لبنان … أمام تحديات المرحلة: هل يبادر اليسار لبناء جبهة مواجهة؟ / افتتاحية مجلة “النداء” اللبنانية




د. حسن خليل ( لبنان ) السبت 25/11/2017 م …

إن الأوضاع في لبنان لن تكون بمنأى عن إرتدادات ما يجري في المنطقة، التي تشكّل اليوم ميداناً متقدماً وحاسماً في الصراع الدولي، المتصاعد لكسر أحادية السيطرة الأميركية، وبناء عالمٍ متعدد الأقطاب، نظراً لتداخل العديد من القضايا الإقليمية المرتبطة بهذا الاشتباك الدائر فوق أكثر من ساحة، فضلاً عن التهديدات الإسرائيلية المستمرة والعدوانية الأميركية المستجدة، والتي لا تترك مناسبة إلّا وتعبّر فيها عن نفسها وعن نيّاتها.

فالطبيعة السياسية للنظام الحاكم في لبنان تتميز بجمعها المتناقضات في “وحدة”، أساسها المحاصصّة، ومنع أي عملية تغيير بإتجاه بناء الدولة الحديثة؛ وكذلك في جمعها التناقضات السياسية الخارجية، وتبايناتها في “الوحدة” نفسها من خلال ولاءات، يأتي في الطليعة منها تنفيذ مصالح الخارج، ولو أدّى ذلك إلى انهيار السلطة، أو تعطّل البلد. من هنا نقرأ، وندرك خلفيات وأبعاد ما حدث أخيراً في لبنان، والذي جاء في إطار إعادة تسعير حالة الإنقسام السياسي، التي بدأت باستدعاءات لبعض قوى وشخصيات من تحالف 14 آذار، في محاولة لإعادة لمّ الشمل، والتي إستُكملت بالإستقالة المفاجئة، والملتبسة لرئيس الحكومة سعد الحريري، والتي تتنافى مع كل موجبات السيادة الوطنية نظرياً، والأعراف القانونية شكلاً، وتخالف المناخ الذي أرسته التسوية الرئاسية مضموناً. إن هذه الإستقالة، وفي هذا الوقت بالذات، الذي تمر به منطقتنا، من حروب ومآسٍ تهدد كياناتها بالتفتيت، ليست الحدث بذاته، وإنما خلفيات ما كان مطلوباً منها أو معولاً عليها، من قبل الراعي الخارجي على الصعيدين الداخلي والإقليمي، والتي يمكن قراءتها كالتالي:

داخلياً، تشكل الإستقالة، بالصورة التي وردت عليها، تصعيداً سياسياً خطيراً، يعطيها بعدها المذهبي، لما يمكن أن تُسببه، من متغيرات على مسار الأحداث وتطور الأمور لجهة تهديد السلم الأهلي، وتظهير الإنقسام المذهبي ربطاً بالقضايا الإقليمية، وإذا أضفنا عاملين مهمين، العدو الإسرائيلي وتهديداته المستمرة، والعقوبات المالية الأميركية ضد لبنان، تصبح الأمور متجهة إلى إستنتاجات خطيرة، ومقلقة لما يمكن أن تحدثه من تداعيات سياسية وإقتصادية وربما أمنية، إضافة إلى الخطاب السياسي الذي تموضع بشكل سريع خلف شعارات، إستُحضرت من زمن الحرب الأهلية، وخروج العديد من القوى من دائرة التوافق الذي أرساه الاتفاق السلطوي بين أفرقائه، إلى خيارات أقل ما يُقال فيها، مسببة للحرب، أو أقلّه لبروز حالة من التوتر الداخلي، وإنهاء مفاعيل إتفاق الدوحة، الذي كان قد ألغى بدوره مفاعيل إتفاق الطائف. كما لا يمكن التغاضي، عمّا يمكن أن تشكله تلك الإستقالة، من تداعيات على الإنتخابات النيابية القادمة في لبنان، فإن الإستقالة قد تتضمّن في طيّاتها تأجيلاً لها أو تقديماً، بالترافق مع خطاب سياسي متوتر يستهدف، إضافة إلى شلّ الوضع الداخلي، تشكيل أدوات ضغط أما للخروج من التسوية القائمة، وأما لتعديل موازين القوى لصالحهم، وأما  للإطاحة بالانتخابات، مما يعيق التقدّم على طريق التغيير المطلوب. بالإضافة إلى إستمرار التدهور الإقتصادي والإجتماعي والذي ستطال مفاعيله أكثرية الشعب اللبناني.

