهة، إلى أن نبهتنى الهمهمات، وحركة الأقدام، وصوت الشرقاوي، شارقاً بالضحك، يهمس في أذني: «اصحى بقى .. المولد خلص»!

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.