الدّين والعلمانيّة كوجهين لعُملة واحدة: عن المصطلحات الفارغة، والتّكفير المُتبادل، واستجداء السلطة / د. هشام البستاني




 «هل هذا هو الإسلام؟» يسأل العلمانيّ التنويريّ، إذ يتألّم عندما يُحرّم أحد الشّيوخ الموسيقى والفنون، مُستبطنًا في عقله أن الإسلام دين التّسامح والحب والعقل والخيارات الفرديّة الحرّة، مردّدًا في وجه المشكّكين: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ..» (الكهف، 29). دين ليبراليّ على مقاسه.

«هل هذا هو الإسلام؟» يسأل الخطيب من سمّاعات المسجد المجاور، ملتزمًا بتعميم وزارة الأوقاف بموضوع خطبة الجمعة لهذا الأسبوع، إذ يهجو العنف والغلوّ الذي تمارسه «التنظيمات المتطرّفة»، في ذات الوقت الذي يؤكّد فيه أن الإسلام هو «الدين الحقّ»، وأن الأديان الشّقيقة (المسيحيّة واليهوديّة) محرّفة وخاطئة، وأن أتباعها اليوم على ضلال وإلا لكانوا مسلمين، «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» (آل عمران، 85). دين تسوويّ، مرن، ذو حدّين، على مقاسه.

«هل هذا هو الإسلام؟» يسأل السلفيّ الجهاديّ إذ يرى جور السّلطان، وفساده، وخروجه عن الحقّ، وظلمه للعباد؛ ويرى فجور المسلمين وتخلّيهم عن اتّباع أصول الدين وتعاليمه، وخروجهم عن سواء السّبيل الذي اختطّه القرآن، والرسول، والسلف الصالح، فيختار أن يتبنّى: «من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده..» (حديث، رواه مسلم)، «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ…» (البقرة، 191). دين متشدّد صارم على مقاسه.

«هل هذا هو الإسلام؟» تسألُ فتاةٌ محجّبةٌ تلبس ملابس عصريّة فتاةً أخرى تلتزم بالجلباب، تريد أن تفرض عليها تغيير لباسها العصريّ إلى لبس الجلباب إذ تسألها أيضًا: «هل هذا هو الإسلام؟»

مَن مِن هؤلاء على صواب؟ ما هو الإسلام؟

إسلامات متعدّدة، لا إسلام واحد: العلمانيّون والإسلاميّون ووهم جوهرانيّة الدّين

يحلو لكلّ أيديولوجيا (دينيّة أو قوميّة أو يساريّة أو علمانيّة أو غيرها) أن تدّعي لنفسها جوهرانيّة أصيلة، لترفع بها نفسها عن منافسيها «المزوّرين»، لكن هذا لا يُلغي أن ذلك الإدّعاء ذاتيّ، لا يعني شيئًا أمام ادّعاءات الآخرين الأمر ذاته لأنفسهم، خاصّة إن اشتقّوا جوهرانيّتهم من ذات المصدر (مثل النسخ المختلفة، المتنافسة من الإسلام؛ ومثل الدين والعلمانيّة، كما سنرى بعد قليل).

فيما يتعلّق بالإسلام، لا نحتاج (لنفي الجوهرانيّة) لكثير إثبات، متى ما استعرضنا تاريخ تحوّله وتطوّره وتغيّره وتوظيفاته، وعلاقته بالسلطة، والطوائف والملل والنحل المنبثقة عن ذلك «الواحد»، واختلاف توظيفه حتى داخل «الطائفة الواحدة»: فنجد (داخل جماعة السنّة مثلًا) تنويعات تمتدّ من إسلام تنظيم «الدّولة الإسلاميّة» الشديد العنف، مرورًا بنسخة إسلام السّلطة الشّديد المرونة، وبنسخة الإخوان المسلمين، ونسخة حزب التّحرير، وصولًا إلى نسخة محمّد عبده «الإصلاحيّة» العقلانيّة، وإدّعاء كلّ طرف من هؤلاء صحّته، مقابل خطأ الآخرين وضلالهم عن «جوهر الدّين». الدين أداة تقول كلّ شيء، وأي شيء، تقول العنف وتقول السّلم، تقول التعصّب وتقول التسامح، يمكن تفسيره وتأويله وتفكيكه واشتقاق «روح» له مختلفة كلّ مرّة، يمكن الالتزام بحرفيّته، أو بمقاصده، بأسباب نزوله ومعاني كلماته القديمة، أو تطبيقاته المُعاصرة، وإعطاء كلماته القديمة معانٍ جديدة.

يرتكز الإسلام، كأيّ أيديولوجيا أخرى، على مجموعة من النصوص التأسيسيّة التي تحتاج بالضرورة إلى قراءة وتفسير وتأويل وسياق وتحديث ومواءمة، وهذه العمليّات تحتاج إلى عقل بشريّ

يرتكز الإسلام، كأيّ أيديولوجيا أخرى، على مجموعة من النصوص التأسيسيّة التي تحتاج بالضرورة إلى قراءة وتفسير وتأويل وسياق وتحديث ومواءمة، وهذه العمليّات -بدورها، وبالضّرورة- تحتاج إلى عقل بشريّ. لا وجود للنصّ (الدينيّ وغير الدينيّ) دون هذه الوساطة، وهذا المرور، في العقل البشريّ. إن أضفنا إلى ذلك السّياق العام لكل مرحلة تاريخيّة (المتعلّق بتأثير السلطة، والأنماط الاقتصاديّة والاجتماعيّة، والاكتشافات العلميّة، والموروثات المختلفة من المراحل التاريخيّة السّابقة، وغيرها)، والضّغط الذي يحدثه هذا السياق على مُخرجات الفهم، وإمكانيّات التّفسير والتّأويل والتّوظيف، سنخلص إلى أمرين أساسيّين اثنين:

الأوّل: أن كل إدّعاء بجوهرانيّة لا تاريخانيّة ما للدين (أو لأي أيدولوجيا)، سواء أكان هذا الجوهر عُنفيًّا أم سلميًّا، متطرّفًا أم معتدلًا، ماضويًّا أم عصريًّا، هو ادّعاء إقصائيّ، «متطرّف»، عنفيّ، يرمي إلى شيطنة «الآخر» (أو «الآخرين»)، وتعزيز سُلطة المُشيطِن وهيمنته، إذ تحتاج كلّ أيديولوجيا (وكلّ سلطة)، في سياق سعيها لكسب المريدين، واشتقاق الشرعيّة، إلى اجتراح نقيض (أو أكثر) تتعصّب ضدّه، وتحشد لمواجهته؛ وإلى تبسيط هذا النقيض وتسطيحه ليسهل عليها إنتاج نفسها، أولًا، بشكل غير معقّد في أذهان العامّة، وليسهل عليها، ثانيًا، شيطنة «الآخر» الذي ترفّعه إلى مرتبة العدوّ الوجوديّ.