إقليمياً، في ظل تفاقم الاشتباك في المنطقة وفي ساحاته المتعددة (سورية، العراق، فلسطين، اليمن…)، يمكن فهم خلفيات تلك الاستقالة كرسالة بعدة أهداف: الأول، محاولة التشويش على مسار الأحداث في سورية باستخدام أوراق تعرقله، والساحة اللبنانية أساس في هذا المسار لأكثر من سبب، ليس أهمها الانخراط اللبناني المباشر في الأزمة السورية ومسألة النازحين، وإنما أيضاً بدور لبنان وموقعه في عملية إعمار سورية، سواء لجهة استخدام الموانئ القريبة، أو لاستخدام المصارف اللبنانية لضخ الأموال عبر فروعها السورية. الثاني، حجز مكان في أي تسوية مرتقبة، أو تعطيلاً لمسارها، أو للمشاغبة في الساحات الخلفية للصراع تحضيراً لعمل عسكري ما ضد حزب الله، بالتكافل والتضامن مع العدو الصهيوني، إنتقاماً لهزائمهم المتتالية في غير ساحة. الثالث، مرتبط بالمسار الذي تُعد له الولايات المتحدة الأميركية والمتعلق بتسوية القضية الفلسطينية وتصفيتها، ما يستوجب ضرب حركات المقاومة (حزب الله، حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية)، بما يعنيه ذلك من تقليم أظفار إيران، أو قطع يدها كما جاء في بيان الاستقالة، في المشرق العربي استكمالاً لمحاولات عزلها عالمياً تحت حجة الملف النووي، والتي لم تنجح فيها الولايات المتحدة حتى الآن. الرابع، كانسحاب سعودي من بعض مواقع الاشتباك نتيجة الهزائم المتكررة في أكثر من ساحة بهدف إعادة تموضع مختلفة، تلبية لمخاض عملية سياسية داخلية مرتبطة  بإستلام السلطة من قبل ولي العهد. الخامس، المتعلق باليمن التي تبدو أنها الموقع الأكثر تقدماً في “المقايضة” التي تنشدها السعودية، ما يوجب لفت النظر إلى تعاظم الرد اليمني بنوعيته (صواريخ بعيدة المدى، طائرات مسيّرة) وفي المقابل تعاظم مجازر العدوان، وهذان المؤشران لا يعكسان، بالضرورة، وضعاً مريحاً للسعودية ولحلفائها.

إن الخطورة، ليست في طبيعة الحدث أي إستقالة الحكومة، وإنما بما يجري في الإقليم: فالمشروع الأميركي يتحرك في مناخ مأزوم، ووضع حلفائه من دون أدنى شك، ليس أفضل حالاً؛ ففي الداخل السعودي حملة إعتقالات وإقالات لمعترضين ضمناً على التوريث، وإن أخذ الشعار المُعلن لهذه الحملة طابع محاربة الفساد. وأمّا في المنطقة فالحروب مستمرة بمشاركة قوى محلية وإقليمية فاعلة، وفي المقدمة منها السعودية: في العراق ومحاولة اللعب على وتر الصراع السني/الشيعي، وتشجيع الانفصال الكردي. في سورية من خلال دعم فصائل المعارضة، وأبلغ كلام عن هذا الدور كان لرئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم. في اليمن حيث تغرق بالمجازر والحصار والفشل في تحقيق أي إنجاز يُذكر، بالرغم من الصمت والتواطؤ الدوليين عمّا يحدث هناك، إضافة إلى التحالف الدولي الذي أُنشئ لتنفيذ تلك المهمة من خلال مرتزقة “استُجلبوا” من عدة دول، بينهم للأسف، جيوش عربية (السودان)، وبلاك وتر وغيرها… في فلسطين، ليس ضرورياً الخوض في هذا الموضوع؛ فالإشارات المتبادلة بين الطرفين تكفي لرصد مستوى التنسيق، وأول من سيدفع ثمن هذا التقارب ستكون القضية الفلسطينية. وما يحدث مع قطر وغيرها الكثير.

