الاذاعات العربية في فلسطين زمن الانتداب / تميم منصور
تميم منصور( الثلاثاء 28/11/2017 م …
هنا القدس (1)
وصل زعماء الحركة الوطنية الفلسطينية أثناء ثورة البراق وبعدها ، إلى قناعة بأن سلطات الانتداب البريطاني تتحيز في سياستها لصالح العصابات الصهيونية ، ففي أثناء الثورة التي اندلعت عام 1929 وعرفت بثورة البراق ، والمواجهات العنيفة التي تخللتها ، ظهر تحيز القوات البريطانية في تعاملها مع الطرفين العرب واليهود ، ولم تكن محايدة كما كانت تدعي.
هذا التحيز جعلها عرضة لهجمات رجال المقاومة الفلسطينيين ، كما أسقط الفلسطينيون من أوهامهم بأن بريطانيا محايدة وغير متحيزة ، فقد امتنعوا عن مواجهة قواتها حتى نشوب ثورة البراق، هذا التحول جاء بعد أن لمسوا وشاهدوا كيف تعاملت القوات البريطانية مع المحتجين العرب بيد من حديد ، فكانت تطلق النار عليهم دون تردد ، فقتل المئات من بينهم اضافة الى حوالي ثلاثة آلاف تم اعتقالهم ومعاملتهم بقسوة .
شعر العرب بهذا التحيز والمعاملة العنصرية ، أيضاً أثناء المحاكمات ، فكانت الاحكام الصادرة ضد أفراد العصابات الصهيونية ، الذين شاركوا بالمواجهات وقاموا بالاعتداء على المواطنين العرب ، مخففة للغاية ، لأن كثير من القضاة ورجال الشرطة ، كانوا من اليهود البريطانيين ، كان هذا التحيز تطبيقاً للبنود التي وردت في صك الانتداب ، خاصة البند الرابع الذي يشير الى نية بريطانيا القاطعة باقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
الاحكام التي صدرت بحق المعتقلين العرب من المناضلين ، كانت شديدة ومفرطة من شدة العقوبات التي لم تكن على مقاس التهم ، صدرت أيضاً بحق عدداً من المتهمين العرب بإعمال العنف أحكام الاعدام ، وتم اعدام أول كوكبة من المقاومين الفلسطينيين في سجن عكا ، وهم فؤاد حجازي من صفد ومحمد جمجوم وعطا الزير من مدينة الخليل ، وقد تحولوا الى رموز وقامات وطنية وخالدين في ذاكرة شعبنا .
بعد اخماد فتيل هذه الثورة ، كانت لها تبعات كثيرة ، أهمها تدفق موجات من الهجرة اليهودية الى فلسطين ، خاصة بعد صعود النازية الى الحكم في المانيا عام 1933 ، في هذه الفترة دخل الى البلاد بطرق شرعية وغير شرعية حوالي 60 الف يهودي في سنة واحدة .
تعاونت سلطات الانتداب مع الوكالة اليهودية في تدفق اعداد هائلة من المهاجرين أدى الى تردي الحالة الاقتصادية في البلاد ، خاصة في المدن والقرى العربية ، اضافة الى ذلك اصدرت سلطات الانتداب قوانين صارمة ، جميعها كانت تستهدف المواطنين العرب ، هذه الاسباب وغيرها زادت من حالة الاحتقان بين المواطنين الفلسطينيين ، فاشتدت المواجهات وزادت هجمات المقاومين الفلسطينيين ضد المستعمرات اليهودية ، وضد القوات البريطانية التي كانت تدافع عن هذه المستعمرات .
شعرت بريطانيا بان البلاد تقف على فوهة بركان ، أثر بداية ثورة القسام عام 1935 ، في ظل الأجواء الملتهبة ، قررت سلطات الانتداب أن تعمل كل ما بوسعها لتخفيف درجات الاحتقان في نفوس ومشاعر الفلسطينيين ، فقررت انشاء محطة الاذاعة الفلسطينية في شهر نيسان ” ابريل ” سنة 1936 ، رغبة منها بتهدئة الخواطر ، وابعاد الجماهير المناضلة ، الثائرة عن اهدافها الرئيسية وهي ، ايقاف عملية بيع الاراضي ، منع الهجرة ، والحفاظ على عروبة فلسطين .