الثاني: أن كلّ قراءة للدّين (أو لأيّ أيديولوجيا)، كائنةً ما كانت هذه القراءة، وسواء أكانت عُنفيّة أم سلميّة، متطرّفة أم معتدلة، ماضويّة أم عصريّة، هي قراءة عقليّة، تاريخيّة، أي بالمعنى العامّ: «علمانيّة»، على اعتبار أن العلمانية هي أكثر من مجرّد «فصل للدّين عن الدّولة» إذ تدعو إلى اشتغال عقليّ على الواقع المعاصر، وتقديم للعقل على النقل، وإزالة «للقداسة» (الإطلاق) عن النص والتاريخ الدينيّين. كل هذا يتحقّق في أيّ قراءة دينيّة للواقع المعاصر، ولو ادّعت انتماءها إلى الأصل، أو الماضي. السلفيّ يطبّق عقله ومصالحه على النص الدينيّ، ويستخرج منه وينتقي ويؤوّل ما يتواءم وأغراضه؛ السّلطة تطبّق عقلها ومصالحها على النصّ وتستخرج منه وتنتقي وتؤوّل ما يوائم أغراضها؛ الإنسان العاديّ في حياته اليوميّة (لنقل: الرّجل الذي يريد أن يُحشّش؛ أو المرأة التي تريد أن تتحجّب وتلبس الجينز) يطبّق عقله ومصالحه على النص أو الفهمّ الدينيّ العام، ويوائمه مع متطلّباته. لا يوجد «عقل متجمّد»؛ كل عقل، حتى ولو ادّعى الماضويّة، هو في حالة تحوّل، وهو عقل «معاصر»، وكلّ قراءة للدين –إذًا- هي قراءة عقلانيّة، علمانيّة، تاريخيّة، ويبقى أن الحديث عن «جوهرانيّة» أصيلة في كلّ قراءة، هو حديث دعائيّ، تبريريّ، انتهازيّ.

لماذا يغضب العلمانيّون من زغلول النجّار وهو «علمانيّ» أيضًا؟

في مقابلة مع مجلة أوراق (العدد السادس،تشرين أول 1995)، يشرح نصر حامد أبو زيد أهميّة تطبيق العقل على النّصوص، بما في ذلك النّصوص الدينيّة، وقراءتها من خلال منهجيّات العلوم المختلفة «لأنّه [أي النصّ] رسالة متّجهة إلى مُتلقٍّ، والمتلقّي هو المفسّر الأول للرّسالة، وليس هناك مرجعيّة للمتكلّم [في حالة النصّ القرآني: المتكلّم المُفترض هو الله] لكي نعود إليه ونسأله ماذا كنت تقصد.» ويتابع أبو زيد إذ يربط بين العقلانيّة والعلمانيّة: «فالعلمانيّة في جوهرها (…) هي الاستناد إلى عقل في حالة صيرورة، وليس إلى عقل متجمّد يمتلك حقيقة مطلقة.»

يتحدّث أبو زيد هنا عن قراءة للنصوص القرآنيّة تستند إلى منهجيّات علميّة، وهي نوع من «تطبيق للعقل على النص» يحتوي قيمة معرفيّة عالية قد لا تساويها أشكال أخرى من التّطبيقات (كتلك التي يستخدمها دجّالٌ مثلًا لاستخراج «الجنّ» من جسد «ممسوس»)؛ لكن ذلك لا يُلغي أن الحالين هما إخضاع للنصّ لمصالح وتأويلات وتفسيرات صاحب العلاقة، يُخرجه من مساحة «المُطلق» إلى مساحة «التاريخيّ» مباشرة، بغض النظّر عن مدى «عقلانيّتها». وحيث أن النصّ الدينيّ يُقدَّم -في جميع الأحوال- بأنّه نص مطلق، كليّ، فإن تطبيق العقل/المَصالح على «بعض النصّ»، يسحب ذلك -بالضّرورة- على «كلّ النص».

لهذا، لا أستوعب لماذا يسقط كلّ هذا الغضب العلمانيّ على رأس مُؤوِّل مثل زغلول النجّار، إن كان الموضوع يتعلّق بالمنطلقات الفكريّة المبدئيّة. من خلال فهمنا أعلاه، نستطيع الاستنتاج ببساطة أن زغلول النجّار، ومن خلال «استخراجه» للمقولات والمكتشفات العلميّة الحديثة (المتغيّرة والمتجدّدة دومًا وأبدًا) من القرآن، لصالح مصالحه وتطبيقاته العقليّة الخاصّة، يُثبت (ويطبّق) أطروحات العلمانيّين المتعلّقة باعتبار النصّ الديني نصًّا تاريخيًّا، غير إطلاقيّ، يمكن تطبيق العقل عليه وإنطاقه ما لم يقله في السّابق، وتغيير هذه المقولات مع تغيّر الأزمان؛ مثلًا: استُخدم القرآن لإثبات انبساط الأرض وثباتها وعدم دورانها، وإثبات دوران الشمس حولها لا العكس– الآيات: «وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ» (الغاشية، 20) «وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ..» (الحجر، 19 وق، 7)، «وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» (النحل، 15 ولقمان، 10)، «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا» (أي بَسَطَها؛ النازعات، 30)؛ واستُخدم لاحقًا لإثبات عكس ذلك، كالمدى التأويليّ الذي يُجهد محمد راتب النابلسي نفسه فيه لإثبات كرويّة الأرض من خلال تأويل آية: »…من كلّ فجٍّ عميق» (الحج، 27).

ما يفعله زغلول النجّار هو أنّه يطبّق عقله وفهمه (الحديثين)، بطريقته الخاصّة وفهمه الخاصّ، على النصّ الدينيّ (القديم)، نافيًا بذلك جموده، وديمومته، ولا تاريخيّته، جاعلًا منه مادّة لإعادة القراءة، وإعادة إعادة القراءة كلّ مرّة، مع تغيّر المفاهيم والمكتشفات العلميّة وتطوّرها، أي أنّه «يُقدّم العقل على النّقل» عبر تقويل النّقل ما يكتشفه/يريده العقل. هل هذا فهم جامد للنصّ الدينيّ، أم تطبيق عقليّ (ولا نقول: عقلانيّ)، مصلحيّ، «علمانيّ» على النصّ الدينيّ؟

الإجابة واضحة، لكن العلمانيّين غير معنيّين بالمفاهيم العميقة وتطبيقاتها، وهم، بعكس زغلول النجّار، يتعاملون مع النصّ كمعطىً جامد، لا يُمكن أن «يتحرّك»، وأن تُعاد قراءته وتفسيره وتأويله. النص الديني عند زغلول النجّار غير مطلق، غير مقدّس (ثابت، جامد، لا تاريخيّ، لا يمسّ)، يمكن إعادة قراءته وتفسيره وتغييره بما يتواءم مع ما يُنتجه العصر من مكتشفات، ستتغيّر لاحقًا ويضطر هو (أو من يأتي بعده) إلى إعادة القراءة، إعادة التّأويل، إعادة التّحريك، إعادة تطبيق العقل على النص؛ أما العلمانيّون، فيريدون النص الدينيّ جامدًا، مقدّسًا، إطلاقيًّا (في رجعيّته)، «يقدّسونه» باعتباره ماضويًّا ظلاميًّا، مادّة خامًا يشتقّون منه كتابًا مقدّسًا نقيضًا: التنوير.

بهذا المعنى تصبح العلمانيّة بامتياز، كما يُثبت أسامة غاوجي في مقالته الممتازة «في العنف والدّين»، دينًا آخر، أيديولوجيا أخرى، اختُرعت في سياق اختراع «الدين» كمفهوم غربيّ حداثيّ معاصر؛ وأضيف إلى ما ذكره غاوجي من عناصر، سمات أخرى تجعل من «العلمانيّة»، بتطبيقاتها العربيّة، دينًا: مثاليّتها وميتافيزيقيّتها إذ تُحيل دومًا إلى الثّقافة، والتصوّرات الثقافيّة-الأخلاقية-التربويّة كسبب للظواهر؛ ووعودها المؤجّلة بالتقدّم والمرتبطة كليًّا بالتغيّر الثقافيّ؛ واهتمامها الهوسيّ ببناء الاستقطابات الهويّاتيّة والحشد، بدلًا من تعميق المعرفة والفهم، وطرح الأسئلة النقدية، ومساءلة الأفكار المستقرّة؛ لذا يهتمّ العلمانيّون بالهجوم على شخص يشاركهم فهمهم للنصّ الدينيّ (بالمعنى التطبيقيّ، الفعليّ) من أجل إبراز وجودهم، وبناء عصبيّتهم.

الجسد السياسيّ، والجسد الطبيعيّ: العلمانيّة كاشتقاق عن مسيحيّة كنيسة القرون الوسطى

ليس من المستغرب -إذًا- أن ننظر إلى العلمانيّة باعتبارها دينًا آخر، ليس فقط للأسباب الموضوعيّة التي وردت أعلاه، بل لأن كلمة «علمانيّة» نفسها تأتي من الدين، تحديدًا: من تقسيم الكنيسة «العالم» لعالمين متداخلين متشابكين: عالم «المقدّس» الذي يشمل أيضًا عالم الرّهبان ورجال (ونساء) الدّين المضبوط بالقوانين الداخليّة الصارمة للكنيسة (sacred)، وعالم غيرهم العلمانيّ، المضبوط بخليط من التعاليم الدينيّة وقوانين الملوك والأمراء والإقطاعيين (secular).

والأهمّ من ذلك، أن بوادر العلمنة، ومحاولات فكّ ارتباط الملك بالكنيسة، والتي بدأت في أوروبا العصور الوسطى، أخذت شكل تحويل المَلِك نفسه (استنادًا إلى مفاهيم ثيولوجيّة مسيحيّة تعلمنت فيما بعد) إلى «كنيسة»، يجتمع فيه النّاسوت الجسديّ الطبيعيّ الفيزيولوجيّ، مع «لاهوت» سياسيّ مطلق لا يموت، كما يُخبرنا إرْنست كانتوروفتش، الذي يعتبر كتابه (The King’s Two Bodies: A Study in Medieval Political Theology)، أهم مرجع في هذا المجال.

على رأس هذه المفاهيم المتحوّلة يقع مفهوم الـ(Body Politic)، والذي سأترجمه بالعربيّة إلى: الجسد السياسيّ المُطلق، حيث للحاكم جسدان: جسدٌ «طبيعيّ» (Body natural)، وهو الجسد الذي يأكل وينام ويتألّم ويُصاب ويموت؛ وجسد سياسيّ (Body politic) أسمى مقامًا، تتمثّل فيه إرادة الحُكم ونواميسه، وينضوي فيه الشعب برمتّه باعتباره رعيّة الحاكم، وأبناءه. في هذا الجسد، يكون الحاكم بمثابة «الرأس»، وبقيّة الشعب هم جسد هذا الرأس التي ينفّذ إرادته من خلالهم. أمّا «الوطن» والحاكم فهما شيء واحد، جسد واحد، لا وجود لأحدهما دون الآخر؛ وهذا الجسد (السياسيّ المطلق) لا يُخطئ، ولا يمرض، ولا يموت، ولا يفنى. الجسدان، الطبيعيّ والسياسيّ، غير قابلين للانقسام أو التجزئة أو الانفكاك بعضهما عن بعض، بل هما متوحّدان في شخص الحاكم، لكن الجسد السياسيّ يسمو ويعلو على الجسد الطبيعي. وعندما يموت جسد الملك الطبيعيّ، فإن الجسد السياسيّ ينتقل إلى جسد طبيعيّ آخر، بالحلول (incarnation) في جسد الحاكم الجديد، وعبر «انتقال الرّوح» (روح الحُكم السياسيّ).

هذا المفهوم مشتقّ بالكامل من مسيحيّة الكنيسة القروسطيّة، وجسدها «الروحيّ» (corpus mysticum)، حيث الكنيسة برعيّتها هي الجسد الروحيّ للمسيح، والمسيح نفسه (وبالطّبع، قادة الكنيسة من خلاله) هم رأس الكنيسة. العبارة نفسها جاءت من وصف ازدواجيّة جسد المسيح الذي يتشكّل من جسد طبيعيّ (corpus verum أوcorpus naturale) هو لحمه ودمه ووجوده الفزيولوجيّ الشخصيّ الفرديّ، وجسد رؤيويّ، روحيّ، جمعيّ، ما فوق فرديّ، تمثّله الكنيسة.

«مع الوقت»، يقول كانتوروفتش ، «أصبح الجسد الروحيّ أقل فأقلّ روحيّة، وأصبح يعني ببساطة «الكنيسة» كجسد سياسيّ، وبالانتقال، [صار يعني] أيَّ جسد سياسي في العالم العلمانيّ [أي اللاكنسيّ] … وانتقل مفهوم الجسد الروحيّ بسهولة إلى وحدات علمانيّة أخرى. (..) الأمير، بصفته رأس الجسد الروحيّ للدّولة صار يُقارن بالمسيح، رأس الجسد الروحيّ للكنيسة. (..) الكنيسة باعتبارها الجسد الجمعيّ المافوق-فرديّ للمسيح، والذي كان لها بمثابة الرأس والزوج، وجدت مثيلتها الكاملة في الدّولة، باعتبارها الجسد الجمعيّ المافوق-فرديّ للأمير، والذي كان لها بمثابة الرأس والزوج».

ولم يقف الأمر عند اشتقاق الملك العلمانيّ لنفسه وسلطته من الدّين، بل تم اشتقاق «الدولة»، والانتماء إليها، والموت في سبيلها (الشّهادة)، وما سيتحوّل لاحقًا إلى نزعات «قوميّة» في دول البرجوازيّات الصناعيّة الأوروبيّة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، من نفس المصدر. يقول القدّيس (Saint Dubrick of Caerleon) في القرن الثاني عشر (والاقتباس من كتاب كانتوروفتش): «قاتل من أجل وطنك (patria) ومُتْ من أجله إن كان لا بدّ من ذلك. الموت بذاته نصر، وهو وسيلة لإنقاذ الروح، لأنّ من يموت من أجل أشقّائه يُقدّم نفسه قربانًا حيًّا للرّب، ويتبع المسيح دون لُبس. لهذا، إن داهمكم الموت في هذه الحرب، فليكن هذا الموت [من أجل الوطن] كفّارةً وغفرانًا لـجميع خطاياكم».

ومن هنا تم استعارة المفهوم العلمانيّ شبه الدينيّ لـ«الموت من أجل الوطن» (pro patria mori) -باعتباره «شهادة» (martyrdom)- من التخريجات الدينيّة الكنسيّة، إلى الأجساد السياسيّة العلمانيّة، وانتقل مفهوم القداسة من الحيز الدينيّ (الله، الكنيسة، المسيح)، إلى الحيّز العلماني (الوطن، الملك)، وهو تغيّر شكلانيّ يتعلّق بتغيّر مركز السلطة، أما الجوهر الدينيّ فبقي كما هو.

بهذا المعنى، يمكن أن نستنتج أن ليس ثمّة شيء اسمه «سلطة الدّين»، بل هناك «السّلطة» التي تعمل على تثبيت شرعيّتها باستخدام أدوات مختلفة، منها الدّين. الدّين، بهذا المعنى أيضًا، هو مجرّد أداة للتأويل والتفسير، يخضع لمصالح أصحاب النفوذ من أبناء العالم «العلمانيّ»، الواقعيّ، الفعليّ، التاريخيّ.

ولإن عَرَضَ فادي مسامرة في مقاله «بين الدّين والعلمانيّة: قراءة ماديّة» عن الصّراع الماديّ بين العلمانيّة (البرجوازيّة، الملك) والكنيسة، إلا أن الاستبطان العلمانيّ للدّين (بالمعنى المعرفيّ) لم يتوقّف قط، كما أوضحتُ أعلاه، ويستمرّ منذ أوروبا القرون الوسطى، حتى اليوم. بل إن الدّين، واليهودية-المسيحيّة تحديدًا، ما تزال هي لبّ، وأرضيّة أوروبّا العلمانيّة اليوم، خصوصًا فيما يتعلّق بالقيم والأخلاق والقوانين والمفاهيم الفلسفيّة الكبرى. يقول الفيلسوف الفرنسيّ ميشيل أونفري: «الجسد الغربي … مسيحيّ. ألفا سنة من النسق المسيحيّ –في التشريح، والطب، والفيزيولوجيا بالطبع، ولكن أيضًا في الفلسفة، واللاهوت، وعلم الجمال- شكّلت الجسد الذي نشغله»، ماديًّا ومعنويًّا. ويعطي أونفري أمثلة كثيرة من عالم الطبّ والصّيدلة والبيولوجيا والقضاء والأخلاق والتصوّرات الفلسفيّة العامة التي تُعتبر اليوم أركانًا رئيسيّة في الغرب «العلمانيّ»، مُشتقّة كلّها مما يُسمّيه أونفري: الجذور اليهو-مسيحيّة للممارسات العلمانيّة. ولا ننسى ملاحظة مسامرة الذكيّة المتعلّقة بـ«التبشير الرأسماليّ» في العالم المتاح للجميع في حال «آمنوا بأنفسهم»، والتي تُحيل بدورها إلى اشتقاق آليات دعائية علمانيّة من الدّين؛ وأضيف إليها ترويج العلمانيّة الكثيف لكلمتي «التّنوير» و«الظلاميّة»، المُستعارتين من حقبة أوروبيّة تاريخيّة بعينها، والمشتقّتين بدورهما من مفاهيم دينيّة (النور، النورانيّة، الكشف، عالم النّور الإلهي مقابل عالم الظّلام الشيطانيّ، دار الإيمان/النّور ودار الكفر/الظّلام، الخ).

بهذه المقاربة، التي تنطبق أيضًا على علمانيّي العالم العربيّ، يرى أونفري أن «تكتيكات بعض الشخصيّات العلمانيّة تبدو وكأنّها ملوّثة بأيديولوجيا العدوّ: كثير من مناضلي القضيّة العلمانيّة يتشابهون بشكل مدهش مع رجال الدّين. بل أسوأ من ذلك: يظهرون كنسخ كرتونيّة [كاريكاتوريّة] من رجال الدّين». كيف لا والعلمانيّة كما رأينا، تشتقّ نفسها من الدّين، وتربط نفسها، بشكل مباشر، بعلاقة ضديّة (بالمعنى العصبويّ) معه؟

الحروب الكرتونيّة والتّكفير المتبادل: «الملاحدة» في مواجهة «الدّواعش»

هذه العلاقة الضديّة (المتعلّقة بالارتباط البينيّ الكامل) تصل أعلى مستوى لها في التّكفير المُتبادل الذي يُمارسه أعضاء «الفريقين» بعضهما ضد الآخر: يصم أكثر العلمانيّين خصومهم الإسلاميّين بـ«الدواعش» و«التكفيريّين»، ويطالبون بتصفيتهم؛ فيما يكفّر أكثر الإسلاميّين خصومهم العلمانيّين باعتبارهم ملحدين خارجين عن الدّين، ممهّدين لقتلهم (ماديًّا و/أو معنويًّا) كمُرتدّين أو مفسدين في الأرض.

العلمانيّون بهذا المعنى إقصائيّون، سلفيّون، من حيث أن النسخة الوحيدة المقبولة لهم من الإسلام، كما يشخّص بشكل دقيق كلّ من شاكر جرّار ودعاء علي في مقالتهما «عن الدّين الوحيد الذي تقبله العلمانيّة»، هو «الإسلام المعتدل»، المُتسامح، القابل بالـ«آخر»، المخصخص، الفرديّ، أما النسخ الأخرى فلا تمثّل «الإسلام الصحيح»، وهي خاطئة، «كافرة» به، «مرتدّة» عنه، من يؤمنون بها هم «ظلاميّون»، «جهلة»، يصل الأمر إلى حد المطالبة بـ«إبادتهم»، مثلما كان حال بعض القوميّين واليساريّين والليبراليّين والديمقراطيّين «العلمانيّين»، وهم يشدّون على يد الجيش المصري في هجومه على معتصمي ميدان رابعة من الإخوان المسلمين. كيف يتسق ذلك مع ادّعاءات «التنوير» و«الإنسانويّة» و«التحضّر» و«حريّة الرأي والتعبير والمعتقد»؟ أم أن هذه القيم «انتقائيّة»، تطبّق على البعض دون الآخرين: من هو معنا فهو من «الفرقة الناجية» أصحاب «دار التنوير»، ومن لا يتسّق مع مفاهيمنا فهو من «الفرقة الظلاميّة» أصحاب «دار الجهل»؟

ثمّة علاقة وحدة ضدّية واضحة هنا، لا يقوم واحدها دون «آخر». وإن كان «آخر» الإسلاميّ هو غير المسلم، فإن «آخر» العلمانيّ العربيّ (الذي لا وجود له دونه) هو «الإسلاميّ» الذي يمارس ضدّه كل ما يتّهمه به من رذائل. الحرب كاريكاتوريّة إذًا، كرتونيّة، لأنّها تشتقّ أدواتها من الخصم وأدواته، ولا وجود لها دون ذلك الاشتقاق.

صار واضحًا الآن أن العلمانيّة في العالم العربي هي مفهوم ردّ-فعليّ جديد مثل الكثير من المفاهيم الردّ-فعليّة: نوعٌ من الدوغما العُصبويّة التي تشتقّ نفسها سلبًا من خصمها، بآليّات خصمها.

وهي كرتونيّة أيضًا لأنّها ترتكز إلى مفاهيم دعائيّة فارغة من المضمون، بعكس المفاهيم التي يشتقّها الإسلاميّون من تاريخ طويل من التآلف بين المتلقّي وبين المعنى المطلوب. مثلًا: كلمة «المُلحد» مفهومة بشكل شبه أوتوماتيكيّ، وتستدعي معها مباشرة حمولة شعوريّة كبيرة، وموقفًا حاسمًا سريعًا مبنيًّا على هذا الشّعور وذلك الفهم. أما مصطلحات العلمانيّين: التّنوير، الظلاميّة، الحداثة، الدّولة المدنيّة، فهي بالإضافة إلى خوائها المعرفيّ، ووظيفتها الأساسيّة كدعاية، فهي لا تعني شيئًا عند الناس، ولا يفهمون منها شيئًا، خصوصًا وأنّها ناتجة عن تنظير فوقيّ غالبًا، تترفّع عن الممارسة «التحتيّة»، المتحرّكة بين النّاس ومعهم.

ويبدو مفهوم «الدولة المدنيّة» أكثر هذه المصطلحات فداحة بالمعنى الدعائيّ، قدّمته السّلطة في مواجهة الانتفاضات العربيّة، وصعود التّيارات الإسلاميّة المختلفة الناتج عنها. فلا هو يعني «الدّولة العلمانيّة»، ولا هو يملك مصداقية «دولة الحقّ والقانون» (إذ قدمته سُلطة، فاسدة، تابعة، تنتهك «الحقّ والقانون» بشكل بنيويّ ويوميّ)، وألقي هكذا لتقوم كلّ جهة بإسباغ تعريفها الخاص عليه، وتتقاتل حوله، بانتظار أن تحسم ذات السّلطة المعنى المُراد منه في مرحلة ما، تخدم به وجودها الخاص، أو تخترع لتلك المرحلة مصطلحات جديدة فارغة (نتذكّر هنا مفاهيم فارغة من نفس النوع اخترعتها السّلطة في الأردن لذات الوظائف الدّعائية المتعدّدة التّفسير وهي: الأردن أولًا، كلّنا الأردن؛ كما نتذّكر وثائق كاملة أُنتجت لامتصاص مرحلة ما، تمّ التخلّص منها لاحقًا مثل: الميثاق الوطنيّ الأردنيّ 1991، الأجندة الوطنيّة 2006، وغيرها).

العلمانيّة كأداة استعماريّة، و«الإسلام» كمفهوم محليّ لاشتقاق المقاومة ضدّ الاستعمار

رغم وجود بعض ممارسات يمكن وصفها بـ«العلمانيّة» في فترات مختلفة من التاريخ الإسلاميّ، كما يرد في مقال خالد بشير: «إشارات إلى تجربة علمانيّة في السّياق الإسلاميّ»، إلا أن مفهوم العلمانيّة كما نعرفه اليوم مُعاصر، تجذّر أثناء الثّورة الصناعيّة في أوروبا القرن الثامن عشر مع صعود البرجوازيّة الصناعية والتجاريّة، وحاجتها إلى إنهاء سلطة الكنيسة وإلحاقها بالدّولة.

في منطقتنا، وفدت العلمانيّة بشكلها المؤسسيّ مع الاستعمار، إذ لم تؤثر «التنظيمات» العثمانيّة الإصلاحيّة (1839 – 1876) في الأطراف العربيّة بشكل كبير، وتمّت مقاومة ما وصل من آثارها من قبل الإدارة العثمانيّة المحليّة نفسها، والناس بمختلف طوائفهم، وظلّت ثنائيّة الدين-الدّولة مشتبكة فيها، ولم تتحقّق علمانيّة العثمانيّين «الكاملة» إلا مع انهيار الامبراطوريّة العثمانيّة ونشوء تركيّا الحديثة بعد الحرب العالميّة الأولى.

وعلى الرّغم من علمانيّة الاستعمار الشكليّة، إلا أنه لم يتورّع أبدًا عن التعامل مع، بل وتعزيز، البنى الطائفيّة الدينيّة في المنطقة، وغيرها من أشكال «التفكّكات» (كالعشائريّة، والإثنيّة)، دون أن ننسى أن طليعة الاستعمار الأولى كانت: البعثات التبشيريّة المسيحيّة الطائفيّة، والمؤسسات المختلفة التي أنشأتها، كلّ بحسب الطائفة المُهيمنة في بلد الأصل «العلمانيّ».

هكذا، أخذت الكثير من حركات المقاومة المحليّة طابعًا إسلاميًّا، فالإسلام (بمختلف تنويعاته) هو المنظومة الفكريّة الوحيدة –تقريبًا- المنتجة داخليًا أو محليًّا (intrinsic)، تحمل أفكاره ومصطلحاته عمقًا تاريخيًّا حاضرًا ومؤثّرًا في الفهم والوجدان الشّعبيّين، ويمكن فهمها فهمًا عضويًا بشكل شبه أوتوماتيكي (بعكس القوميّة، والماركسيّة، واللّيبرالية، التي لا تشتغل مصطلحاتها ومفاهيمها على ذات المستوى العميق في الفهم والوجدان الشعبيّين، بل وتعكس اغترابًا لغويًّا وتاريخيًّا).

يرى الصادق النيهوم في كتابه: «محنة ثقافة مزوّرة: صوت النّاس أم صوت الفقهاء» أن مصطلحات ومفاهيم مثل «الديمقراطيّة» و«الاشتراكيّة» و«الرأسماليّة» لا تعني للمواطن العربيّ شيئًا، ليس لها جذر تاريخيّ عميق يترك أثره القويّ، ويؤدّي إلى فهمها المباشر والوجدانيّ مثل المصطلحات والمفاهيم الإسلاميّة، التي تستبطن حمولة تاريخيّة-اجتماعيّة-سياسيّة عميقة، ويألفها الناس ويألفون معانيها ودلالاتها بعمق أجيال وأجيال، وبحكم تاريخٍ طويل من الألفة والاحتكاك تكسبها قيمة عضويّة تفاعليّة. تُصبح ضريبة هجرة المصطلحات الإسلاميّة، المُنتجة محليًّا بعمق 1400 عام من الممارسة والاستخدام والاستبطان، لصالح المصطلحات المستوردة، بحسب النيهوم، «هي أن يصبح العرب فجأة شعبًا من الأميّين، حتى يُعاد تعليمهم من جديد؛ فمخاطبة الناس بمصطلحات لا يعرفون لها شريعة في واقعهم، مثل مخاطبتهم بلغة أجنبيّة، فكرة تحتاج إلى إعادة تأهيلهم من الصّفر».

العلمانيّة في العالم العربيّ اليوم، ما تزال، غير قادرة على تعريف نفسها، والاتّساق مع ذاتها، والتبيّؤ محليًّا، وإيجاد حواملها الطبقيّة أو الاجتماعيّة

لهذا نجد عز الدّين القسّام يواجه البريطانيين والصهاينة في فلسطين بخطاب إسلامي؛ وكذلك فعل قبله الأمير عبد القادر الجزائري في الموجة الأولى من المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، والشيخ عمر المختار في مواجهة الاستعمار الإيطاليّ في ليبيا، أمّا مقاومو الاستعمار في الجزائر في الموجة الثانية التي انتهت بطرد الاستعمار الفرنسي، فكانوا يسمّون أنفسهم: «المجاهدون»، وعلى النّسق ذاته سمّت حركة المقاومة الشعبيّة المسلّحة ضد القوات الصهيونيّة نفسها: «حركة الجهاد المقدّس»، خلال الأعوام القليلة التي انتهت بتأسيس دولة «إسرائيل»، وكان من قادتها الكبار كلّ من عبد القادر الحسيني (في القدس) ومحمد حمد الحنيطي (في حيفا). الخطاب الإسلاميّ (بهذا المعنى) هو «الخطاب الطبيعيّ»، الذي يملك عمقًا وشرعيّة وفهمًا وارتباطًا عضويًّا بالنّاس. كلّ المفاهيم الأخرى عليها أن تُكابد جهدًا كبيرًا لتأخذ مكانةً مُقاربة.

من الطّبيعي، إذًا، أن يُضمر الجمهور الأوسع شعورًا عدائيًّا تجاه مصطلح وفد مع الاستعمار، ويُعتَبر جزءًا من آليّات الإلحاق والتبعيّة، خصوصًا وأن الاستعمار منافق، مزدوج المعايير، انتهازيّ في التعاطي مع المفاهيم والمبادئ، يطوّعها لصالحه، ويتجاهل تطبيقها على غيره؛ وهو الأمر الذي أورثه للمجموعات الحاكمة التي ورثت الكيانات الوظيفيّة التي خلّفها، فهذه استمرّت في التعاطي مع المبادئ (الدستوريّة والقانونيّة) بصفتها «شكليّات»، ديكور لكيان يُسمّي نفسه دولة لكنّه في الحقيقة ليس أكثر من مساحة لنفوذ عُصبة حاكمة، أو عصابة حاكمة، لا يردعها قانون ولا دستور، ديدنها الأساسي أن تبقى في السُّلطة، سواء أتطلّب منها الأمر تبعيّة كاملة لمراكز القوى الإقليميّة والدوليّة، أو تفكيك المجتمع السياسيّ المحليّ وتصفيته مقابل تعزيز النزعات التفتيتيّة الطائفيّة والعشائريّة والدينيّة والجهويّة والإثنيّة، أو الوصول إلى تسويات فكريّة / سياسيّة انتهازيّة متعلّقة بالوضع الآني، يؤدّي بها إلى توظيف الإسلاميّين لضرب التيّارات القوميّة واليساريّة في زمن صعودها (سابقًا)، أو توظيف القوى الليبراليّة واليساريّة والقوميّة (العلمانيّة) لضرب التيّارات الإسلاميّة في زمن صعودها (اليوم)؛ النتيجة أن السُّلطة تبقى وتتمدّد، وتتمدّد معها التشوّهات البنيويّة والفكريّة التي تُنتجها، وتظلّ «القوى» الأخرى في وضعيّة التابع، والمُلحق القابل للتّوظيف.

الاحتماء بالسّلطة واستجداؤها: التسوّل القائم على «نحن» بدلًا من «هُم»

يظنّ بعض الليبراليّين (العلمانيّين) اليوم أن هناك «لحظة فارقة» تاريخيّة تحلّ هذه الفترة، بعد صعود ومن ثمّ هبوط تنظيم الدّولة الإسلاميّة (خصوصًا)، والتنظيمات الإسلاميّة المختلفة، العنفيّة وغير العنفيّة (عمومًا)، إثر فترة الانتفاضات العربيّة التي خرجت منها المجموعات الحاكمة العربيّة، الفاسدة، الوظيفيّة، التّابعة، أقوى مما كانت عليه، ونجحت (في دعايتها للدّاخل والخارج) في «إثبات» مقولة أن البديل عنها لن يكون إلا أشكالًا سياسيّة بالغة العنف والقسوة والتضادّ مع ما استقرّ عليه «المجتمع الدوليّ» من «ثوابت».

لهذا انضم جزء وازن من الليبراليّين (والقوميّين واليساريّين) ليصيروا إمّا جزءًا من الآلة الدعائيّة للمجموعات الحاكمة (التي كانوا يصمونها بكلّ أنواع الرذائل قبل الانتفاضات العربيّة)؛ وإمّا موهومين بأنّهم قادرون على إحداث تغيير بنيويّ، «حداثيّ» و«تنويريّ»، في بُنى الكيانات الوظيفيّة، من خلال اقتراح مجموعة من «الاستراتيجيّات» في مجالي التعليم والثقافة تحديدًا، تنقل المجتمع، بالتّحالف مع السُّلطة، إلى موقع علمانيّ، مدنيّ، متنوّر.

هناك عدّة اشكالات (أن لم نقل أوهامًا كبرى) تتعلّق بهذه المقاربة:

أولًا: يتعامى هذا التصوّر عن حقيقة أن السُّلطة هي مُنتجة الاختلالات وراعيتها، ومثل هذه المقاربة لا تُحيّد السلطة وتُبرّئها فقط، بل تُعزّز شرعيّتها وتخلق لها شرعيّة إضافيّة.

ثانيًا: السّلطة انتهازيّة، غير معنيّة بالتّغيير بقدر ما هي معنيّة بالبقاء في موقع نفوذها الحصريّ المُحتكَر، لذا فهي «تتغيّر» وتُغيّر خطابها بحسب المرحلة. إن كانت المرحلة مرحلة صعود للعلمانيّين (قوميين ويساريّين)، أو كانت المرحلة مرحلة لبرلة لبلدٍ كان يسير على مخطّط تصنيعيّ واقتصاد تقوده الدّولة، فهي تذهب للتحالف مع الإسلاميّين وتُمكّنهم (كما كان الأمر في الأردن خلال خمسينيّات وحتى ثمانينيّات القرن الماضي؛ وفي مصر بعد وفاة عبد الناصر واستلام أنور السّادات، «الرئيس المؤمن»، للرّئاسة). اليوم، وبعد أن استطاعت المجموعات الحاكمة العربيّة (على مدار العقود التي احتكرت فيها السّلطة) تفكيك المجتمع السياسيّ كاملًا (من أحزاب ونقابات ومؤسسات مجتمعيّة)، باستثناء الحركات السياسيّة الإسلاميّة التي قويت شوكتها لعدّة أسباب، أبرزها غياب المُنافسين (الذين قمعتهم السّلطة)، واغترابُ خطابهم، وسلطويّة مؤسّساتهم وضعفها، برزت هذه الحركات كمنافس رئيسيّ ووحيد للسّلطة، وبديلًا ممكنًا (وأكثر شرعيّة) منها، لذا: حان الوقت لتفكيكها وتصفيتها أيضًا. تبدّلت المواقع ليصير أعداء الأمس العلمانيّون، «حلفاء» اليوم، ويصير حلفاء الأمس الإسلاميّون، أعداء اليوم؛ مع ملاحظة أن هذا «التحالف» (في كلّ الحالات) ليس تحالفًا حقًّا، لأن موازين القوى مختلّة بشكل هائل لصالح السّلطة. الأمر لا يتعدى الاستخدام، الذي سيليه –طبعًا- الإلقاء في سلّة المهملات.

ثالثًا: المقاربة المُنتقاة ثقافويّة، تعتبر أن الخلل فكريّ: مشكلة «أخلاقيّة» تُحلّ بـ«التربية»، وليست بُنيويّة ناتجة عن احتكار السّلطة، والقمع، والفساد، والتبعيّة، ووظيفيّة الكيانات ذات العلاقة ومجموعاتها الحاكمة. مرّة أخرى: هذه مقاربة «ذهبيّة» بالنّسبة السّلطة، تُبرّئها من جهة، وتُكسبها شرعيّة وظيفيّة إضافيّة (باعتبارها ليست السّبب من جهة، وراعية «التحوّل الثقافيّ» من جهة ثانية).

يبدو هذا شكلًا كوميديًّا/مأساويًّا من نسخة سابقة للتاريخ: فبينما شنّ مثقّفو ثمانينيّات وتسعينيّات القرن الماضي العلمانيّون حملة فكريّة شرسة على «الدّولة الدينيّة» (المُفترضة، المُتخيّلة)، باعتبارها الخطر الأوّل على الحريّة والناس؛ لم ينبس هؤلاء ببنت شفة عن المجموعات الحاكمة (العلمانيّ بعضها، والموجودة حقًّا على أرض الواقع، لا افتراضًا) التي كانت تقمع وتضطهد الناس فعليًّا، بأشرس ما يكون القمع والاضطهاد؛ في نفس الوقت الذي خاضوا فيه نقاشًا عبثيًّا (بل وسخيفًا) عمّن يأتي أوّلًا: العلمانيّة أم الديمقراطيّة!

غنيّ عن القول أن مثل هذا الخطاب، ومثل تلك «الإشكاليّات» السطحيّة، تناسب المجموعات الحاكمة، وتشرعن وجودها الوظيفيّ اللاشرعيّ، وتجعل من المثقّف العلمانيّ مثقّفًا دعائيًّا من حيث يدري أو لا يدري، وهو ما يتكرّر مع علمانيّي اليوم، الذين يشمئزّون من عنف «التكفيريّين» ويقفون ضدّه بشراسة منقطعة النّظير، بينما يدعمون في الوقت ذاته عنف المجموعات الحاكمة (الأشدّ وقعًا في أغلب الحالات).

يغيب عن هؤلاء العلمانيّين، أو يغيّبون عن أنفسهم، أن العمل «التغييريّ» عليه ان يكون في مواجهة السُّلطة، وليس من خلال التحوّل إلى مُستخدمين لديها، والانتشاء بلحظة القرب المُؤقّتة منها.

ماذا بقي من علمانيّة العلمانيّين العرب؟ وما أفق التحرّك إلى الأمام؟

هناك ملاحظتان إضافيّتان أساسيّتان:

الأولى: الخلط الكبير بين «العلميّة» كمنهج لتفسير الظواهر الكونيّة، والتنبُّؤ بها، انطلاقًا من قاعدة أن القوى المحرّكة للطبيعة تقع داخل الطبيعة، لا خارجها، وتُقصي، بالتالي، الأوهام والغيبيّات والقوى الخارقة من اعتبارها، وتجعل من النسبيّة، وإمكانيّات التّغيير، وإمكان الخطأ والتَّخطِيء (falsification)، أي إمكانيّات التطوير، عناصر مركزيّة من مقولاتها؛ وبين العلمانيّة كأيديولوجيا عقائديّة، تعبويّة، بالمعنى الذي بحثناه أعلاه. لا لقاء بين الاثنين، إذ ثمّة اختلاف بيّن في المقاربة.

الثانية: يدلّ الهوس الكبير في البحث عن أصل كلمة العلمانيّة (مثلًا: مقالة خالد يايموت «العَلمانية: معالم نظرية لفصل الدولة عن الدين في النموذج الفرنسي»)، واشتقاقاتها، والابتعاد عن الخوض في سياقاتها الموضوعيّة الفعليّة من حيث الفعل والتأثير في الواقع، وموقعها الاجتماعيّ-الاقتصاديّ-السياسيّ، وموقعها المفاهيميّ خارج السياق المعجميّ، وانتقالها من «أصل لغويّ-تاريخيّ» إلى مفهوم متحرّك في الواقع، إلى اغتراب المصطلح وأصحابه (معرفيًّا) من جهة، وإلى تعاملهم معه كمعطىً جامد، خلاصيّ، دينيّ، جوهرانيّ، من جهة ثانية.

صار واضحًا الآن أن العلمانيّة في العالم العربي، خصوصًا عند أولئك الذين يُسمّون أنفسهم: «التنويريّون»، إذ يرفّعون أنفسهم إلى مرتبة الأنبياء (في اشتقاق آخر من خصمهم: الدّين)، هي مفهوم ردّ-فعليّ جديد مثل الكثير من المفاهيم الردّ-فعليّة: نوعٌ من الدوغما العُصبويّة التي تشتقّ نفسها سلبًا من خصمها، بآليّات خصمها. تقدّم هذه الدّوغما قراءات سطحيّة، مُفرغة من المعنى، لاختلالات عميقة؛ وتُقدّم حلولًا ثقافويّة لإشكالات ناشئة عن السّلطة والاقتصاد وانعدام العدالة؛ وتستجدي السّلطة من أجل التغيير، بدلًا من تشخيص التّغيير كمواجهةٍ للسّلطة؛ وترتكز على «الهويّة» العصبويّة لحشد الأنصار، بدلًا من تعزيز النّقد، والسؤال، ومساءلة المفاهيم المستقرّة، أو تلك الفارغة/الدعائيّة، كآلية أساسيّة لبناء المشروع البديل.