وبنظرة سريعة على تلك الحالة المحيطة، نرى بأن التحالف الذي تنخرط السعودية في تنفيذه وتقوده الولايات المتحدة الأميركية، هو في مرحلة من التعثر الشديد، في مواجهة محور تقوده روسيا، يضم إيران وسورية وحزب الله. هذا التداعي يدفع القوى المكوّنة للتحالف، إلى إستخدام كل أوراقها الذاتية المرتبطة بالقدرات العسكرية والمالية والاقتصادية، أو الأدوات الموجودة في مناطق الصراع. من هنا نرى هذا “التطرف” في طبيعة المواقف المعلنة، وحتى في إستخدام المفردات والمنطوق بها، والتي لا يستوي معها القول والفعل. فإذا سلمنا بهذا الواقع المرتبط بالتموضع السياسي/المحوري لكلتا الجهتين، وربطناه بالمستجدات الحالية، تصبح مفاعيل أي موقف سياسي يصدر عن أي جهة أو مكّون، أو أي سلوك مرتبط به، هو جزء من تلك المواجهة وذلك الاشتباك، ما يضع كل القوى المعنية، المشاركة إما بالمباشر وإما بالواسطة، أمام تحديات الخيارات الواجب إتخاذها والعمل بها، وفي هذا السياق جاءت قرارات الجامعة العربية الأخيرة، المرفوضة والمدانة، بوصف حزب الله “بالإرهابي”، لتشرّع الوضع الداخلي على إحتمالات عديدة، ليس أقلها، المزيد من التوتر الداخلي وفتح الباب أمام العدوان الخارجي.

 إن المشروع الأميركي في منطقتنا يهدف إلى إستيلاد كيانات تحمل في طبيعتها عوامل تفتيتها، بشكل يحافظ على تفوق الأقوى عسكرياً وإقتصادياً، وأن لا تكون قضاياها جامعة للشعوب، وإنما جاهزة للفرز حسب الطلب ومقتضيات الظروف، خصوصاً وأنّ الطبيعة المذهبية والعرقية والطائفية متمركزة بشدة في منطقتنا، وعملية الخروج من مفاعيلها صعبة، إن لم تكن مستحيلة. فتجارب القرن الماضي المرتبطة بالتحرير والتحرر الوطني لم تنجح في الربط بين التحرير والتغيير، وإنما إتجهت، مرغمة أو عن إقتناع، إلى شكل من أشكال المصالحة بين موجبات بناء الدولة الحديثة المتحررة من الموروثات التقليدية، وبين البرجوازيات المحلية والدين، وهذا تجلى بوضوح عند بعض القوى القومية. في حين أن الأحزاب الماركسية والشيوعية لم تستطع بلورة نهج مستقل، بل إلتحقت بذلك النمط في العديد من الدول العربية، ثم أصبحت خارجه، ولتُقصى وتُعدم في مراحل لاحقة، وتدخل، بالتالي في أزمة وجود وهوية إثر إنهيار الاتحاد السوفياتي، وهنا يمكننا استثناء “تجربة لبنان”، الذي بادر اليسار فيه إلى بناء حركات مقاومة وطنية وعربية في مواجهة مشاريع الانتداب والاحتلال الصهيوني وفي مراحل متعددة،  وتوّجها بإطلاق “جمول” كحالة مقاومة وطنية لبنانية جامعة، لكن لم يصل هذا المشروع إلى مرحلة استثمار التحرير في عملية التغيير الديمقراطي.

هل منطق التاريخ سيُعيد نفسه الآن؟ سؤال يدفعنا إلى رصد وتحليل طبيعة القوى وطبيعة الصراع اليوم، وبالاستناد إلى تاريخ طويل من النضال في المنطقة، بهدف اتخاذ موقف نستطيع من خلاله تبيان مساحة الجغرافية اللازمة للمواجهة.