يذكر خليل السكاكيني في مذكراته ، أنه من بين الاسباب التي دفعت سلطات الانتداب لاقامة محطة للاذاعة ، شعور بريطانيا بكره العرب الفلسطينيين لها ، وميلهم لبطل الساعة في ذلك الوقت ، ادولف هنلر ، من منطلق أن ” العور أفضل من العمى” .
كانت بريطانيا تأمل أن تستخدم الاذاعة ، كأداة للدعاية تدافع عبر موجاتها عن سياستها ، وانه بمقدورها الاستمرار بخداع الفلسطينيين ، واعتقدت كما يذكر اكرم زعيتر في مذكراته ، انها تستطيع عبر موجات هذه الاذاعة بناء جسور التوافق بين العرب واليهود ، وانها سوف تستغل هذه الاذاعة بإقناع العرب بأن اليهود لا ينوون الاساءة لعرب فلسطين .
تم تأسيس الاذاعة ، وكانت الاذاعة العربية الأولى في البلاد ، وقد خصص لها غرفتين من غرف فندق ( بالاس ) في شارع مأمن الله في مدينة القدس ، وفي أوائل الحرب العالمية الثانية ، أي سنة 1939 ، انتقلت الاذاعة الى دار كبيرة ، كانت تحوي تسع غرف للاذاعة ، وخمس غرف للاعمال الهندسية ، وكانت مدة البرنامج اليومي عند بداية ارسالها عشر ساعات ونصف .
جرى حفل افتتاح دار الاذاعة الفلسطينية في مقرها القديم ، بدعوة من الحكومة البريطانية يوم 30 / 3 / 1936 ، وقد حضر الحفل عدد كبير من وجهاء وأعيان القدس ، وباقي المدن الفلسطينية ، وعدد من كبار الفنانين والموسيقيين العرب ، بالاضافة الى عدد من كبار الموظفين البريطانيين ، وكان أول صوت عربي يصدح في هذه الاذاعة عبر الأثير ، هو صوت شاعر فلسطين ابراهيم طوقان 1905- 1941 ، ثم قدم الفنان المصري الشيخ امين حسنين وفرقته بعض المنولوجات والحواريات ، ثم جاء دور الموسيقي السوري محمد عبد الكريم ، الشهير بأمير البزق ، ومما يذكره الموسيقار المؤرخ وعازف العود واصف جوهرية 1897 – 1973 في الجزء الثاني من مذكراته ( القدس الاحتلالية في المذكرات الجوهرية ) أن حفل الافتتاح ضم الكثير من هواة الفن ، من أمثال ابراهيم عبد العال ، محمد عطية ، اسكندر الفلاس ، يحيى السعودي ، فهد النجار ، ميلاد فرح ، توفيق جوهرية ، وارتين سانتورجي ، ومحمد عبد الكريم امير البزق ، مشيراً الى أن الموسيقار يحيى اللبابيدي ، الذي أعطى فريد الأطرش لحن اغنية ( يا ريتني طير وأطير حواليك ) هو أول من ترأس القسم الفني العربي في الأذاعة .
كانت مدة البرنامج اليومي عند بداية ارسال الاذاعة ، عشر ساعات ونصف ، مقسمة كما يلي ، أربع ساعات ونصف باللغة العربية. ثلاث ساعات ونصف باللغة العبرية ، وساعتان ونصف باللغة الانجلينية
قدر عدد اجهزة الراديو في البلاد عند افتتاح محطة ( هنا القدس ) ما يقرب من الواحد والعشرين الفاً ، وكانت قوة المحطة 20 كيلو واط وتبث على 8،449 متراً ، بما يساوي 668 كيلو سيكل .
تسلم ادارة القسم العربي في اذاعة ” هنا القدس ” ثلاث شخصيات معروفة ، هم ابراهيم طوفان ، الشاعر المعروف وشقيق الشاعرة فدوى طوقان ، خلفه الشخصية اللبنانية المعروفة عجاج نويهض ، محرر مجلة العربي التي كانت تصدر في القدس ، وعزمي النشاشيبي أول من حصل على دبلوم الصحافة في انجلترا ، وساهم في تحرير جريدة فلسطين باللغة الانجليزية ، ومن بين الذين ساهموا في تطوير القسم العربي في اذاعة ” هنا القدس ” ، سعيد العيسى ، موسى الدجاني ، عبد الكريم الكرمي ” أبو سلمى ” وخليل السكاكيني ، عصام حماد ، محمد أديب العامري ، راجي صهيون ، عبد الحميد ياسين .
يتبع
التعليقات مغلقة.