يرى جارِد دايموند في كتابه «Guns, Germs, and Steel: The Fates of Human Societies» أن الشعوب والحضارات التي لا تتبنّى «الجديد»، تنقرض وتبيد ولا يبقى لها أثر. هذه مُعضلة حقًّا في أزمان كلّ جديدها يقوم على الاستغلال، والقوّة، والقمع، والهيمنة؛ وفي أزمان غير قادرة على تخيّل إمكانيّة تغيير النظام القائم من الأساس. مصادرة المخيّلة هذه نبهّت فيلسوفًا كبيرًا مثل ألان باديو إلى فكرة «الأمل»، وهو نفس الموضوع الذي يتوسّع فيه رايموند وليامز في كتابه (Hope Without Optimism) (الأمل منزوعًا منه التفاؤل).

يكمن الأمل، بحسب باديو، في اجتراح الفعاليّة السياسيّة خارج مساحات الدّولة والأنظمة، وأزيد عليها: وبتقويضها، من خلال الأفعال التقويضيّة (subversion). هذا يتطلّب افتكاكًا ماديًّا ومفاهيميًّا عن السّلطة؛ وخروجًا من ملعبها، الذي تحدّده قوانينها، ولها فيه كلّ الأفضليّة؛ وخروجًا من حالة الارتباط الضدّي التي تجعل من الخصم/الضدّ/«الآخر» مكانًا لاشتقاق الذات وتعريفها.

العلمانيّة في العالم العربيّ اليوم، ما تزال، رغم عقود من «النّشاط»، غير قادرة على تعريف نفسها، والاتّساق مع ذاتها، والتبيّؤ محليًّا، وإيجاد حواملها الطبقيّة أو الاجتماعيّة، والارتكاز على محدّدات ماديّة لخطابها الذي ما يزال ثقافويًّا، مثاليًّا، ميتافيزيقيًّا. ثمّة تشكل عُصبويّ للعلمانيّة، يضم نقائض فكريّة، مشاريعها (يفترض أن تكون) مختلفة ومتعارضة، وثمّة استجداء للسّلطة وبحث على دور عندها، رغم أنّها سبب المصائب من جهة، وتملك كامل أدوات الهيمنة والتّوظيف من جهة ثانية.

«فصل الدّين عن الدّولة» يبدو بهذا المنظور شعارًا مُضلّلًا،  فليس ثمّة «دين» واحد، جوهرانيّ، لنفصله عن الدّولة، فالدّين عددٌ لا نهائيّ من القراءات، أما «المؤسسّة الدينيّة» في العالم العربيّ فتابعة للسّلطة ومُشتقّة منها؛ ولا توجد «دولة» نفصلها عن الدّين، فالموجود كيانات وظيفيّة (وليس «دول»)، تحكمها مجموعات حاكمة (وليس «أنظمة»)، تندمجان بعضهما ببعض بالكامل، وتعيدان إنتاج كل شيء (من «مفاهيم» أو «مؤسسات» أو «قوانين» أو «أعراف») بما يتواءم مع مصالحها في البقاء واحتكار السّلطة. «لتعمل ثورة عالنّظام»، يقول زياد الرّحباني، «لازم أوّل شي يكون في نظام»؛ وبنفس المنطق: لنفصل الدّين عن الدّولة، يجب أولًا أن يكون هناك «دين» (أيديولوجيا محدّدة، واضحة المعالم، في موقع السّلطة كمؤسّسة)، والأهمّ: أن يكون هناك «دولة».

إذًا، لا يكمن «التغيير» في اقتناص اللّحظة «التّربوية» المؤاتيّة، والانخراط في جهد دعائيّ تستفيد منه السّلطة فقط، وتتعاظم فيه استقطابات «نحن» (العلمانيّون، التنويريّون) مقابل «هم» (الإسلاميّون، الظلاميّون)، لتُضاف إلى قائمة طويلة من الاستقطابات التي تبدأ بالطائفيّة، ولا تنتهي بالعشائريّة، بينما تعيد السّلطة إنتاج نفسها ووظيفتها الداخليّة –مرّة بعد مرّة- كحاجز، وتشتق شرعيّة من لا-شرعيّتها الوظيفيّة. مثل هذه المقاربات لن تفيد أحدًا، ولن تنقلنا من «مجموعات» متناحرة على فُتات السّلطة، إلى «مجتمع» يستطيع أن يشخّص ويفهم مُحدّدات وجوده، وينطلق ليُصحّحها.

هذه ملاحظة قديمة جدًّا، ومصيبة جدًّا، قدّمها ماركس (الذي كثيرًا ما يُساء توظيفه) عن نقد الدّين، عام 1844، في المقدّمة الشهيرة لكتابه «نقد فلسفة الحق عند هيغل»، ملخّصها عبثيّة نقد الدّين من حيث هو دين (معطىً ثقافيّ، مثاليّ، مثلما فعل فيورباخ في كتابه: «جوهر المسيحيّة»)، بينما الأصل أن «…يتحوّل نقد السّماء إلى نقد الأرض، ونقد الدّين إلى نقد القانون، ونقد اللاهوت إلى نقد السّياسة»، إذ أن «المعاناة الدينيّة هي التعبير عن المعاناة الحقيقيّة، وهي الاحتجاج على المعاناة الحقيقيّة في الوقت نفسه … إن تخطّي الدين في وصفه سعادة وهميّة للناس، هو بسعادتهم الحقيقيّة؛ وإن المطالبة بتخلّيهم عن أوهامهم إزاء وضعهم، هي المطالبة بتخلّيهم عن وضع يقتضي الأوهام».

جزءٌ من المطلوب، إذًا، هو التخلّص (فكريًّا، معرفيًّا) من أشكال الخطاب التي تتشارك مع الخطاب الدينيّ في جوهرانيّته، واقصائيّته، ودعائيّته، ولا-علميّته، ودوغمائيّته، وسطحيّته، وشعبويّته، ووعوده المؤجّلة والخلاصيّة، وتركيزه على الاستقطاب الهويّاتي؛ لكن، في البحث عن «التّغيير» و«البديل»، على الفكرة (Idea The – بحسب باديو) أن تبدأ دومًا من العلاقة مع السّلطة، من الاستغلال والقمع، وبُنى القوّة المُشكِّلة لهما؛ من التاريخ الاستعماريّ، وواقع الكيانات الوظيفيّة ومجموعاتها الحاكمة؛ ومن التشوّه الاجتماعي الناتج عن كلّ ذلك. على الفكرة أن تبدأ من الأسباب، لا من الظواهر؛ من العمق، لا من السطح. باستثناء ذلك، فلن نفعل شيئًا سوى إعادة إنتاج التشوّه، والزبائنيّة، والتبعيّة، والاضطهاد، بأثواب مختلفة.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.