إن مسألة مواجهة هذا المشروع يجب أن تشكّل أولوية، عند كل القوى الوطنية الحريصة على المنطقة ووحدة بلدانها وشعوبها. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو: من هي هذه القوى وما شكل المواجهة المطلوبة، ووفق أي استراتيجية؟

إن شكل الصراع في المنطقة حالياً واضح المعالم والأهداف والقوى، وقد مررنا على بعض محدداته في ما سبق، لكن يبقى مكوّن غائب عن مسرح الأحداث، وأعني به اليسار، بكل أطيافه، فأين دوره وأين ستكون ساحته؟

إن شعار “المقاومة العربية الشاملة” هو جسم بلا روح وغير قابل للحياة: لا ظروف تشكيله متوافرة، ولا طبيعة قواه محددة ولا أهدافه معروفة. هو، كمن اكتشف فجأة أن لليسار قضيتين، القومية والوطنية، وله تاريخ عريق فيهما، وقدم تضحيات كبيرة ومؤلمة، ووجب عليه قول شيء ما في هذا الصدد، فجاءه الإلهام وابتدع هذا “الشعار”، وكفى المؤمنين شر القتال. فإذا نظرنا إلى واقعنا اليساري العربي نجد، أن لا يسار عربياً قادراً على تحمل تبعات قرار كهذا، ولا القدرة على القيام به، ولا حتى الإمكانية لتحقيقه. فهذا اليسار “المتنوع” في بلاد تمتد من المحيط إلى الخليج، غارق في أوضاعه الداخلية المأزومة؛ الحزبية والقطرية عموماً، وبهذا المعنى لا قدرة ولا امكانية له للتصدي لموجبات هذا الشعار. لكن يبقى الأمل معقوداً على يسار «الطوق”، أي الدول المحيطة بفلسطين، فهل يمتلك الإمكانية للمبادرة في إطلاق مشروع للمواجهة من موقع يساري علماني تقدمي؟ ووفق برنامج  يعبّر عنه بالقول والفعل في هذا الاشتباك؟ هو سؤال استفهامي إشكالي بغرض كشف الإمكانيات، كي نبني على الشيء مقتضاه، وحتى لا نصاب بانفصام في شخصيتنا السياسية المجردة من إمكانية المبادرة، واقتران القول بالفعل وربط البنية بالوظيفة. إن الإجابة لا تحتمل الغوص في ماهية العمل، بل يجب أن تتعداها إلى العمل نفسه ووضعه موضع التنفيذ.

 من هنا نرى ضرورة العمل على توحيد صفوف كل الحريصين من قوى وطنية وقومية وديمقراطية وشعبية، تأسيساً وتشكيلاً لأطر عمل مشتركة، ولتنظيم المواجهة من خلال إطلاق ائتلاف سياسي وطني ديمقراطي علماني مقاوم، حمايةً لمنطقتنا من العدوان الأميركي-الصهيوني-الرجعي العربي وتصدياً له، وصوناً لوحدة دول المنطقة وشعوبها. ائتلافٌ يجب أن يستمر، ويتطور كمشروع بديل عن النظم السياسية القائمة، ويكون قادراً على خوض معركتَيْ المواجهة والتحرر من التبعية السياسية والاقتصادية لدول العدوان المستمر، وتأسيساً لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية، من خلال التصدي للسلوك الذي تنتهجه المنظومات الحاكمة، والتمسّك بموقف جذري من مسألة تغيير أسس النظم السياسية، وتحرير القرار الوطني من التبعية، وطرح ملفات الإصلاح السياسي والقضايا الاقتصادية – الاجتماعية كي تشكّل العناوين الأساسية للصراع وللفرز السياسي والاجتماعي في بلداننا. هي ضرورة موضوعية وحتمية للتقدم على طريق التغيير الديمقراطي، وإسقاط كل المشاريع الرجعية والتقسيمية. لكن هل نملك الجرأة بالمبادرة لطرح تلك الرؤيا أمام كل القوى التي نتقاسم معها الجغرافية السياسية؟ سؤال تنبع أهميته من طبيعته؛ النظر إلى طبيعة قوى العدوان وأهدافها، وطبيعة قوى المواجهة ونيّاتها، ولكي لا يعيد التاريخ نفسه بشكل مأسوي، فليكن الموقع والمشروع الخاص لليسار واضحاً للجميع، أما إمكانية التفهم والتفاهم مع الآخرين، فيمكنها أن تكون محطة ظرفية وموضوعية تفرضها شروط المواجهة ومستلزماتها… فهل اليسار وقواه جاهزة لهذا الخيار؟

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة.