امّــّــــــــــــاه فلنذهب إلى الجنّة / محمد بتش”مسعود”
محمد بتش”مسعود ( الخميس ) 23/11/2017 م …
مرّت أشهر وأزيز الطائرات لا يتوقـّف، لقد عكـّروا الجوّ موتـاً، قال أخي الأصغر: «لم يبق في بيتنا حطب يا أمّي»، كانت وجنتاه تكسوهما حمرة شاحبة، «بقيتْ جذوة واحدة يا صغيري، نتدفـّأ الليلة، وغداً يفرجها ربك»، أجابته أمّي والطـّين يملأ أصابعها المشققتين منذ سنين.
منذ وفاة والدي لم تطأ قدماي المدرسة، فليس لأمّي وأخي من يهتمّ بهما غيري، وكان أخي الأصغر باستمرار يسأل ببراءة: «متى يعود والدي؟»، وتقول أمّي: «لقد ذهب إلى الجنة، ليستريح».
كنتُ متعباً، مرهقاً، مشتـّتة أفكاري، كيف لنا أن ننام وبراميل الموت تـُقذفُ علينا كلّ لحظة وحين؟، عنـّفني ربّ عملي هذا اليوم، لقد أشبعني إذلالاً وتعنيفاً لأنني تأخـّرت.
كان أجري زهيداً بالكاد يكفي لشراء الرّغيف، التعب هو أجري الكامل، كنـّا نفرغ السّلع ونرتـّبها في محلا ّته يومياً، فهو تاجر معروف.
عندما كنتُ أعمل، تعثـّرت قدمي، تبعثرتْ أطرافي، ارتطمتْ علبة الصّحون بالأرض، يارب ّسترك، لقد تكسّرت جميعها، قال ربّ عملي وكلـّه حنق وشدّة: «يا كلب.. يعطيك العمى، أنت مطرود، عدْ إلى أمّك واعجن لها الطين».
تبعْتـُهُ إلى مكتبه، أخرج سجلا ّوآلةً حاسبة، مدّ يده إلى خزنته وأخرج بعض المال، عدّه وسلمني إيـّاه، كان ناقصاً، وحين استفسرته عن السبب قال: «علبة الصحون المكسورة، من يسدّد ثمنها؟»، بلعتُ ريقي الجاف، دعوتُ الله عليه ودعوتُ، ومازلت!.
مسكينةٌ هيّ أمّي، لم تتمالك نفسها حين أخبرتها بالأمر، كان دعاؤها الطويل العريض عليه وهي تتفحّص قلل الطين لتتأكد من سلامتها، بعد يومين ستطوف وأخي الأصغر البلدة المجاورة، علـّها تبيع بعضاً من القلل.
أزيز الطائرات ازداد حدّةً هذا اليوم، وكانت البراميل تهوي، ودويـّها في الأرجاء مسموع، جاء جاري مسرعاً والخوف في عينيه، البلدة المجاورة دكـّها القصف، «ياربّ!»، جفَّ حلقي، تسمّرتُ في مكاني، «أمّي وأخي ذهبا اليوم لبيع القلل»، كنتُ أبكي كطفل صغير، «ياربّ أعدهما سالمين»، هرولتُ كالمجنون تائهاً في البلدة المجاورة، كنتُ أسألُ كلّ من أصادفه عن امرأة وطفل صغير معهما قلل طين، لكن لا أحد تذكـّرَ أنّه رآهما، وكانت دعواتي لربّي تزداد وتزداد.
حلّ المساء، عـُدتُ وما معي سوى عبراتي وخيبات آمالي، «لقد ضاع كلّ شيء»، تمنـّيتُ لو لحقتُ بأبي وأمّي وأخي، كيف لي أن أنام وليس في البيت سواي؟، كانت أطول ليلة في حياتي.
قبيل الفجر غفوتُ بعض الشيء، أيقظتني طرقات على الباب، خرجت ُمرعوباً، لم أصدّق ما رأتهُ عيناي، رحتُ أقبـّلُ أمّي وأعانقها، حملتُ أخي على ظهري ودخلنا، حمدت الله وسجدت شاكراً، غلبتني الدّموع، قالت أمّي: «كنـّا في بلدة أخرى، لحسن الحظ ّلم يمسّنا الموت هذه المرّة!».
قالت أمّي: «مرّ زمن ولم نزُرْ جدّك المريض، سنزوره اليوم إن شاء الله»، عند عودتنا كان الدّخان يملأ البلدة، إنـّها البراميل، لقد دكـّها القصف، بقايا المنزل يعلوها دخان مغبر، وبين الأنقاض محفظتي وبعض الكراريس وأوراق شجرة السنديـّان، «لم يبق لنا شيء، ليس عندنا طعام ولا شراب، ليس عندنا بيت ولا وطن، من لنا ياربّ سواك».
بكى أخي الصّغير وقال: «اشتقت ُلأبي يا أمّي، متي سيعود؟، أمّاه فلنذهب إلى الجنـّة حيث نلقى أبي»، حملتهُ على ظهري وعدنا أدراجنا إلى بيت جدي، ويا ليت يكون عودنا أحمد.
التعليقات مغلقة.