من كاترين الثانية إلى بوتين / تيري ميسان
تيري ميسان ( السبت ) 2/12/2017 م …
لبناء روسيا الحديثة، قررت القيصر كاترين الثانية جعل عاصمة إمبراطوريتها، سانت بطرسبرغ، أول مركز إشعاع ثقافي على مستوى العالم، فوطدت جذور بلادها مع عمقها الثقافي المسيحي الأرثوذوكسي، ودعمت استخدام اللغة الفرنسية على نطاق واسع، واستضافت في بلاطها كبار المثقفين والفنانين الأوروبيين، بغض النظر عن دياناتهم، سواء كانوا كاثوليك وبروتستانت، أم مسلمين.
وإدراكا منها لما يمكن أن يمثله تراجع المسيحية في الشرق الأوسط من خسارة ثقافية للأرثوذوكسية في مواجهة ثقافة التعصب السائدة في الإمبراطورية العثمانية، دخلت الحرب ضد السلطان العثماني، فضمت شبه جزيرة القرم، وحولت البحر الأسود إلى بحر أرثوذوكسي، وشرعت بتحرير «سورية الكبرى» بالاستيلاء على بيروت، ثم أعلنت جملتها الشهيرة أن «سورية الكبرى» هي مفتاح البيت الروسي.
هذا الحلم الروسي، رفضه الفرنسيون والبريطانيون خلال حرب القرم عام 1853، بل أكثر من ذلك عبر الخيانة الداخلية للبلاشفة، الذين لعبوا في عام 1918 لعبة مصطفى كمال أتاتورك، نيابة عن تاجر الأسلحة ألكسندر بارفوس، ممول لينين، بعد أن كان على حلم كاترين الكبرى أن ينتظر حتى عام 1720 ليتلمس بدايات تحققه.
الرئيس فلاديمير بوتين قام أيضا بضم القرم، وتحرير سورية، لكن ليس من الإمبراطورية العثمانية هذه المرة، بل من براثن جهاديين يقودهم الفرنسيون والبريطانيون والأميركيون.
وهكذا أصبحت روسيا في وقتنا الحالي القوة التي تحمي جميع الشعوب الواقعة بين ضفاف النيل، وجبال البروز، وأرست قمة سوتشي دعائم دور روسيا في الشرق الأوسط الموسع، فصارت من الآن فصاعدا، القوة الحامية لكل من إيران وتركيا وسورية.
وسيكون للصحوة الأرثوذكسية ارتدادات بالغة الأهمية لاحقا في أوروبا، فالقارة منقسمة تاريخيا إلى منطقتين، كاثوليكية وبروتستانتية في الغرب، وأرثوذكسية في الشرق.
يتحاورون فيما بينهم، ويمشون مع الرب في الغرب، بينما يطيع نظراؤهم عظمة الله ويعبدونه في الشرق.
البنى العائلية أكثر ظلما في الغرب، منها في الشرق، لقد أدى هذا الاختلاف الثقافي منذ القرن الحادي عشر إلى انقسام أوروبا، لكن «الستار الحديدي» لم يحترم ذلك الانقسام تماما، حين ربط اليونان الأرثوذكسية بحلف الناتو، وبولندا الكاثوليكية بحلف وارسو.
يهدف تمدد الاتحاد الأوروبي في المقام الأول، إلى فرض النموذج الغربي الأوروبي على البلدان ذات الثقافة الأرثوذكسية، لكنه صار بوسعنا أن نتوقع منذ الآن انحلال الاتحاد الأوروبي، وانتصار النموذج الثقافي المنفتح لسانت بطرسبرغ.
المسيحيون الشرقيون لم يعيروا الاختلافات الثقافية داخل أوروبا أي اهتمام، على حين كان ينظر إليها الأوروبيون الغربيون دائما على أنها إما كاثوليك أو أرثوذوكس، وبحلول عام 1848، كانت فرنسا تتصور ترحيل الكاثوليك والموارنة السوريين إلى الجزائر، وإبادة الأرثوذكس.
فيما يخص سورية، فإن ما يقوم به الرئيس بوتين، هو فرصة للعودة إلى خصوصية أساسياته بعد تجربة الجهاديين الذين كانوا يريدون فرض نموذجهم الثقافي الفريد على الجميع: سورية لا تكون عظيمة إلا حين تعنى من دون استثناء، بجميع فئات شعبها.
في البداية، فكر بوتين بتنظيم مؤتمر لـ«الشعوب السورية» في سوتشي، لكنه أقر أخيراً بأنه في سورية، خلافا لما هو في روسيا، لا يوجد مجتمعات محلية تقيم على جزء من الأرض السورية، وأنهم يعيشون جميعا بشكل مختلط في وطن واحد، ومن هنا صار مؤتمرا للحوار الوطني السوري.
التعليقات مغلقة.